في 13 مايو/ أيار الجاري، ترجَّل حاكم أبوظبي ورئيس الإمارات والقائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان عن حكم البلاد عن عمر يناهز 74 عامًا، بعد أن قاد هذا البلد الخليجي لمدة 18 عامًا، وأعلنت رئاسة الدولة الحداد 40 يومًا مع تنكيس الأعلام وتعطيل العمل بالوزارات والدوائر والمؤسسات الاتحادية والمحلية والقطاع الخاص 3 أيام، وسارع زعماء المنطقة والعالم إلى إرسال التعازي.
في اليوم التالي لتشييع جنازة الشيخ خليفة، سارت عملية انتقال السلطة بشكل سريع ومفاجئ لم يتوقّعه أحد، فبدل أن يتسلم نائب الرئيس وولي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد مقاليد الحكم لحين انتخاب المجلس الأعلى رئيسًا جديدًا طبقًا للدستور، خلفه على الفور على رأس الدولة الإماراتية أخوه غير الشقيق الأكبر، محمد بن زايد، حيث اختاره بالإجماع الحكّام الستة الآخرون (المجلس الأعلى الاتحادي) لولاية مدّتها 5 سنوات كرئيس للاتحاد، ليصبح حاكمًا للدولة الغنية بالنفط التي أسّسها والده عام 1971، وحاكمًا لإمارة أبوظبي التي شغل سابقًا منصب ولي عهدها منذ عام 2004.
مع تربُّع الشيخ محمد بن زايد على عرش الإمارات، انهالت التساؤلات عن خليفته في ولاية عهد أبوظبي، والكيفية التي سيتمُّ اختياره بها، خاصة أن الدستور الإماراتي لا ينصّ على آلية معيّنة لاختيار ولي الرئيس القادم، ولهذا يفتح عدم وجود قاعدة صارمة بشأن الخلافة باب التكهُّنات حول ما إذا كان خليفته الشيخ محمد سوف يخالف التقاليد ويختار ابنه بدل أحد إخوته كوليٍّ للعهد.
التربُّع على العرش
وُلد الشيخ خليفة عام 1948، وكان أكبر أبناء الشيخ زايد من الذكور، وأصبح رئيس وزراء أبوظبي عام 1969، قبل عامَين من حصول الإمارات على استقلالها، وتولّى منصب الرئيس الثاني للدولة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004 عندما خلف والده، باعتباره الحاكم الـ 16 لإماراة أبوظبي، أغنى وكبرى الإمارات السبع، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، خلفًا لوالده الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسِّس دولة الإمارات.
هناك بعض التوقعات بأن إمارة أبوظبي ستتمتّع بسلطة سياسية مركزية متزايدة مع تولي محمد بن زايد مقاليد السلطة مؤخرًا
بعد إصابة الشيخ خليفة بجلطة دماغية في يناير/ كانون الثاني 2014، تولى القيادة شقيقه محمد بن زايد، الذي أصبح ولي عهد أبوظبي قبل عقدَين من الزمن، ومنذ ذلك الحين تراجعَ حضوره في المجال العام كرئيس للدولة رغم استمراره في إصدار المراسيم، وتوزّعت مهامه الرئيسية بين أخيه محمد بن زايد ومحمد بن راشد، حاكم دبي وولي عهد الإمارات.
على مدى السنوات الماضية، أصبح الشيخ محمد بن زايد صانع القرار في إمارة أبوظبي، إحدى الإمارات السبع التي تتمتّع إلى حدٍّ كبير بالنفوذ السياسي والاقتصادي، وسيطر من خلالها على مقاليد السلطة في الدولة الخليجية التي تمتلك رابع أغنى صندوق للثروة السيادية في العالم (صندوق جهاز أبوظبي للاستثمار)، وحوالي 6% من الاحتياطيات المؤكدة من النفط الخام.
