أثار إعلان وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن صفقة أسلحة جديدة لمصر، تتعلق ببيع 23 طائرة هليكوبتر من طراز “شينوك 47-إف”، بقيمة 2.6 مليار دولار، الكثير من التساؤلات عما تحمله هذه الخطوة من دلالات سياسية في هذا الوقت الذي تشهد فيه الساحة الدولية حالة استقطاب حادة جراء الحرب الروسية الأوكرانية المستعرة منذ 24 فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم.
البنتاغون في تبريره لتلك الصفقة أشار إلى أنها تأتي لـ”تدعيم السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي بالمساعدة في تحسين أمن حليف رئيسي من خارج دول الناتو”، في إطار العلاقات القوية التي تجمع الجيش المصري بنظيره الأمريكي منذ توقيع معاهدة السلام مع دولة الاحتلال عام 1979.
وتعد الصفقة هي الثانية هذا العام، ففي 25 يناير/كانون الثاني 2022 وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على صفقة محتملة لبيع 12 طائرة من طراز C-130J Super Hercules والمعدات ذات الصلة مقابل 2.2 مليار دولار، وثلاثة رادارات أرضية من طراز SPS-48 ومعدات ذات صلةٍ مقابل 355 مليون دولار، وذلك تزامنًا مع حجب 130 مليون دولار من المعونة الأمريكية السنوية للقاهرة.
وبعدها في مارس/آذار من نفس العام عبرت الولايات المتحدة عن عزمها بيع مقاتلات “إف-15” لمصر، وسط موجات رفض واستنكار داخل الكونغرس جراء الانتقادات المتواصلة بشأن السجل الحقوقي المصري، فيما تقدم عشرات النواب، جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء، بطلبات رسمية للبيت الأبيض لوقف دعم النظام المصري بالسلاح.
CENTCOM commander during the senate hearing today, Gen. McKenzie talked about the huge possibility of providing Egypt with F-15s. pic.twitter.com/7bPMOrq1uy
— ????? ?? (@TheEgyAnalysis) March 15, 2022
سياق مهم
لا يمكن قراءة الصفقة بعيدًا عن حالة الاستقطاب الهائلة التي فرضها السياق السياسي والأمني والاقتصادي العام عقب الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية بين المعسكرين، الغربي والشرقي، حيث يسعى كل فريق لتعزيز موقفه بأكبر قدر ممكن من الحلفاء.
وفي ظل الوضعية المصرية التي تميل في الغالب إلى الحياد والوقوف على مسافة واحدة من طرفي الأزمة حفاظًا على مصالحها مع الجميع، كانت القاهرة مطمعًا وهدفًا رئيسيًا لكل من موسكو وواشنطن، وهو ما يمكن الوقوف عليه خلال الأشهر الثلاث الأخيرة عبر التصريحات الإيجابية التي يسعى كل معسكر من خلالها مغازلة الطرف المصري.
الميل الخليجي نسبيًا للمعسكر الشرقي عبر رفض ضغوط واشنطن بشأن أسعار النفط وزيادة معدلات الإمدادت، كان له وقعه على هرولة إدارة الرئيس جو بايدن نحو إعادة النظر في مواقفها السابقة إزاء بعض القوى الشرق أوسطية، وفي المقدمة منها القاهرة التي كانت تشوب العلاقات معها توترًا كبيرًا بداية تولي الإدارة الحاليًة الحكم.
تمثل مصر سوقًا رائجًا للأسلحة الأمريكية، لا يمكن التخلي عنه بسهولة في ظل المنافسة القوية من الجانب الروسي الذي بدأ يعزز حضوره التسليحي في المنطقة خلال السنوات الأخيرة
انفصام مصري
تأتي الصفقة المقدر قيمتها بـ2.6 مليار دولار في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تشهدها مصر، حيث الارتفاع الجنوني في حجم الدين الخارجي الذي وصل إلى 145.5 مليار دولار، بزيادة 8.1 مليار دولار عن العام الماضي، هذا بخلاف ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وتدني المستوى المعيشي للمواطنين.
وبلغت فاتورة الصفقات الأمريكية لمصر هذا العام فقط نحو 5 مليارات دولار، هذا بخلاف فاتورة صفقات الأسلحة القادمة من إيطاليا وفرنسا وغيرها من البلدان الأخرى، هذا في الوقت الذي تعاني فيه مصر من هجرة لرؤوس الأموال السائلة، فقد خرج قرابة 20 مليار دولار من السوق المصري منذ بداية الحرب الروسية وحتى اليوم.
يذكر أنه في 15 مارس/آذار الماضي حلت مصر بالمركز الثالث عالميًا في قائمة أكثر الدول استيردًا للأسلحة بنسبة 5.7% من الحصة العالمية خلال خمس سنوات من 2015 – 2021 حسب تصنيف معهد “ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (سيبري)، وفي الوقت ذاته تحتل المرتبة الثانية في الشرق الأوسط بين الدول التي تجمع بين مقاتلتي “F-16″ و”F-15” بعد الاحتلال الإسرائيلي، وأول دولة تشغل المقاتلتين الأمريكيتين بجانب “رافال” الفرنسية و”ميغ-29″ الروسية، بحسب موقع “defense-arabic” المتخصص بشؤون الدفاع والتسليح.
