قررت هيفاء العودة إلى بيت عائلتها في الجبل بعد أن تبخرت أحلامها بعد التخرج في بيروت، فلم تعد تملك المال الكافي لإكمال ثمن الإيجار الذي كانت تتقاسمه مع صديقتها. أينما حطّت بك الرحال في بيروت، تجدها غاصةً بمساكن مشتركة وشقق مفروشة جزئيًا.
شقق الشباب السكنية باتت تغلق تدريجيًا بعد أن باغتتهم الظروف الصعبة والأزمة الاقتصادية الخانقة، فقضت على أحلامهم وصاروا تحت رحمة سوق العقارات والمؤجرين، ناهيك عن البطالة الضاربة.
عائلات اليوم ترى نفسها قاب قوسين أو أدنى من الشارع وشباب آخرون سحبت شققهم في أثناء تقسيطها وخسروا “شقى عمرهم” بعد الأزمة، إنه الدولار الذي بات يسمع صداه في كل مكان، فالعقارات والشقق السكنية وحتى الإيجارات صارت تثمن بالدولار، فقد بلغت قيمة الليرة 35 ألفًا مقابل دولار واحد ولا يزال يرتفع حتى بعد انتخاب مجلس برلماني جديد، فمن أين يحصل الناس على الدولار طالما دخلهم بالليرة اللبنانية؟!
أزمة عقارات تطل برأسها في لبنان قلبت حياة الناس وأعادت ترتيب أولوياتهم ومعيشتهم، فالأزمة المالية في لبنان انعكست على القطاعات كافة ومن ضمنها القطاع العقاري والسكني، ولم يعد باستطاعة المواطن الحصول على القروض أو دفع قيمة شراء الشقة، فضلًا عن فقدان ثقة التعامل مع المصارف، ما ساهم في زيادة الطلب على الإيجار.
يؤثر تأرجح سعر الدولار على سوق العقارات وباقي السلع والخدمات، وباتت الإيجارات محكومة بتفلت سوق عقارات منهار لا يخضع لقاعدة العرض والطلب، بل لعوامل مختلفة كموقع العقار أو إمكانية دفع المستأجر بالدولار، وتتراوح إيجارات الإستديوهات والشقق المشتركة المفروشة في بيروت بالليرة بين 2 و10 ملايين ليرة، إضافة إلى تكاليف اشتراك الكهرباء والإنترنت والمياه، ما بين 100 و200 دولار أمريكي، وبهذا يقف الشبان والشابات عاجزين عن تأمين هذه الكلفة، فيضطرون للعودة إلى كنف عائلاتهم، بعدما عاشوا حياة مستقلة وكثير منهم عازمون على الهجرة.
إشكالات بين المستأجر والمالك
“ديانا. ب” تشتكي من صاحب المنزل الذي يقطع عن عائلتها الماء كل فترة بغية إخراجهم منه، بسبب عدم رضاه عن الإيجار الذي يفقد قيمته مع الزمن، وتقول إن لا أحد يستطيع ردعه ولا أحد يحاسبه، وهي الآن تبحث عن بيت صغير لا يطلب صاحبه الإيجار بالدولار.
بسبب الأزمة المستفحلة تصاعد الشجار بين المالكين والمستأجرين الذين طرق الجوع والقهر أبوابهم على السواء في ظل غياب تطبيق القوانين التي تراعي التوازن العادل بينهما، ما ينذر بأزمة إسكانية لا تحمد عقباها بعد انتهاء عقود الإيجار الموقعة قبل الأزمة، ورفع البدلات بالعقود الجديدة ما يفوق قدرة الغالبية من المواطنين على الدفع.
لا يخفى على أحد مشاكل القطاع التأجيري في لبنان خصوصًا أننا نصطدم دائمًا بعدة قوانين غير موحدة وغير متوازية سواء لجهة احترام الملكية الفردية أم العدالة الاجتماعية وغيرها، ولحين إقرار مراسيمها التطبيقية نصبح أمام واقع جديد وحالة مستجدة، فلم تعد تلك القوانين المتأخرة متناسبة مع الوضع الجديد وخلقت خللًا في توازن العقد، كما خلقت نزاعات عقيمة تبدأ في المحاكم وتنتهي بوفاة أصحابها لاستعادة الحقوق.
ويعاني لبنان من أزمة قوانين فيما يخص الإيجار منذ فترة طويلة، لكن كله ذهب أدراج الرياح بسبب الأزمة الحاصلة والتصادم السياسي، فاليوم مع تفاقم الأزمة المالية لا توجد قوانين رادعة وتبقى الفوضى والمحسوبيات أسياد الموقف.
بنك الإسكان: قروض خجولة وشروط تعجيزية
بعد ثلاث سنوات من الانقطاع، عادت القروض السكنية إلى الواجهة من بوابة مصرف الإسكان اللبناني. يُفترض بهذا الخبر أن يكون بشرى سارة، لولا أن شروط الإقراض وحجم القسط الشهري يكشفان أن هذه القروض تستهدف فئتَي الميسورين والمغتربين.