عندما أصبح ابن زايد تدريجيًّا الحاكم الفعلي للبلاد، سعى لرسم صورة للإمارات باعتبارها “واحة ليبرالية اجتماعية” ومؤيدة للأعمال التجارية، كما استفاد بشكل متزايد من الثروة النفطية في إعادة هيكلة عمليات الحكومة المحلية وإطلاق برامج التنويع الاقتصادي، استعدادًا لحقبة ما بعد النفط.
في المقابل، تقول وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية إن ابن زايد قمعَ المعارضة الداخلية، وحرص على تغطية الدولة بمراقبة عالية التقنية على المستوى المحلي، أما خارجيًّا فقد أثّرَ في التغيير السياسي في السودان ودول أخرى، وتدخّلَ في النزاعات الإقليمية من ليبيا واليمن إلى مصر وتونس لمنع الإسلام السياسي من ترسيخ مكاسبه بعد ثورات الربيع العربي، رغم قلة عدد المواطنين الإماراتيين، فمن بين 10 ملايين نسمة هناك حوالي 1.2 مليون مواطن إماراتي والبقية عمّال أجانب.
نحو مزيد من المركزية
اليوم يضفي المنصب الجديد لمحمد بن زايد كرئيس وحاكم للبلاد الطابع الرسمي على صعود أمير يبلغ من العمر 61 عامًا، كان قد استخدم ببراعة ثروة بلاده النفطية ليصبح أحد القادة الأكثر نفوذًا في العالم العربي، وشريكًا وثيقًا للولايات المتحدة.
ومع ذلك يرى محلّلون أنه من غير المتوقع حدوث أي تغييرات كبيرة في الحوكمة اليومية أو تحولات رئيسية في السياسة الخارجية التي يقودها الشيخ محمد بن زايد، نظرًا إلى أنه كان في الأساس الحاكم الفعلي للبلاد منذ عام 2014، إن لم يكن قبل ذلك.
ليس من المتوقع أيضًا أن تؤدي الخلافة في الدولة العضو في “أوبك” إلى أي تحول كبير في اتجاه السياسة العامة للدولة، بما في ذلك النفط، لكنها تمثّل -بحسب “بلومبيرغ“- حقبة جديدة للإمارات ومكانة أعلى للشيخ محمد بن زايد، الذي اعتاد استخدام نفوذه بشكل متكرر للتدخُّل في النزاعات الإقليمية، واستفاد من سنوات الدبلوماسية السابقة في اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم “اتفاقيات إبراهيم” مع “إسرائيل” ودول عربية برعاية الولايات المتحدة.
في حين يطمح بعض إخوة محمد بن زايد لولاية العهد، ربما كان الرئيس الجديد يهيِّئ أحد أبنائه لتولي مناصب قوية في الدولة
في المقابل، هناك بعض التوقعات بأن إمارة أبوظبي ستتمتّع بسلطة سياسية مركزية متزايدة مع تولي محمد بن زايد مقاليد السلطة مؤخرًا، وهو الاتجاه السائد بالفعل منذ عام 2014 على الأقل، ويعني ذلك في النهاية -بحسب محللين– تركيز المزيد من مركزية السلطة في يد بني فاطمة (الأبناء الستة لفاطمة بنت مبارك الكتبي، الزوجة الثالثة للشيخ زايد، والمعروفة باسم “أمّ الإمارات”)، بدلًا من تقسيمها من خلال النظام الفيدرالي.
ومع احتكار أبوظبي لجميع مجالات السلطة في البلاد، منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن ثقلها غير المتناسب داخل الإمارات السبع يجعل تصويت المجلس الأعلى الاتحادي بالإجماع لمحمد بن زايد مجرّد إجراء شكلي، كما يقول أندرياس كريج، الأستاذ المساعد في كلية الدراسات الأمنية في كينجز كوليدج لندن.
مع انتقال آل نهيان الآن من مجرد كونهم العائلة المالكة في أبوظبي إلى العائلة المالكة في الإمارات، سيكون العنصر الأكثر إثارة للدهشة هو كيفية البتّ في مسألة الخلافة (ولاية العهد) داخل العائلة المالكة، ففي حين يطمح بعض إخوة محمد بن زايد لولاية العهد، ربما كان الرئيس الجديد يهيِّئ أحد أبنائه لتولي مناصب قوية في الدولة.
