بالعربية يدعى “يوسف” وأحيانًا يطلقون عليه “الحاج”، ويلقب لدى مسلمي الصين بـ”روح الدين”، يعتبره الصينيون رائد التنوير الإسلامي في بلادهم، فله يعود الفضل في نشر الدعوة والثقافة الإسلامية في بلد يعاني فيه المسلمون من انتهاكات غير مسبوقة في التاريخ القديم والحديث.
كانت إجادته للغات الثلاثة: الصينية والعربية والفارسية، بوابته الكبرى لدراسة علوم الفقه والشرع، متنقلًا بين عواصم المسلمين، ليعود بعد ذلك حاملًا شعلة الدعوة لأبناء قوميته، التي منها انطلق شعاع تأثيره ليمتد إلى بقية البقاع، مترجلًا علمه وجهاده وإيمانه برسالته السامية.
يوسف مادا شين Yusuf Ma Dexin (1794م – 1874م)، أحد أعلام الإسلام في الصين، وابن قومية “هِويّ”، تلك القومية الكبرى بين 10 قوميات مسلمة تعيش فوق التراب الصيني، لم ينكر أحد دوره في تعزيز حضور الأقلية الإسلامية وصمودها في مواجهة مخططات الإقصاء والتنكيل، فتحول مع مرور الوقت إلى أيقونة الثبات والتحدي لدى الأجيال الأخيرة.. فماذا نعرف عن هذا العالم؟
“هِويّ”.. معين المداد الأول
كانت نشأة مادا في قبيلة “هِويّ” المقوم الأول لبناء شخصيته، فالاحتواء القبلي لأكبر قومية تدين بالإسلام في الصين أثر في تشكيل وجدان وكيان ذلك الشاب الصغير المفعم بحب العربية والفارسية بعدما تعلمهما على يد والده الذي دفعه لدراسة أصول الدين والفقه الإسلامي.
وتتصدر قوميته قائمة القوميات العشرة التي تعتنق الإسلام في البلاد بعدد سكان يبلغ 8.6 مليون نسمة، فيما تذهب تقديرات أخرى إلى أنها أكبر من هذا الرقم، تليها الإيغور بـ7.2 مليون نسمة، ثم القزق بـ1.1مليون نسمة، ومن بعدها قومية دونغشيانغ بـ374 ألف نسمة، والقرغيز بـ142 ألف نسمة، وقومية سلارل بـ88 ألف نسمة، والطاجيك بـ34 ألف نسمة، والأوزبك بـ14.5 ألف نسمة، وباوآن بـ12 ألف نسمة، وأخيرًا التتار بـ4.8 ألف نسمة.
نظرًا لعدم وجود معاهد أو مدارس إسلامية في الصين في ظل القبضة السلطوية المحكمة، كانت المساجد بمثابة الجامع والجامعة
وقد أتاح انتشار أبناء قومية “هِويّ” في معظم مدن الصين، بكين وخبي ولياونينغ وآنهوي وشاندونغ وخنان ويونـّان، بجانب اعتراف الحكومة بها كقومية عرقية وما ساعد ذلك على تقلد أبنائها مناصب مهمة في الدولة، في منح مادا فرصة أكبر في التحرك والتعلم والنهل على أيدي العلماء في الداخل والخارج.
وتقع “خوي” كما يطلق عليها أحيانًا، في منطقة نينغشيا (شمال غرب) ذات الحكم الذاتي، فيما يرجع تاريخها في هذا الإقليم إلى أواخر عهد أسرة تانج الملكية الصينية (من عام 618 إلى 907)، وقد ساعد على انتشار الإسلام بها وقوعها على طريق الحرير الشهير، حيث التقاء التجار العرب والمسلمين مع الصينيين، فكان التأثر والتأثير، ومن هنا عرف الصينيون الإسلام.
المسجد.. الجامع والجامعة
نظرًا لعدم وجود معاهد أو مدارس إسلامية في الصين في ظل القبضة السلطوية المحكمة، كانت المساجد بمثابة الجامع والجامعة، حيث كانت بجانب أنها دور للعبادة مدارس لتعليم علوم الشريعة والفقه ودراسة السنة وتفسير القرآن، وفي ظلالها ترعرع مادا شين وبدأ تشكيل هويته الثقافية الإسلامية.
