في اجتماعه بالأمس، أكد مجلس الأمن القومي التركي، أن “العمليات العسكرية الجارية حاليًا على الحدود الجنوبية للبلاد والأخرى التي ستُنفذ، ضرورة للأمن القومي، وأنها لا تستهدف سيادة دول الجوار”. وقال البيان الصادر عن الاجتماع الذي ترأسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “العمليات العسكرية الجارية وتلك التي ستُنفذ على حدودنا الجنوبية ضرورة لأمننا القومي ولا تستهدف سيادة دول الجوار”. كما شدد على أن “أنقرة التزمت دائما بروح وقانون التحالفات الدولية، وأنها تنتظر نفس المسؤولية والصدق من حلفائها”.
وسابقًا قال أردوغان إن تركيا “ستبدأ قريبًا باتّخاذ خطوات تتعلق بالجزء المتبقّي من الأعمال التي بدأتها لإنشاء مناطق آمنة على عمق 30 كيلومترًا، على طول الحدود الجنوبية مع سوريا”، مشيرًا إلى أن “المناطق التي تعدّ مركز انطلاق للهجمات على تركيا والمناطق الآمنة، ستكون على رأس أولويات العمليات العسكرية، وستبدأ بمجرّد انتهاء تحضيرات الجيش والاستخبارات والأمن”، مردفًا: “سنتخذ قراراتنا بهذا الخصوص خلال اجتماع مجلس الأمن القومي يوم الخميس”.
كما كل مرة، قبل أي تحرُّك للجيش التركي في سوريا تكثر التحليلات وينشط القيل والقال عن الأهداف المحتملة للعمليات ووجهتها وغير ذلك، وتكون العمليات التركية عادةً محكومة بالتوقيت والمفاوضات مع الأطراف الفاعلة في الشأن السوري كروسيا وأمريكا، وقد تتوقف هذه العمليات نتيجة للاتفاقيات كما حصل في عملية نبع السلام، أو تحقيق الأهداف العسكرية مثل عمليتَي درع الفرات وغصن الزيتون.
معركة أم ضغوط سياسية؟
تستغلُّ تركيا الظروف المواتية حاليًا للضغط باتجاه الملف السوري وتواجدها العسكري الاستراتيجي هناك، وذلك بحكم التغيُّرات العالمية الحاصلة منذ شهور، والتي تؤثر بشكل مباشر على القضية، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا وسحب موسكو لبعض قواتها من نقاط سورية والانشغال العالمي بهذه الحرب، إضافة إلى معارضة تركيا لملف انضمام دولتَي فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، حيث تسعى أنقرة من خلال هذه العرقلة إلى تحصيل مكاسب في عدة نواحٍ، منها المنطقة الآمنة على حدودها الجنوبية.
وبالفعل، كشف مسؤول أمريكي أن القوات الروسية بدأت منذ عدة أسابيع “تنفيذ انسحاب تدريجي لقواتها من مناطق متفرقة في سوريا، وتحديدًا من قاعدة حميميم الجوية في مدينة اللاذقية”، وأشار المسؤول إلى أن “عمليات الانسحاب تشمل آلافًا من وحدات المشاة وسلاحَي الطيران والهندسة”، ويأتي هذا الانسحاب بحسب المسؤول لتعزيز الجبهة الروسية المتهالكة في أوكرانيا.
بالتوازي مع ذلك، تعمل أنقرة على كسب صفقة مع “الناتو” من أجل المساعدة في إنشاء المنطقة الآمنة في سوريا، وذلك عبر المفاوضات التي تجري بين فنلندا والسويد من جهة وتركيا من جهة أخرى، حيث رفضت تركيا دخول الدولتَين إلى “الناتو” لأنهما “تدعمان التنظيمات الإرهابية المعادية لتركيا”، بحسب ما صرّحت أنقرة.
وفي حال تمَّ التوصُّل إلى اتفاق بين الطرفَين، فإن التحركات التركية ضد الأكراد ستجري بعيدًا عمّا شهدته عملياتها السابقة من رفض الحلف الأطلسي، إضافة إلى أنها ربما ستحصل على دعم للمنطقة الآمنة التي أعلن عنها الرئيس التركي، والتي سيعود إليها مليون من اللاجئين السوريين في تركيا.
لكن الظروف التي يراها البعض مواتية لتركيا من أجل بدء تحرُّك جديد في سوريا، ما زالت تصطدم بالعوائق التي تتمثّل بتداخل الأطراف، حيث ذكر تقرير أن قافلة عسكرية للجيش الأمريكي عادت للتمركز في قاعدة خراب عشق في مدينة عين العرب، حيث أخلت القوات الأمريكية القاعدة نهاية عام 2019 في إطار الانسحاب من مواقعها في المنطقة بعد إطلاق تركيا عملية نبع السلام، ورافقت القوات الأمريكية طواقم وآليات فنية ومعدّات حفر باشرت فور وصولها بأعمال ترميم الموقع، وإعادة رفع السواتر الترابية في محيطه.