من سيخلف محمد بن زايد؟
مهّد الشيخ زايد بن سلطان الطريق لانتقال السلطة بعد وفاته، فعندما تولّى محمد بن زايد ولاية عهد أبوظبي، لم يجرِ اختياره من قبل الشيخ خليفة، وبدلًا من ذلك عُيِّن نائبًا لولي العهد من قبل والدهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس المؤسِّس لدولة الإمارات، في عام 2003، ثم أصبح وليًّا للعهد بعد عام عندما توفي زايد وخلفَه خليفة كرئيس، إلا أنه لم يحدِّد قبل وفاته من سيشغل منصب ولي عهد أبوظبي خلفًا لمحمد بن زايد.
يشير اختيار ولي العهد أو الوريث الشرعي للحكم عمومًا إلى الاستقرار في تلك الإمارة الغنية بالنفط التي تقود النظام في الإمارات خصوصًا، ومنطقة الخليج عمومًا، لهذا السبب سيكون اختيار ولي العهد الجديد أمرًا بالغ الأهمية، لأن اختيار ابن زايد أحد أفراد أسرته الداخلية قد يؤدّي إلى مزيد من المركزية وإلغاء الفيدرالية في دولة الإمارات، والتي استمرت لعقد من الزمان.
لكن خبراء يرون أن صنَّاع القرار في دولة الإمارات ليسوا في عجلة من أمرهم لاختيار ولي للعهد، ومن المؤكد -بحسب قولهم- أن العائلات الحاكمة في الإمارات السبع تجري مناقشات حول هذا التعيين وتفكِّر في بعض الخيارات، لكنها لم تقرر بعد من سيحلُّ محلَّ محمد بن زايد.
عن طريق اختيار خالد، يمكن لمحمد بن زايد أن يؤسِّس لسلالته الخاصة بعيدًا عن إخوته كما يقول كير
في النهاية، يتعيّن على حاكم الإمارات الجديد أن يقرر ما إذا كان سيختار -في منصبه السابق كولي عهد لإمارة أبوظبي- أحد أشقائه الخمسة (المعروفين مجتمعين باسم بني فاطمة) أو أحد إخوته غير الأشقاء على الأرجح، أو يمكن أن يعيّن أحد أبنائه الأربعة، خالد وذياب وحمدان وزايد.
قبل عقدَين من الزمان، أوصى مؤسِّس دولة الإمارات الشيخ زايد أن الخلافة يجب أن تمرَّ من خلال أبنائه، البالغ عددهم 19 من الذكور (تُوفي أكبرهم الشيخ خليفة والشيخ سلطان)، لكن الكثيرين يتوقعون أن يختار محمد بن زايد أحد أبنائه، ففي مقال بصحيفة “فاينينشال تايمز” البريطانية، يرى الكاتب سيمون كير أن “صُغر سنهم سيجعلهم خيارًا أكثر ترجيحًا من إخوته”.
أول هؤلاء الأبناء وأكبرهم سنًّا هو خالد بن محمد بن زايد البالغ من العمر 40 عامًا، والذي تدور التكهُّنات حول توليه الخلافة، فقد نمت مسؤولياته في السنوات الأخيرة، وخرج إلى عالم السياسة، بما في ذلك الإشراف على وكالة تنفيذية قوية في أبوظبي، وتولى مناصب حكومية رفيعة المستوى، آخرها نائب مستشار الأمن الوطني ورئيس جهاز أمن الدولة خلفًا للشيخ هزاع بن زايد.
عن طريق اختيار خالد، يمكن لمحمد بن زايد أن يؤسِّس لسلالته الخاصة بعيدًا عن إخوته كما يقول كير، وينقل عن الباحثة الإيطالية المتخصصة في شؤون الخليج بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سينزيا بيانكو، قولها إن هذا -إن حدث- “سيكون خروجًا كبيرًا عن ديناميكيات القوة التقليدية في الإمارات، وتحولًا مهمًّا نحو المركزية المفرطة للسلطة في أيدي أفراد الأسرة الداخلية لمحمد بن زايد”.