وفي الوقت الذي تعلن فيه الحكومة حزمة تقشف غير مسبوقة وتوقف بعض المشروعات القومية نظرًا لأزمة العملة الأجنبية، في ظل سياسة تصفير الدعم وفرض المزيد من الضرائب على المواطنين المكبلين بارتفاع أسعار كل السلع والخدمات بنسب تتجاوز في بعض الأحيان 200%، إذ بها وعلى الجانب الآخر تستفيض في صفقات السلاح المليارية في تناقض فج أثار الكثير من التساؤلات لدى رجل الشارع بشأن دلالاته ورسائله.
واشنطن والحفاظ على الحلفاء
رغم التوتر الذي ينتاب علاقات البلدين بين الحين والآخر، تبقى مصر حليفًا إستراتيجيًا قويًا للولايات المتحدة لا يمكن الاستغناء عنه لحسابات معقدة، وعليه تأتي تلك الصفقة وغيرها من الصفقات الأخرى في هذا الإطار، الحفاظ على الحليف الأقوى شرق أوسطيًا.
وتحاول الإدارات الأمريكية المتعاقبة ألا يؤثر الملف الحقوقي المصري على منسوب وحجم العلاقات بين البلدين، حتى إن استجابت بين وقت وآخر لضغوط الكونغرس والكيانات الحقوقية الداخلية والدولية، فإنها استجابة مؤقتة لا يمكنها أن تهدد مستقبل هذا التحالف الذي يتعاظم أهميته في ظل موجة الاستقطابات الأخيرة.
وتعي إدارة بايدن أن التلويح بوقف ورقة المساعدات العسكرية وتعكير الأجواء مع الجانب المصري من شأنه أن يساعد بكين وموسكو في خطة تعزيز النفوذ وتوسيع خريطة التحالفات في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن أن يسحب البساط رويدًا رويدًا من تحت أقدام أمريكا.
وفي السياق ذاته تمثل مصر سوقًا رائجًا للأسلحة الأمريكية، لا يمكن التخلي عنه بسهولة في ظل المنافسة القوية من الجانب الروسي الذي بدأ يعزز حضوره التسليحي في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، هذا بخلاف التوسع الفرنسي في المسار ذاته، وهو ما لا يمكن للأمريكان أن يتخلوا عنه بسهولة في ظل البرغماتية البحتة التي تهيمن على السياسة الخارجية لواشنطن.
من الواضح أن الجانب المصري نجح في قراءة العقلية الأمريكية بشكل واضح، حيث تبنى عددًا من السياسات التي استطاع من خلالها تقديم أوراق اعتماده للأمريكان كحليف موثوق فيه لا يمكن التخلي عنه
القاهرة والحاضنة الأمريكية
وعلى الجانب الآخر تنظر القاهرة لواشنطن على أنها حائط الصد الأبرز على المسرح العالمي، والداعم الأكبر لأي نظام يحكم من قصر الاتحادية، ومن ثم يحاول نظام عبد الفتاح السيسي – ومن قبله الأنظمة التي سبقته – الحفاظ على منسوب مقبول من العلاقات – مهما كانت الانتقادات الحقوقية – مع الولايات المتحدة.
ومن الواضح أن الجانب المصري نجح في قراءة العقلية الأمريكية بشكل واضح، حيث تبنى عددًا من السياسات التي استطاع من خلالها تقديم أوراق اعتماده للأمريكان كحليف موثوق فيه لا يمكن التخلي عنه، على رأسها صفقات السلاح وإنعاش الخزانة الأمريكية وطمأنة الأمريكان بشأن مصالحهم في الشرق الأوسط وتوطيد العلاقات مع الحليف الإسرائيلي، هذا بخلاف الدور المحوري في القضية الفلسطينية وهو ما ظهر جليًا خلال الآونة الأخيرة، وأجبر بايدن على مهاتفة السيسي رغم القطيعة بداية فترة حكمه.
من جانبه يرى رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان المصري سابقًا، رضا فهمي، أن هناك 3 أبعاد رئيسية يمكن من خلالها قراءة توالي صفقات السلاح الأمريكية لمصر، أولها يتعلق بأفول النجم الأمريكي وضعف قبضته على المشهد برمته كما كان سابقًا، والثاني الحاجة لحشد دولي ضد روسيا في حربها مع أوكرانيا في ظل المخاوف من انتقال عدوى الحرب لدول أوروبية أخرى، أما البعد الثالث فيتمحور في الملف الحقوقي الذي توظفه واشنطن لخدمة أغراضها السياسية.
ويشبه السياسي المصري في حديثه لـ”عربي 21″ الدور الذي يقوم به السيسي بـ”السمسار” الذي يدفع لمصلحته وليس مصلحة البلد على حد قوله، ومن ثم فهو يميل أكثر لمن يقدم له الحماية والدعم الأكبر، دون الالتزام بأي أيديولوجيات أو أخلاقيات التحالف، ومن ثم فإن تمرير تلك الصفقات في الوقت الحاليّ لمصر “نوع من لجم أو كبت جماح السيسي تجاه روسيا، في وقت تريد أمريكا أن يُظهر للعالم كله كأنه ضد التدخل الروسي على حدود أوروبا”.
وفي الأخير فإن لغة المصالح هي الأكثر سيطرة واستحواذ على إدارة المشهد العالمي، فالأمريكان اليوم بحاجة للنظام المصري للحفاظ على مصالحهم في الشرق وضمان تفوقهم في صراع القطبية، وعلى الجانب الآخر يسعى النظام المصري لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من حالة الاستقطاب الحاليّة، لتسقط معها شعارات المثالية الأخلاقية الحقوقية التي ترفعها واشنطن ومعها كذلك عبارات الاستقلال والسيادة والندية التي تتشدق بها القاهرة.