شهدت المواقع الأثرية في سوريا تضررًا كبيرًا منذ اندلاع الثورة السورية، جراء القصف الممنهج الذي شنته قوات النظام وروسيا، والعمليات العسكرية بين الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى لجوء مافيات مختصة بنهب الآثار وترويج بيعها عبر شبكات منظمة.
وفق آخر تقرير نشرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أشارت فيه إلى توثيق 97 حادثة اعتداء على 88 منشأة وموقعًا أثريًا في سوريا منذ عام 2011، يتحمل نظام الأسد مسؤولية 37 اعتداءً منها، يليه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بـ10 اعتداءات، ثم فصائل المعارضة بـ6 حوادث، في حين سُجلت بقية الاعتداءات على يد أطراف مجهولة.
في منتصف الشهر الحاليّ، كانت وكالة الأنباء الرسمية السورية “سانا”، قد أعلنت بدء أعمال المرحلة الأولى من ترميم قوس النصر في مدينة تدمر الأثرية الذي يعود تاريخه إلى ألفي عام قبل الميلاد، بعد تعرضه لدمار كبير على يد تنظيم الدولة “داعش” خلال فترة سيطرته في مايو/أيار 2015 على المدينة، وجاء الترميم حسب تأكيدات “سانا” بالتعاون بين المديرية العامة للآثار والأمانة السورية للتنمية مع مركز إنقاذ الآثار وترميمها التابع لمعهد تاريخ الثقافة المادية بأكاديمية العلوم الروسية.
ونقلت الوكالة عن معاون مدير الآثار والمتاحف التابع لنظام الأسد همام سعد، أن هناك مشاريع أثرية أخرى في مدينة تدمر سيتم البدء بها بعد الانتهاء من مشروع ترميم قوس النصر، أبرزها ترميم معبد بعل شمين وموقع بل الشهير وواجهة مسرح تدمر الأثرية.
هل تملك روسيا مؤهلات لترميم القوس؟
أثار ترميم قوس النصر (أهم معالم المدينة الأثرية) تساؤلات واسعة بين الأوساط المختصة عن منح روسيا حق ترميم القوس، خاصة أن منطقة البادية ما زالت تعيش أوضاعًا أمنية غير مستقرة مع انتشار فلول تنظيم الدولة في البادية السورية، فيما يشكّك البعض بقدرة الفرق الروسية على الترميم، خاصة أنها تفتقر للخبرة الكافية والدقة العلمية والاحترافية.
الكاتب والباحث سعد فنصة الذي عمل لفترة تقارب 30 عامًا في المجال الأثري، إضافة لعمله مديرًا لقسم التصوير العلمي للآثار السورية بالمديرية العامة الآثار والمتاحف، قال لـ”نون بوست”: “هناك استنزاف آثار ممنهج في سوريا، وتاريخي أيضًا في التعدي على القيم الحضارية لسوريا، وهذا الاستنزاف حاصل قبل عام 2011 وخلال عقود من مافيات بدأت بعهد رفعت الأسد عم الرئيس الحاليّ، وحتى هذه اللحظة”.
وقال: “آثار تدمر ومنها (قوس النصر) ليست آثارًا رومانيةً فحسب، بل هي آثار سورية بهوية وحجارة وثقافة النحات السوري القديم”.
خبرات روسيا في ترميم الأوابد الأثرية المحلية التي تنتمي إلى عمارتها من الطراز الروسي والأوروبي إلى حدٍّ ما قوي، لكن خبراتها في ترميم الآثار المعمارية الكلاسيكية الضخمة شبه منعدمة
وعن تناول روسيا ملف الآثار في تدمر والبدء بعمليات ترميمية، رأى فنصة، أنه اعتداءٌ على سوريا وذاكرتها الوطنية في مدينة تدمر الموضوعة على قائمة التراث العالمي، خاصة أن المعروف عن ملف الآثار خضوعه تاريخيًا لإشراف الباحثين الأوروبيين بشكل كامل من أعمال ترميم وتنقيب، نظرًا لضعف الخبرات السورية الوطنية، ولا ننسى أن التمويل الأوروبي حضر قبل اندلاع الثورة (خاصة من فرنسا وإيطاليا وسويسرا) في دعم أنظمة الأتمتة التي دخلت دائرة الآثار والمتاحف السورية بهدف رقمنة بعض مشاريع الترميم والمواقع الأثرية.