من ناحية أخرى، قد يكمن الحل الوسط في اختيار ولي العهد بحكم الأمر الواقع كما حدث مع محمد بن زايد نفسه، في هذه الحالة يكون شقيق محمد بن زايد ومستشار الأمن القومي المؤثر طحنون بن زايد المرشح الأكثر وضوحًا والمنافس الأول والأكثر احتمالاً لخالد، فكلاهما من الرجال ذوي النفوذ في أبوظبي، ويمكنهم الوصول إلى الشبكات الحيوية في الإمارات.
لكن طحنون مقارنة بابن أخيه خالد يدير مناصب رئيسية في الحكومة، منها رئاسة الدائرة الخاصة لرئيس الدولة، ومنصب رئيس مجلس إدارة هيئة طيران الرئاسة، ونائب مستشار الأمن الوطني عام 2013، كما يشرف على ركائز اقتصاد أبوظبي.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، يثق الشيخ محمد بأخيه البالغ من العمر 51 عامًا للتعامل مع القضايا الأكثر حساسية وتحديًا في البلاد، مثل ملفَّي اليمن وإيران، فضلًا عن الأمن والاستخبارات، والتعاون مع الولايات المتحدة وروسيا، كما كان في طليعة معركة الدولة الخليجية ضد فيروس كورونا.
هذه المؤهِّلات تجعل لطحنون -إلى جانب خالد- النصيب الأكبر لولاية العهد، لكن الأمر لا يخلو من المنافسة، إذ يكشف الأستاذ المساعد في كلية الدراسات الأمنية في كينجز كوليدج لندن، أندرياس كريج، لموقع “الجزيرة” أن “هناك قدرًا كبيرًا من الصراع الداخلي في أبوظبي بينهما لأكثر من عام، حيث يحاول طحنون الحصول على مزيد من النفوذ، ويبدو أنه الخيار الأكثر احتمالًا، بالنظر إلى قوته وشبكاته الخاصة في أبوظبي، ليصبح ولي عهد أبوظبي المقبل”.
إذا افترضنا -بحسب كريج- أن الرئيس الجديد محمد بن زايد يمكن أن يحكم لمدة عقدَين آخرَين على الأقل، من دون حدوث اعتلال في الصحة أو أي شيء غير متوقع، سيكون طحنون في ذلك الوقت أيضًا متقدمًا في السن (70 عامًا)، لذلك هناك خيار واضح لتهيئة خالد، الأصغر من طحنون بـ 10 سنوات، ليصبح ولي العهد القادم أو أن يصبح الحاكم التالي لأبوظبي والإمارات في غضون 20 عامًا.
وإذا اختار محمد بن زايد اتّباع التقاليد العائلية واختار أحد إخوته، يبرز هنا شقيق آخر للرئيس الجديد، هو الشيخ منصور بن زايد، نائب رئيس الوزراء ومالك نادي مانشستر سيتي لكرة القدم، المعروف بمصالحه التجارية الواسعة، لكنه ارتبط بفضيحة مالية، أبرزها احتيال صندوق التنمية السيادي (1MDB)، كما ارتبط اسمه مؤخرًا بإدارة العلاقات مع الأثرياء الروس الذين يتطلّعون إلى نقل الأموال إلى الإمارات بالتزامن مع الغزو الروسي على أوكرانيا.
ومن بين الإخوة الآخرين المحتملين لولاية العهد، الشيخ هزاع الابن الخامس للشيخ زايد، تولّى منصب ولي العهد قبل عقد من الزمن، ويتوقع البعض أن يكون ثالث أبناء بني فاطمة من مواليد 1965، خليفة محمد بن زايد، ويُقال إنه قريب بشكل خاص من محمد بن زايد، ويشغل حاليًّا منصب نائب رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي ورئيس مجلس إدارة هيئة الإمارات للهوية ومستشار الأمن الوطني، فمن سيحل محل محمد بن زايد ليكون ولي العهد القادم لأبوظبي؟