يشكّل الإسلام أحد أبرز الملفات التي تستحوذ على اهتمام الإعلام في بلجيكا، حيث تحوّلَ خلال السنوات الأخيرة إلى القضية الأكثر حضورًا على موائد النقاش، رغم أن الإسلام يأتي في المرتبة الثانية في قائمة أكثر الأديان انتشارًا في المجتمع البلجيكي.
ورغم الخطوات التي قطعها المسلمون للاندماج المجتمعي هناك، لا سيما بعد اعتراف الحكومة البلجيكية بالإسلام كدينٍ رسمي منذ عام 1974، إلا أن هناك حالة من القلق من تنامي أعداد المسلمين، إذ يُنظَر إليهم من قبل الشعبويين على أنهم خطر يحدق بأمن واستقرار البلاد، وعليه يجب أن يُوضَع دائمًا تحت الاهتمام والمتابعة.
وتشير التقديرات غير الرسمية إلى أن المسلمين يتراوحون ما بين 700 ألف و800 ألف نسمة، يشكّلون نسبة 7-8% من إجمالي عدد سكان بلجيكا، تتمركز الأغلبية منهم في بروكسيل بنسبة 23.6% من إجمالي سكان العاصمة، ثم الفلاندر (شمالًا) حيث يمثلون 5.1% من تعداد الإقليم، ثم فالونيا بنسبة 4.9% من إجمالي السكان.
عمل فمواطنة
تعود العلاقة بين المسلمين كجالية وبلجيكا إلى ستينيات القرن الماضي، إذ كانت بروكسيل كغيرها من عواصم أوروبا قِبلة المهاجرين العرب والمسلمين من آسيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وكان الهدف الأساسي من الهجرة العمالة والبحث عن مصادر دخل أفضل ممّا هي عليه في بلدان المهاجرين الأصلية.
واحتلَّ المغاربة والأتراك قائمة المهاجرين الأكثر إقبالًا على بلجيكا، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال قراءة الخارطة الديموغرافية للجالية المسلمة، والتي تسيطر جنسيات المغرب وتونس والجزائر مع تركيا ثم مصر على معظمها، خاصة في العاصمة بروكسيل التي يمثل المسلمون أحد أضلاعها الرئيسية.
ورغم إلغاء برنامج “العامل الضيف” في بلجيكا عام 1974، والذي منعَ بقاء العمّال لفترات طويلة وحالَ دون استقدام ذويهم، إلا أن كثيرًا من المهاجرين استغلوا بعض قوانين لمّ شمل الأسرة للالتفاف على هذا القانون وجلبوا عائلاتهم وأقاموا في البلاد، مكوّنين النواة الأولى للجالية المسلمة هناك.
وفي عام 1967 أهدى ملك بلجيكا الراحل، بودوان الأول، العاهل السعودي الملك فيصل آل سعود، قطعة أرض ملاصقة لمتحف الآثار بوسط العاصمة، وعلى بُعد أمتار قليلة من المجلس الأوروبي، بهدف إنشاء مركز ثقافي للمسلمين لرعاية شؤونهم والقيام على خدمة أبناء الجالية.
وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 انتابت تلك العلاقات بعض الفتور نتيجة خطاب الكراهية المتصاعد، ما أدّى في النهاية إلى تضييق الخناق على بعض المظاهر الإسلامية الخاصة بالزيّ، كحظر ارتداء النقاب والحجاب في المناطق العامة، وتعرُّض السيدات المسلمات لمضايقات بسبب زيّهن، هذا بجانب فرض غرامات على من يخالف تلك القوانين.
تنامي المسلمين.. مم القلق؟
عام 2013 نشر الخبير في علم الاجتماع، فيليتشه داسيتو، دراسة له قال فيها إن المسلمين سيمثلون غالبية سكان بروكسيل بحلول عام 2030، وقد ينسحب الأمر على بقية المدن، وأن النسبة ستتضاعف خلال السنوات القادمة بشكل ممنهَج، مقارنة بنسبة الزيادة في أعداد المسيحيين، لتصل معدلات الزيادة بين مسلمي بلجيكا إلى واحدة من أعلى المعدلات في أوروبا.