بالتوازي مع العمل الميداني، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، إن “أي هجوم جديد شمالي سوريا سيقوِّض الاستقرار الإقليمي بدرجة أكبر، ويعرّض الحملة على تنظيم “داعش” للخطر”، وقال برايس: “تتوقع الولايات المتحدة أن تلتزم تركيا، وهي عضو مثلها في حلف شمال الأطلسي، بالبيان المشترك الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بخصوص العمليات العسكرية الهجومية في سوريا”.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن أنقرة أطلقت عملياتها العسكرية السابقة في سوريا دون رضا دولي تام، لكنها استطاعت عبر تفاهمات معيّنة مع الدول الفاعلة أن تعمل على ما تريده نسبيًّا، والآن بالتوازي مع طريق السياسة والضغوط السياسية، فإن الضربات العسكرية التركية لم تتوقف على مناطق شرقي سوريا وبالذات على تمركزات قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وهي العدو الرئيسي لتركيا في هذه المنطقة، حيث اتّبع الجيش التركي في الشهور الأخيرة تكتيكات جديدة ضد “قسد”.
فقد قامَ باستهداف القيادات البارزة في “قسد” عبر الطائرات المسيَّرة، وتقول المصادر إن 6 من كبار قادة الوحدات الكردية قُتلوا في هذه العمليات، بالإضافة إلى استهداف المقرّات التي تتمركز فيها قوات هذه الميليشيا، ما ساهمَ في تقليص حركتها، وتستغلُّ القوات التابعة للمعارضة السورية القصف التركي المستمر بتعزيز تحصيناتها في مناطق التماسّ مع “قسد”، كما أنها تعمل على ضرب تحصينات الأخيرة بغرض إضعافها.
كما كثّفت القوات التركية قصفها المدفعي والصاروخي على مواقع “قسد” الموجودة في قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، خاصة في محيط بلدة تل رفعت، وذلك بالتزامن مع عمليات الجيش التركي ضد الوحدات الكردية الموجودة في مناطق متينا وزاب وأفشين – باسيان شمال العراق، وأشار الرئيس التركي سابقًا إلى أن العمليات في العراق من الممكن أن تتوسّع لتشمل أجزاءً من سوريا، وأوضح أردوغان أن أنقرة تقصف “مواقع الإرهابيين المحددة مسبقًا عبر أسلحة طويلة المدى”.
في الوقت ذاته، تستهدف قوات “قسد” القوات التركية بشكل مستمر في سوريا، ما أوقع قتلى في أكثر من هجوم، بالإضافة إلى أنها تستهدف المناطق السكنية المدنية في المدن التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية المدعومة تركيًّا، ولعلّ هذه العمليات تؤجِّج النار التركية للردّ بعملية شاملة على هذه المناطق، وهو ما سيتبيّن في الأيام القادمة.
ممّا سبق، تعمل تركيا على تهيئة الأجواء السياسية لتحصيل المكاسب التي تريدها دون معارك وخسائر في هذا السياق، ولكن الناظر إلى الحالة السورية يعلمُ أن حالة الضغط السياسي دون دوي صوت المدافع وهدير الطيران لا يمكن أن تحصل، ولتركيا بالذات تجارب سابقة.
وفي هذا الصدد، يقول مركز “جسور” للدراسات إنه “لدى تركيا العديد من الدوافع على المستويَّين السوري والدولي لشنّ عملية عسكرية جديدة شمال سورية. دوليًّا، هناك محاولة للضغط على الولايات المتحدة بعد اعتراض تركيا على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو؛ فأنقرة تسعى للحصول على ثمن من واشنطن مقابل تقديم موافقتها على هذا التوسُّع؛ لأنّ هذه الموافقة ستؤثر سلبًا على علاقة تركيا مع روسيا، التي قد تلحق بها خسائر سياسية واقتصادية”.
ويشير المركز إلى أن “تركيا تدرك أن الظروف الدولية الناتجة عن غزو روسيا لأوكرانيا تسمح لها بإعادة التفاوض مع كل الأطراف على تفاهمات جديدة فيما يخصّ سورية وغيرها. لذا فهي تعمل على تعزيز وتوسيع مكاسبها، بما يُحقّق لها عائدًا سياسيًّا مهمًّا قبل نحو عام من الانتخابات التي تُعتبر أهمّ حدث في تاريخ تركيا المعاصر”.
سيناريوهات
أما عن السيناريوهات التي يمكن لتركيا العمل عليها في الفترة المقبلة بخصوص ما يجري، فيمكن تلخيصها بما يلي:
عملية عسكرية شاملة على الحدود، تستكمل من خلالها تركيا تنفيذ خطتها للمنطقة الآمنة التي تريدها منذ عام 2013 وتبلورت خارطتها عام 2019، لكن الاتفاقيات مع أمريكا وروسيا أوقفت تنفيذها مؤقتًا، وكما ذكرنا تريد تركيا تنفيذ مخططها للسيطرة على عمق 30 كيلومترًا من سوريا على طول الحدود على امتداد 460 كيلومترًا، وبذلك تكون قد أمّنت حدودها بشكل كامل.