ففي محاولة لإعادة تحريك القروض السكنية بعد انقطاع منذ سنة 2018، أعلن المدير العام لمصرف الإسكان أنطوان حبيب عن خطوة قد تفتح الباب ولو بشكل محدود أمام الشبان للاستفادة من قرض تصل قيمته إلى مليار ليرة أي ما يوازي نحو 37 ألف دولار لشراء شقة أو بناء منزل أو الاستفادة من قرض 400 مليون ليرة لترميم مسكن بفائدة تبلغ 4.9%، وأوضح حبيب أن “مصادر التمويل منها داخلي ومنها خارجي ونسعى لتحويل القرض العربي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بما يُعرف بالقرض الكويتي بقيمة 165 مليون دولار من أجل القروض السكنية”.
المبلغ المرصود لكل قرض قد يصل بالحد الأقصى إلى مليار ليرة، يُسدّد على مدار 30 عامًا، والإقراض سيكون بالليرة اللبنانية حصرًا، مع شرط تسديد دفعة مسبقة تتراوح قيمتها بين 10 إلى 20% من قيمة القرض، وتسديد فائدة 5% (كانت 6% وانخفضت إلى 5% بعد دعم المصرف 1%)، أما “الشرط التعجيزي” فهو “ألا يقل راتب المقترض عن 15 مليون ليرة، أو أن يوازي القسط الشهري ثلث راتبه”.
هذه القروض بحسب مدير عام المصرف موجّهة بالأخص إلى ذوي المداخيل دون المتوسطة، سواء كانوا من الموظفين في القطاعين العام والخاص أم من ذوي المهن الحرة في المناطق والقرى، لكن أليس معروفًا أن رواتب موظفي القطاعين العام والخاص لا تتعدى في أحسن الأحوال ثلث الحد الأدنى للراتب الذي يشترطه المصرف للإقراض؟ من يتقاضى ستة ملايين شهريًا أو أقل لا يمكنه أن يشتري شقة وكل هذه الشروط هي فقط للميسورين على ما يبدو.
رواتب اللبنانيين اليوم صارت عبارة عن جرة غاز وصفيحة بنزين أو اشتراك مولد كهربائي، بعد أن قضت الأزمة المالية على مداخيلهم وصار اليوم الحصول على قرض سكني بعد هذه الشروط ضربًا من ضروب الخيال وحلمًا صعب المنال، وبعد أن كان سابقًا يقصد الشاب مع خطيبته المصرف المركزي طلبًا لقرض سكني من أجل الزواج، بات يفكر اليوم بغرفة في بيت أهله كحل بديل.
ركود القطاع العقاري بسبب الأزمة
محمد من مدينة صيدا حاله حال الشباب الذين خسروا بيوتهم بعد صعود الدولار، فالشاب الذي كان يحضر للزواج بعد إنهاء تقسيطه للشقة، تراجع المالك عن البيع وطلب ثمن المنزل بقيمته حسب صعود الدولار وهو غير متوافر اليوم بسبب أن المداخيل بالليرة، وصلت قضية محمد إلى القضاء لكن لا يوجد حل ولا نص قانون رادع، لقد ضاعت الشقة وضاع معها المال الذي سدده إلى صاحب الشقة، وبالفعل تراجع محمد اليوم عن قرار الشراء مرغمًا، ويبحث عن غرفة تأويه مع شريكته.
ويشهد القطاع العقاري في لبنان حالة من الركود، إذ انكمشت حركة البيع نتيجة تراجع تداول الشيكات المصرفية كوسيلة للدفع، وبعدما بدأ معظم البائعين يطلبون الدفع إما نقدًا بالدولار وإما عن طريق حسابات مصرفية خارج البلاد.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان، تراجعت حركة البيع والشراء في السوق العقارية، خصوصًا أن معظم فئات الشعب لا تملك الدولار النقدي لشراء العقار رغم تراجع أسعاره بأكثر من 50%، كما يحتفظ اللبنانيون بدولاراتهم – إن وجدت – تحسبًا لأي مفاجأة يمكن أن تحدث في البلاد.
وهنا لا يمكن أن نخفي أزمة الدولار مع المصارف التي حبست أموال اللبنانيين بالعملة الصعبة بعد أن قلصت السحب حتى إنها لا ترسل حوالات ولا يحق لبطاقات الدفع (visa cart) أن تعمل بالعملة الخضراء وإن كان صاحبها يملك حسابًا بالدولار، باختصار الدولار ممنوع عن المواطن والمنفذ الوحيد هو خارج لبنان.
خلال السنوات الماضية شهد القطاع العقاري ازدهارًا وحركة نشطة، على عكس اليوم، فقد دخل في ركود وسبات طويل وذلك نتيجة عوامل مجتمعة منها انهيار القدرة الشرائية للمواطنين بسبب انهيار الليرة اللبنانية أمام تقلبات سعر صرف الدولار وتوقف المؤسسة العامة للإسكان عن منح القروض لا سيما للفئات الشبابية فضلًا عن توقف استبدال شيكات الودائع المصرفية بعقارات سكانية والمطالبة “بالفريش” دولار.
كل هذه أسباب تزيد من ركود القطاع، فحتى الميسورين بات الأمر صعبًا عليهم ومن يفكر اليوم بالشراء في بلد أزماته تتفاقم مع الزمن وبات العيش فيه محكومًا بالجوع والقهر؟