أثارت الدراسة قلق وحفيظة العديد من التيارات المسيحية في بلجيكا، ووجدَها الشعبويون فرصتهم السانحة للهجوم على الإسلام وتقليم أظافر المسلمين، وبالفعل بدأت تظهر على السطح عشرات التقارير التي تحذِّر ممّا أسمته “المدّ الإسلامي” وزيادة نفوذ الأقلية المسلمة، بما يهدد مستقبل التماسُك المجتمعي البلجيكي.
كشفَ مرصد الأديان والعلمانية التابع للجامعة الحرة في بلجيكا، في تقريره السنوي الصادر عام 2015 بشأن استقصاء وضع الأديان في البلاد، عن حالة اهتمام غير مسبوقة بالإسلام لدى المجتمع البلجيكي، ويعود هذا الاهتمام إلى تنامي القلق من التطرُّف والإرهاب، خاصة بعد الحديث عن انضمام بعض المنتمين للإسلام إلى تنظيم الدولة “داعش” في أعقاب الهجوم على المتحف اليهودي عام 2014.
الباحثة كارولين ساجيسير، التي شاركت في إعداد التقرير، استنكرت التركيز الإعلامي البلجيكي على تنظيم الدولة وتصديره على أنه عنوان الإسلام والمسلمين الوحيد، بما يوحي اختزال الفكر الإسلامي برمّته في هذا التنظيم، وأن هذا مخالف للواقع وفيه تجاهُل واضح لحقيقة تنوُّع المسلمين في فكرهم ومذاهبهم.
كما تطرّق التقرير إلى اتّساع رقعة الحضور المجتمعي للمسلمين من خلال زيادة الجمعيات الخاصة بهم، والتي تقوم على تسيير شؤون الجالية بشكل دفع للتساؤل عمّا إذا كان ذلك قد يقود في النهاية إلى خلق ركيزة إسلامية للمجتمع البلجيكي على غرار الركيزة المسيحية التي تشكّل الضلع الأبرز في المجتمع، غير أن التقرير أشار إلى أنه من المبكّر الردّ على هذا التساؤل.
أكثر الأقليات اندماجًا
“من أكثر البلدان التي تولي اهتمامًا كبيرًا للجالية المسلمة من حيث التعليم والمدارس الإسلامية ودعم المساجد والدعوة بصفة عامة، رغم أن المسيحيين هم الأغلبية”، هكذا علّق سيد مقبل، الطبيب البلجيكي المسلم (من أصول مصرية) على العلاقة بين المسلمين والمجتمع البلجيكي.
ويشير مقبل في حديثه لـ”نون بوست” أنه منذ قدومه إلى بروكسيل عام 1997 لم يشعر يومًا ما أنه في وطن غريب عنه إلا بعد عام 2016، حين تنامى نفوذ اليمين المتطرف بسبب بعض الجرائم التي وقعت ونُسبت إلى إسلاميين، لكن في المجمل يتميّز البلجيكيون بأنهم من أكثر شعوب أوروبا احتواء للأقليات، ويأتي في المقدمة منهم المسلمون.
وأوضحَ أن كافة المجالات التي يحتاجها المسلمون من تعليم ومدارس ومساواة في الوظائف وحرية الاعتقاد والعبادة، متوفِّرة بصورة جيدة إلى حدٍّ ما، وأن حالات التوتر التي تشهدها العلاقة بين الدولة والجالية تكون ردود أفعال لوقائع وأحداث، لكن سرعان ما تعود الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى.
ويتّفق مع هذا الرأي الباحث محمد البطيوي، الذي أشار إلى أنه منذ اعتراف الدولة بالدين الإسلامي سبعينيات القرن الماضي وأصبح الإسلام جزءًا لا يتجزّأ من المجتمع البلجيكي، لافتًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن الحكومة هي من تموِّل المساجد وتدفع رواتب الأئمة والدعاة، بل -وعلى عكس معظم دول أوروبا- تخصِّص مساحات كبيرة كمدافن للمسلمين.
