على مدار التاريخ السينمائي، امتدَّ الموروث الشعبي الإنساني إلى الوسيط الإبداعي السينمائي في مناسبات كثيرة وبأشكال مختلفة، ليتحوّل مع الوقت إلى جزء رصين من السينما، مساهمًا في العملية الإبداعية قدر مساهمته في الألوان الأخرى من الفنون مثل الأدب والموسيقى.
ومع مرور الزمن يثبّت حضوره ويرسِّخ وجوده بأشكال وأنماط تتوافق مع رؤى وثقافات جديدة وطازجة، من خلال تحريك الراكد والتقليدي وإثارة إشكالات جديدة من خلال القديم والمتوارَث، سواء عن طريق التناول العصري أو التركيز على جانب معيّن من الحكاية واستحداث البنية البصرية الخاصة به.
بعد أكثر من عامَين، يعود المخرج الأمريكي الواعد روبرت إيغرز إلى الساحة مجددًا، بعد تجربتَين مهمتَين في “الساحرة” عام 2015 و”الفنار” عام 2019، وكلاهما ينتمي إلى النوعية التي تعزز القيمة الجمالية في الطرح، وتحاوط السردية بطبقات من الرمزية والإشارات والإحالات، ليتحول المنتج البصري إلى تجربة ثرية.
ولكنه هذه المرة يعمل بمعايير مختلفة تندرج تحت النوعية التجارية، لذا التجربة ذاتها تستهدف -إلى حد معيّن- جمهورًا مختلفًا، في مساحة مختلفة تتطلب منهجية معيّنة للتعاطي مع الأدوات السينمائية التي يملكها إيغرز.
لهذه الأسباب يبدو فيلم “الشمالي” (The Northman) مختلفًا كثيرًا عن التجربتَين السابقتَين، رغم أن كليهما يستندان إلى الموروث الشعبي لهيكلة القصة وصنع إطارها الرئيسي، بيد أن الأمر يختلف بالنسبة إلى فيلم “الشمالي”، فهو يؤسِّس عالمه على هذا الموروث، فهو المبتدأ والمنتهى.
لا يكتفي إيغرز في فيلمه الأخير بهيكلة القصة في إطار الموروث الشعبي النوردي، ولكنه يجعل وجوده جوهريًّا، خصوصًا مع اختياره لحقبة الفايكنغ كمساحة لقصته، ما يحتّم وجوده كضرورة، عكس الفيلمَين السابقَين، حيث فيلمه “الفنار” يتبدّى نموذجًا مختلفًا داخل نوعية الرعب النفسي، محمّلًا بالرمزيات والإحالات، وفيلمه “الساحرة” يسير بمحاذاة النزعة الغرائبية تبعًا لنوعيته وتصنيفه كفيلم رعب.
إنما فيلم “الشمالي” ينغمس في الأسطورة والموروث حدّ الأذنَين، يغور في صلب القصة ويتعشّق في جذورها، لتحضر في تفاصيل كثيرة، وتستحضر معها حقبة كاملة بتفاصيلها الدقيقة والثرية، ليخرج إيغرز بهذا الفيلم من نوعية الرعب إلى مساحة الدراما التاريخية، بيد أنه لا يبتعدُ كثيرًا عن نوعيته المفضّلة: الرعب، بل يقوم بما يمكن تسميه إزاحة للنوعيات، ويدمج في فيلمه أكثر من نوع، الرعب الدامي والتقطيع، والدراما الانتقامية، والفيلم التاريخي، نضيف إليهم الأساس الأدبي.
مرجعية القصة
تدور القصة حول الصبي أمليث (الطفل أوسكار نوفاك) الذي يشهد مقتل أبيه الملك أورفانديل وكنيته غراب المعارك (الممثل إيثان هوك) على يد عمّه فيولنير (الممثل كلايس بانج)، ليسلب الحكم عنوة ويتّخذ من أمّه الملكة جودرون (الممثلة نيكول كيدمان) زوجة له، فيفرّ أملث هاربًا ويعزم على العودة والانتقام من عمّه، ليرجع مرة أخرى شابًّا فتيًّا (الممثل ألكسندر سكارسجارد) ويخطط لتنفيذ انتقامه.