وشكك فنصة بخبرة روسيا في إدارة الملف الأثري السوري كاملًا، خاصة ترميم الآثار المعمارية الكلاسيكية، قائلًا: “روسيا لديها خبرة واسعة في الهندسة المعمارية وإنشاء السدود والمنشآت الحديثة والخرسانات المسلحة، كما أن خبرات روسيا في ترميم الأوابد الأثرية المحلية التي تنتمي إلى عمارتها من الطراز الروسي والأوروبي إلى حدٍّ ما قوي، لكن خبراتها في ترميم الآثار المعمارية الكلاسيكية الضخمة شبه منعدمة”.
وتسعى روسيا إلى توسيع رقعة نفوذها في البادية السورية عسكريًا واقتصاديًا، وتحديدًا في منطقة تدمر رغبة منها في حماية استثماراتها النفطية والغازية والأثرية هناك، إضافة إلى تثبيت وجودها في نقاط مهمة في البادية السورية، استعدادًا لأي تغيرات قد تتعلق بمناطق شرق سوريا الخاضعة لسيطرة القوات الأمريكية.
ولا يخفى حسب فنصة، التنافس الواضح في ملف الآثار والترميم بين نظام الأسد الذي له باع طويل في استنزاف القيمة الأثرية السورية ونهبها، والميليشيات الإيرانية التي تهتم بتأسيس مزارات ومدارس عقائدية دينية، والروس الذين يريدون من خلال الاستحواذ على ملف الآثار السوري شرعنة تدخلهم أكثر من جهة، والسيطرة على الحوضة التدمرية الجغرافية الواسعة من جهة أخرى، إضافة لرغبة روسيا التي لا تخفى بتزويد متاحفها بالآثار السورية بعد أن امتلأت بها متاحف أوروبا.
وتساءل فنصة، كيف يمكن أن تكون روسيا راعيةً لملف الترميم وهي المسؤول الأول عن قصف وتدمير القرى والمدن والأوابد الأثرية، وهي من أدخل عصابات فاغنر، وسهّلت مرور تنظيم داعش من عدة مناطق خاضعة لسيطرتها على أماكن مهمة؟!
ووصف إجراءات روسيا بـ”اللعبة” التي تهدف إلى الحصول على تمويل اليونسكو ومنظمات دولية أخرى لدعم اقتصادها نظرًا للأموال الطائلة التي تُرصدها عادة هذه المنظمات لترميم المواقع الأثرية، خاصة أن الترميم والاهتمام بالملف الأثري يحتاج أرضية آمنة ومناخ سياسي وواقع اجتماعي يسمح بالالتفات لأعمال الترميم، وهذا غير متوافر حاليًّا، حسب فنصة.
استنزاف متأصل ومنازعة لسحب ملف الآثار
يعد ملف الآثار من الملفات السيادية، إلا أن هذا الملف تعرض لاستغلال منظم من مافيات تتبع السلطة الحاكمة نفسها، ويعد رفعت الأسد عم الرئيس الحاليّ أهم عرابيها الأساسيين، رغم وجود مادة ضمن القانون السوري، تؤكد أن عقوبة تهريب الآثار جنائية الوصف وتتساوى عقوبتها مع عقوبة القتل.
ونصت المادة من قانون الآثار السوري على المعاقبة بالاعتقال من 15 سنة إلى 25 سنة، وبغرامة من 500 ألف ليرة (ما يقارب 10 آلاف دولار)، إلى مليون ليرة سورية (ما يقارب 20 ألف دولار) لكل من هرّب الآثار أو شرع في تهريبها.