عملية عسكرية محدودة كسابقاتها، حيث تطلق أنقرة عملية للسيطرة على إحدى المدن الرئيسية المحددة في خريطتها، وذلك من أجل الضغط في المفاوضات مع الأطراف الأخرى، وهو ما يشبه سيناريو عملية نبع السلام التي توقفت إثر اتفاق مع واشنطن في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب تبعه اتفاق مع موسكو، واستطاعت من خلاله أنقرة تحصيل بعض المكاسب لكنها لم تخرج راضية بالقدر الكافي.
بالإضافة إلى أن الاتفاق بات في مهبّ الريح، حيث تعتبر أنقرة أن روسيا وواشنطن لم تلتزما بإخراج “قسد” من المناطق المنصوص عليها في الاتفاق، لكن هذه المرة لن تفاوض أنقرة على اتفاق يكون كالذي سبقه، إنما تريد تحركات فعلية على الأرض كما ترى.
إضافة إلى ما سبق، يظل سيناريو انطلاق مفاوضات جديدة دون الحاجة إلى معارك حاضرًا، حتى إن كانت تركيا تروِّج لعزمها القيام بعملية عسكرية، إذ إن أنقرة تحاول استغلال فرصة انكفاء روسيا عن الملف السوري ولو بالحدّ الأدنى، وانصرافها إلى الحرب الأوكرانية.
ومن خلال هذا الأمر يمكن لها أن تحصِّل أكبر مكاسب من خلال المفاوضات مع موسكو، حيث ستكون روسيا منفتحة على التعامُل بإيجابية مع أنقرة للحفاظ عليها بموقف الحياد منها في إطار سلسلة العقوبات العالمية المفروضة عليها، وبالأصل إن المحادثات التركية الأمريكية من أجل هذه القضية لم تتوقف، وفي حال تعثُّرها لن يكون للمفاوضات مكان.
ما الأهداف؟
أما عن الأهداف التي تريد تركيا تحقيقها من خلال حراكها الحالي، فقد أوضح الرئيس التركي “إن بلاده ستبدأ خطوات تتعلّق بالجزء المتبقي من الأعمال التي بدأتها لإنشاء مناطق آمنة بعمق 30 كيلومترًا على طول حدودها الجنوبية مع سوريا”، ووفقًا لصحيفة “يني شفق” التركية، فإن أنقرة أكملت “جميع الاستعدادات للعملية العسكرية الجديدة (الخامسة) لإنشاء منطقة آمنة ولتطهير المناطق من الإرهاب”.
وبحسب الصحيفة، فإن العملية “تشمل الأهداف المحتملة للقوات المسلحة التركية والجيش الوطني السوري مناطق يحتلها تنظيم “بي كا كا/ ي ب ك” الإرهابي، وهي مدينة تل رفعت ومدينة عين العرب وعين عيسى ومنبج”، وتشير الصحيفة إلى أنه “بتطهير وتحرير جميع المناطق الأربعة ستكون المنطقة بأكملها من رأس العين حتى عفرين خالية من الإرهاب”.
إضافة إلى ما سبق، فإن “تركيا تريد من خلال تدخلها الآن العمل على تنفيذ فعليّ لخطة إعادة اللاجئين التي أعلن عنها رجب طيب أردوغان، الرامية إلى إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى ما تسميها تركيا المناطق الآمنة”، وفقًا لما ذكره المحلل في شؤون السياسة والأمن عمر أوزكيزيلجيك لـ”نون بوست”.
ويقول المحلل التركي أوزكيزيلجيك: “من خلال السيطرة على مناطق جديدة، تتوسّع الخارطة الجغرافية التي يمكن أن تعمل تركيا فيها لإعداد المدن المزمع إنشائها لإسكان اللاجئين، إضافة إلى ذلك فإن استرداد بعض المناطق مثل تل رفعت ومنبج كفيل بأن يعيد آلاف النازحين إلى بيوتهم”.
أما على صعيد المصلحة التركية الخالصة، فإن هذه العملية ستكون مثل سابقاتها، تركِّز على “التخلُّص من التهديدات الأمنية التي تتواجد على حدودها”، والتي تتمثل بالوحدات الكردية، العدو الرئيسي لتركيا في هذه المنطقة، وفقًا للباحث عمر أوزكيزيلجيك.
ووفقًا لمركز “جسور”، فإن أحد الأهداف التي تريدها تركيا من العملية هو “فرض مزيد من الضغوط العسكرية على حزب العمال الكردستاني في المنطقة عمومًا، فإطلاق عملية جديدة ضده في سورية سيؤدي إلى استنزاف قدراته وموارده بشكل أكبر؛ مع استمرار عملية “المخلب – القفل” التي أطلقتها تركيا ضده في العراق منذ أبريل/ نيسان 2022، بهدف إقامة منطقة عازلة على الشريط الحدودي”.