من الوهلة الأولى نلاحظ التشابه الكبير بين قصة الفيلم ومسرحية شكسبير الشهيرة “هاملت”، ولكن في الحقيقة يستند سيناريو الفيلم على روايتَين، الأولى هي مسرحية شكسبير المذكورة سابقًا، والثانية هي أقصوصة شعبية من الأساطير الإسكندنافية ألهمَت شكسبير ذاته لكتابة “هاملت”، إنها أسطورة أملث (Amleth) المشهورة، وهي قريبة من مروية إيغرز في الفيلم، ولكنها ليست نفسها، ولا مروية شكسبير هي نفسها أملث، بل هناك عدة اختلافات جوهرية تظهر في مسارات الخطوط السردية، خصوصًا لدى نسخة إيغرز الذي يمنح بعض الأجزاء مساحة أكبر، ويحذف أجزاء أخرى بشكل كلّي، ليصنع منتجًا بصريًّا يسير بمحاذاة الأقصوصة الأصلية ولكنه لا ينسخها.
يحاول إيغرز تطوير مرويته عبر إغراقها في سردية خوارقية، ويضفّر تلك السردية بحضور ظواهر خارقة مثل العرّافين والموتى الأحياء، وبهذه العلامات يضيف طبقات من الرمزيات، خصوصًا رمزية السيف التي تشغل فراغًا كبيرًا في القصة، بما تصنعه من إحالات للقوّة بكافة أنواعها، المقدرة الإلهية الماورائية، والقوة الإنسانية الفانية، فالسيف أداة المقاتل، وهذا النوع من المجتمعات يتعاطى مع المقاتل بشكل مختلف، ولكن على الناحية الأخرى لم يُضِف إيغرز بُعدًا دراميًّا للقصة، واكتفى بإرادة الانتقام المطلق لتقود الحكاية.
أملث والشخصية المبتورة
يقع فيلم “الشمالي” في التفاصيل والمفارقات الجوهرية بين مسرحية شكسبير ورؤية إيغرز للقصة الأصلية، فيعمل على إزاحة تشعُّبات الدراما في سبيل رصد الطقوس الماورائية التي ترتبط بالميثولوجيا النوردية كجزء أساسي من القصة، بجانب اهتمامه بتصوير عدة جوانب شعبية تاريخية كدلالة وتشريح للحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى المعارك والقتالات الفردية والجماعية، أي أنه يكثّف مجهوده في شحذ ورسم الأرضية التاريخية والمكانية ويطوّعها لمسلك رواية الحكاية.
على الجانب الآخر، اكتفى إيغرز بزخم الانتقام ليدفع قصته بشكل خطّي نحو الأمام، لم يحاول أن يحيّد الشعور أو يقلب الطاولة، بل خلق دراما مباشرة على مستوى الشخصيات، دراما أحادية المنظور، تتحرك من باعث معروف منذ البداية.
ولكنه كما قلنا سابقًا يرصد حقبة كاملة ويغذّي سرديته بخفقات سردية غيبية، تعتمد على تعاطي البطل مع اللاهوت النوردي، ولا تتوقف عند المخيال البشري، بل يتحقق أثرها بعلامات وإشارات وأدوات مثل السيف الذي يخوض البطل مغامرة ما ورائية لحيازته، ويتحدى روحًا من العالم الآخر.
هذا إلى جانب صيغة النبوءة المشهورة التي يعتمد عليها الفيلم، لذلك تبدو الشخصيات رغم حضورها الجسدي الوهّاج كبنية مادية بحتة، صحيح أن إيغرز اعتمد على الوجود الروحي من خلال توفير الصبغة الدينية بما يصاحبها من شعائر، ولكن هذا لم يكن كافيًا ليجعل شخصية أملث تتجاوز ظهورها المادي، وتتعدى نقطة الانتقام، أو حتى يترك مساحة لتطوير خط سردي موازٍ يمكن أن يفيد القصة.
وربما هذا الجزء الأضعف في الحكاية، فالشخصيات مسطّحة ولا تمتلك العمق الكافي لصنع حبكة درامية معقّدة، بل تقتصر على الدور الرئيسي المباشر، وتترك الطبقات الأكثر ثقلًا للعامل التاريخي والظواهر الخارقة والإحالات الخارجية للمجموعة وللفردي.
التأسيس للعالم وعقيدة القتال
منذ البداية يتجاوز إيغرز التجربة الحسية، يثبّت الكاميرا على بركان مضطرب وسماء ملبَّدة كوسيط وإحالة على غضب الآلهة، يوجّه صوتٌ بشريٌّ خطابه مباشرةً نحو آلهة سماوية، في عوالم الفايكنغ يدنو الإنسان الفاني كثيرًا من الآلهة في حالات معيّنة، أبرزها ساحات القتال والمعارك الضارية، ومن هذا المنطلق يرسّخ المجتمع للعنف بأشكاله فرديًّا وجماعيًّا، ويتعاطى معه كمؤثر شديد في طبيعة الحياة والمنزلة الاجتماعية.