عرفت الصين ما أطلق عليه “التعليم المسجدي” نهايات أسرة مينغ ( 1368 – 1644م) الذي كان يقسم إلى ثلاثة مستويات دراسية، الأولى: الابتدائية وفيها تُدرس معارف الدين الإسلامي والأبجدية والإملاء للغة العربية، الثانية: المرحلة المتوسطة، ويدرس الطالب فيها تعاليم الدين الإسلامي والفقه والتفسير والعقيدة والأخلاق، ثالثًا: المرحلة العليا: ويُدرس فيها قواعد اللغة العربية أو الفارسية وعلم البلاغة وعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكذلك علم الفقه وعلم المنطق وغيرها من العلوم العربية والشرعية.
أما عن مدة الدراسة فكانت تتراوح في المتوسط بين 3 – 5 سنوات، وإن كان بعض طلاب العلم يدرسون سنوات أكثر من ذلك، كل على حسب رغبته في زيادة مؤهلاته العلمية، فقد كان بعضهم يدرس أكثر من عشر سنوات، وكان يطلق على الطالب اسم “الملا” في مراحل دراسته المختلفة، حتى ما تخرج ارتدى زي الإمام التقليدي وتم الاحتفاء به وصار بين المسلمين إمامًا له حق الفتوى والعلم والتدريس.
ويهدف هذا النوع من التعليم إلى غرس أخلاقيات الإسلام في نفوس صغار المسلمين، كالأمانة والصدق وإتقان العمل واحترام الكبير، بجانب تعميم المعارف الإسلامية والإسهام في دمج الثقافتين العربية والصينية وتعزيز الثقافة الإسلامية للقوميات الإسلامية العشرة بهدف خلق جيل من العلماء والأئمة يناط بهم حمل لواء الدعوة مستقبلًا.
ويعد “تشو ليانغجون” المقيم في مدينة شانشي “شمال” أستاذ مادا المفضل، فقد ذهب إليه خصيصًا لتلقي علوم الدين على يديه، إذ يعتبره الصينيون المؤسس الحقيقي للتعليم المسجدي في البلاد، وعلى يديه تخرج عشرات الأئمة ممن يشار لهم بالبنان حتى اليوم بين مسلمي الصين.
العالم المجاهد
ظل “روح الدين” كما هو معروف بين مسلمي الصين، أيقونة لنشر الإسلام وتعالميه داخل المجتمع المسلم في البلاد، إذ كرس وقته بأكمله لتعليم الطلاب والدارسين أمور دينهم، التي لم يكتف بالوقوف على جوانبها الشرعية والفقهية فقط، بل حول علمه إلى واقع عملي ومنهج حياة متكامل.
كان العالم الصيني من أكثر المؤمنين بأن الإسلام معاملات أكثر منه عبادات داخل المسجد، ومن ثم حرص على أن يقدم المسلمون أنفسهم من خلال سلوكياتهم، بحيث يكونون سفراء حقيقيين لدينهم وعقيدتهم، خاصة في مواجهة حملات التشويه التي كانت تقوم بها العرقيات الأخرى التي كانت تنظر للإسلام على أنه دين رجعي لا يقدم للإنسانية إلا بعض الحركات التعبدية التي لا تجدي نفعًا.
وساعدت تلك الجهود على اتساع رقعة المسلمين بعدما نجح مادا في تقديم الإسلام بحلته الجديدة، وسطية وسماحة ودعوة تتسم بالمرونة والاحتواء وتشجع على التعايش والقبول وترفض الإقصاء وتحث على التشاركية والإخاء، وهو ما شجع العديد على اعتناق الإسلام، الأمر الذي أوغر صدور البوذيين بصورة تحولوا معها إلى خصوم وأعداء مباشرين للمسلمين.
لم يكتف العالم والداعية بدوره الدعوي فقط، بل كان على رأس المجاهدين المدافعين عن بلاده ضد قوات التحالف الغربي الثمانية بقيادة بريطانيا خلال سنوات حرب الأفيون الأولى ما بين 1840 – 1842م، فقد حث المسلمين على التخندق إلى جانب القوات الصينية في مواجهة الاحتلال الأجنبي، وهو ما زاد من شعبيته حينها، حتى بين غير المسلمين بعدما قدم تجربة رائدة في الوطنية وتوظيف الدين لخدمة بلاده.
صاحب توثيق أول رحلة صينية للحجاز
ينسب للحاج مادا أنه أول من وثق رحلة الصينيين إلى الأراضي المقدسة، رغم أن كثيرًا من الصينيين توافدوا لأداء فريضة الحج قبل عهده لكنهم لم يوثقوا ما جاء في رحلتهم الطويلة، تلك الرحلة التي قطعها واستغرقت عام ونصف من أقصى الشرق إلى الأراضي الحجازية، عانى فيها الكثير مما يستحق التوثيق.