هناك مناكفات من الروس للبعثات الأوروبية التي عملت في مدينة تدمر سابقًا سواء كانت فرنسية أم ألمانية أم أمريكية، وأن المواقع التي عملت فيها بعثات هذه الدول أصبحت امتيازًا حصريًا لروسيا
في حين تنص المادة 57/2 من قانون الآثار، على معاقبة كل من ينقب عن الآثار دون ترخيص بالاعتقال من 10 سنوات إلى 15 سنة، وبالغرامة من 100 ألف (2000 دولار) إلى 500 ألف ليرة سورية (ما يقارب 10 آلاف دولار).
عمر البنية، صحفي سوري مختص بالتراث والآثار اتفق مع “فنصة” في حديثه لـ”نون بوست”، عن أن “روسيا تبحث عن تبييض صفحتها عبر ملف الآثار السورية وتقديم نفسها أنها حامية للتراث الإنساني، وأنها تحارب الإرهاب وتعيد ترميم ما دمره الإرهاب في سوريا”، مضيفًا “تريد أن تعزز نفوذها في قلب البادية السورية عبر ملف الآثار وتضع يدها على استثمارات حصرية في مدينة تدمر”.
ولم تغب البعثات الأثرية الأوروبية عن منطقة تدمر وغيرها من الأماكن الأثرية السورية حتى العام 2011، بل إن العديد من المواقع أصبحت بفضل الخبرات الأوروبية مزارًا للعديد من الخبراء العالميين، نتيجة عمليات التنقيب الحديثة واستخدام الوسائل التكنولوجية والبحث الجيوفيزيائي المتطور.
ويلفت البنية إلى أن “هناك مناكفات من الروس للبعثات الأوروبية التي عملت في مدينة تدمر سابقًا سواء كانت فرنسية أم ألمانية أم أمريكية، وأن المواقع التي عملت فيها بعثات هذه الدول أصبحت امتيازًا حصريًا لروسيا، فيما تضع المؤسسات الروسية نصب عينها اليوم أموال إعادة الإعمار بقطاع التراث والآثار وتريد السيطرة عليها”.
“تحييد الآثار” ذريعة المنظمات المعارضة
يحظى “قوس النصر” في تدمر بأهمية دولية وقيمة أثرية بارزة، فقد أدانت المديرة العامة لليونيسكو إيرينا بوكوفا بشدة تدمير قوس النصر في أكتوبر/تشرين الأول 2015، متوعدة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب المسؤولين عن التدمير ومعاقبتهم.
وعن لجوء اليونسكو للتعاون مع الحكومة السورية والروسية للبدء بأعمال الترميم يؤكد البنية أن “المنظمات الدولية تحصر تعاملها مع مديرية آثار النظام، ومديرية آثار النظام وعبر فاسديها المحسوبين على القصر الجمهوري والأمانة السورية للتنمية تمنح العقود حصرًا لروسيا وتوقع الاتفاقيات التي تسلم بموجبها ملف الآثار السوريا لروسيا، إذ إن ملف الآثار السورية استثني من ملف عقوبات قيصر”.
واستغرب البنية صمت بعض المنظمات التي كانت تحسب نفسها على المعارضة، التي بدأ يتحدث بعض متنفذيها عما يسمى تحييد الآثار عن الصراع لتبرير التواصل مع مديرية آثار النظام بدلًا من الاعتراض والضغط على المنظمات الدولية والدول، فالكل يسعى للاستفادة من كعكة إعادة الإعمار، حسب وصف البنية.
رغم أن روسيا تعتبر واحدة من 21 عضوًا بلجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو، فإن أعمالها الترميمية والتنقيبية في تدمر ما زالت تمثّل مراهنة على مدى قدرتها على احتواء الملف الأثري السوري حقيقةً، أم أنها تسعى لإقحامه ضمن أهدافها السياسية والترويج لنفسها دوليًا عبر تأكيدها البدء بإعادة الإعمار والاهتمام بالآثار لصرف النظر عن جرائم الحرب التي ارتكبتها في سوريا.