لذلك تتحرك سردية إيغرز من العنف وتنتهي إليه، فنجده يؤسِّس لطبقات مرتفعة من العنف، فيصوّر الإنسان في درجة أدنى من طبيعته العاقلة، وينهوي في قاع الوحشية والبربرية كمسلك لممارسة الحياة في شكلها الأشد قساوة، فنشاهد الملك يصطحب ابنه في طقس غرائبي، يتحولان خلاله إلى حيوانات ضارية، ويتخليان عن طبيعتهما البشرية.
في تلك اللحظات الأكثر هشاشة، تتعشّق الذات بلوثة العنف، ومن هنا يمكننا فهم لماذا تثمّن مجتمعات الفايكنغ المقاتل، لأنها مجتمعات بربرية قائمة على العنف، حتى تعاطيها مع الديانات الوثنية والآلهة والأقاصيص الشعبية يتحرك من مفهومها عن العنف والقرابين وسفك الدماء، وهو ما يرصده إيغرز بمهارة داخل فيلمه، فيصوِّر أكثر من طقس وعادة اجتماعية، ويتعرّض لها من خلال الحبكة بطريقة ذكية.
لهذا السيف من الأدوات المهمّة في عوالم الفايكنغ، فهو أداة لاجتراح العنف والدخول لجنة “فالهال” في آن واحد، والجدير بالذكر هو الغياب التام لمعنى الخطيئة داخل المجتمع، لا يوجد ما يُسمّى خطيئة أو ذنبًا، حتى قتل الأخ/ الملك لا يرقى أن يكون ذنبًا في حياة خالية من المنطق الأخلاقي المعروف، ما دمت تملك القوة فيمكنك قتل أي شخص مهما يكن، والسطو على حياته كلها، كل ما يؤمن به الفايكنغ هو شيء واحد، عقيدة القتال، العنف الذي يخلّف الكبرياء، فالرجل الذي يموت على سريره لا يستحق الحياة بالنسبة لهم.
تخلّلَ السرد العديد من القتالات الوحشيّة، والجثث المقطّعة التي يصوّرها الفيلم قربانًا للآلهة أو انتقامًا من أشخاص بعينهم، ليتحول الفيلم في بعض الأوقات إلى نوعية الرعب التي يحبّها المخرج ويبدع فيها، بجانب ذلك يقوّي إيغرز سرديته بالتركيز مرة أخرى على الجانب الخوارقي، ولكن هذه المرة خلال شخصية أخرى، وهي أولغا (الممثلة آنيا تايلور جوي) المعادل لشخصية أوفيليا في مسرحية “هاملت”.
ولكن هذه المرّة لا تنتحر، بل تتبدّى امتدادًا للسحر في الفيلم، سحر مختلف وغير معهود في عوالم الفايكنغ، لتظهر كروح شريرة، ولكنها للأسف لا تأخذ مساحة كافية للتطور، بل تظهر على الهامش كعشيقة لأملث ومساعدة في التخطيط لعملية الانتقام، التي تُحفَّز باستمرار من خلال تطويع هيئة الحيوانات كإشارات ودلائل للعالم الماورائي، وهو شيء شائع في العوالم القديمة، التي تلجأ دائمًا لترميز الحيوانات ومنحها معاني خفية وروحية.
فالغراب هو عين أودين الإله المشهور، ويظهر هنا كمعادل لشبح الملك/ الأب في مسرحية شكسبير، وبجملة الاستخدام للذخيرة الفلكلورية، استخدمَ المخرج واحدًا من الأعمدة الرئيسية في الميثولوجيا النوردية، وهي “السيرز” وسيدات النورنز التي يتمّ اختزالهن في القدر والموت والحياة، لذلك نرى دائمًا البطل على يقين تام بعدم قدرته على الانفلات من القدر وما يحمله المستقبل.
يتحرك الفيلم داخل أكثر من نوعية، الرعب الذي يتراوح بين الميتافيزيقي كما تمارسه أولغا -التي تعتبر امتدادًا للشخصية في فيلم “الساحرة” عام 2015-، والرعب الشعبي من الأقاصيص والأساطير وهو الأكثر حضورًا في الفيلم، بالإضافة إلى الجانب البصري المهم في تصوير الحقبة وبتفاصيلها، والاهتمام بالانتقال بين أكثر من عالم، الجحيم والجنة والعالم الآخر.
لهذا الإبهار البصري هو البطل، حمّى الموروث الشعبي الذاخر بأساطير وآلهة وأديان هي ما يجعل الفيلم مثيرًا، بغضّ النظر عن نمطية الشخصيات ووقوفها عند نقطة معيّنة، والقفزات الزمنية والسردية، ولكنها تجربة مهمة على أي حال.