ففي كتابه “مذكرات رحلة إلى مكة المكرمة” الذي ترجمه وعلق عليه أستاذ الدراسات والبحوث الصينية الدكتور حمدى عبد العزيز، استعرض أيقونة الصين الأبرز تفاصيل رحلته الصعبة التي تحدى خلالها السلطات الإنجليزية التي كانت تحتل بلاده في ذلك الوقت، وأغلقت كل الطرق البرية والبحرية بين الصين والعالم الخارجي، هذا بخلاف معاناته التي واجه فيها الكثير من الصعاب ما بين تسلق الجبال وعبور الأنهار وتحدي الأمواج المتلاطمة.
ويعد هذا الكتاب واحدًا من أبرز مؤلفات “أدب الرحلات” بمنظور مختلف، إذ اجتاز الحاج في مشواره عشرات الأمم والمجتمعات والعديد من الحضارات، بدءًا من الهند وبنغلاديش وسريلانكا، عبورًا للمحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر، وصولًا إلى ميناء جدة.
الكتاب تطرق إلى رحلته إلى مصر، حيث قام بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، من مقام السيد البدوي بطنطا إلى ساحة البوصيرى إمام المداحين، متوجهًا بعد ذلك إلى عروس المتوسط، مدينة الإسكندرية، التي انبهر بجمالها فقال في حقها: “الإسكندرية مدينة جميلة وخلابة، وفيها يلتقي نهر النيل بالبحر الأبيض المتوسط، وبينهما أرطال من التجار وتجارتهم الرائعة ويتحدثون باللغتين العربية والتركية، ويوجد ضريح النبي دانيال، بالإضافة إلى أضرحة أهل البيت، وضريح العالم الجليل محمد البوصيري مؤلف قصيدة (البردة)، وتشتهر الإسكندرية بالمعالم الأثرية القديمة وبانيها المصمم الروماني دينوقراطيس المستشار الفني عند الإسكندر الأكبر”.
استكمل السير إلى برودس وقبرص ويافا، حتى وصل إلى القدس، ليعبر عن دهشته ببناء وتصميم المسجد الأقصى الذي قدم له وصفا دقيقًا في كتابه
وكانت إسطنبول أحد أبرز محطات رحلة مادا شين التاريخية، حيث التقى السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1823 – 1861) الذي سلمه خطابًا مذيلًا بإمضائه، كما سمح له بزيارة نفائس الأسرة الملكية، وقد وصف ذلك في كتابه “في ذلك اليوم شاهدت عددًا لاحد له ولا يحصى من المجوهرات والنفائس مثل حبات الرمل في نهر الكانج، التي من الصعب على المرء أن يتذكر عددها”.
واستكمل السير إلى برودس وقبرص ويافا، حتى وصل إلى القدس، ليعبر عن دهشته ببناء وتصميم المسجد الأقصى الذي قدم له وصفا دقيقًا في كتابه، لافتًا إلى أنه بني في نقطة بأعلى الجبل، “ويبلغ طوله من الجنوب إلى الشمال 650 خطوة، وعرضه من الشرق إلى الغرب 430 خطوة. ويوجد ضريح كبير في أسفله يعد تحفة في الفن المعماري”.
ورغم احتواء الكتاب على توثيق دقيق لمشاهدات العالم الصيني في مكة المكرمة، غير أن أبرز ما جاء فيها مرض الطاعون التي ضرب أهلها في ذلك الوقت، أبريل/نيسان 1845م، فقد وثق وفاة أكثر من ألف مريض في غضون أيام معدودة، تلاه وباء الملاريا الذي لم يقل ضراوة عن الطاعون، وحصدا معًا الآلاف من المسلمين هناك.
وتقديرًا لمسيرة مادا شين الدعوية وخدمات الجليلة في نشر الإسلام داخل الصين وخارجها، نشر مرصد الأزهر الشريف تقريرًا مطولًا قال فيه “إنَّ من يُعطي حياته للإسلام لا يُمكن أن ينساه المسلمون أو يتغافلوا عن دوره” مثمنًا إسهامات الداعية والعالم والمجاهد الصيني طيلة سنوات حياته، حتى تحول إلى أيقونة تتوارثها الأجيال اللاحقة التي تستلهم منه روح المقاومة والصمود رغم ما تواجهه من انتهاكات وتضييق للخناق.