وكشف عن بعض المؤشرات التي تبرهنُ على حالة الاندماج القوية، منها تولي العديد من المسلمين مناصب مهمة في السلك التنفيذي للبلاد سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، بل إنه سُمح للمسلمين بتأسيس حزب إسلامي تحت مسمّى “حزب الإسلام”، وقد نجح في إيصال عضوَين إلى إحدى بلديات بروكسيل بحسب البطيوي، الذي أكّد على أن “الإسلام ينغرس شيئًا فشيئًا في بلجيكا رغم بعض الصعوبات”.
أما الكاتب ياسين رواشدة أشار إلى أن قرابة نصف سكان العاصمة بروكسل مسلمون، وبلغ الاندماج إلى أن وصل أحدهم إلى منصب نائب رئيس للوزراء، هذا بجانب نواب ومحافظين مسلمين وعرب في مواقع عديدة في الدولة، منوّهًا أن من مظاهر احترام بلجيكا للإسلام أن تحمّلت نفقات 250 إمام مسجد يتقاضون رواتبهم من وزارة العدل البلجيكية.
هذا بجانب أحقّية المسلم في حصول أبنائه على دروس في التربية الإسلامية داخل المدارس البلجيكية، وأقرّت وزارة التعليم هناك مادة الدين الإسلامي في المدارس الرسمية بمعدّل ساعتَين في الأسبوع للمسلمين، فضلًا عن وجود أكثر من 300 مسجد تعلِّم بأريحية كاملة دون تضييق.
حضور سياسي قوي
عام 2018 نشر معهد جيتستون للسياسة الدولية تقريرًا له تناول مخاوف اليمين المتطرف البلجيكي من تنامي شعبية “حزب الإسلام” الذي بدأ يتصاعد نفوذه بطريقة أقلقت الكثير من النخبة، فيما نقلَ المعهد عمّا أسماهم قادة الحزب بأنهم ينوون تحويل بلجيكا إلى دولة إسلامية يسمّونها “الديمقراطية الإسلامية”، والتحذير لم يكن نظريًّا فقط، بل كشف التقرير عن موعد تحقيق هذا الوعد، وحدّد له تاريخه الرسمي عام 2030.
ثلث سكان بروكسيل حاليًّا من المسلمين
معدّ التقرير، جوليو ميوتي، المحرر الثقافي لمجلة “إل فوليو”، أطلق صرخة تحذير إلى الأحزاب العلمانية للتصدي للحزب الإسلامي، بدعوى أنه يعزف على أوتار التطرف وتهديد الاستقرار الأمني والمجتمعي لبلجيكا، مختتمًا تحذيره بالتساؤل: “هل حان الوقت يا ترى كي تستيقظ بلجيكا النائمة؟”.
أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الكاثوليكية في لوفان، أوليفييه سيرفيه، أوضح أن ثلث سكان بروكسيل حاليًّا من المسلمين، وأنه نظرًا إلى ارتفاع معدل الخصوبة لدى المسلمين فسيصبحون الأغلبية في غضون 15-20 عامًا، منوّهًا أنه منذ عام 2001 يُعدُّ اسم محمد هو الاسم الأكثر شيوعًا للأولاد المولودين في بروكسل.
نجح المسلمون داخل الحزب في توسيع دائرة نفوذهم عامًا تلو الآخر، ولعلّ هذا سبب قلق الحزب الاشتراكي وبقية الأحزاب العلمانية الأخرى، ففي عام 2012 رشّح الحزب مرشحين في 3 بلديات فقط، نجحَ منهم اثنان في مولنبيك وأندرلخت، فيما خسرَ البلدية الثالثة في بروكسيل بفارق ضعيف، وفي انتخابات 2014 حقّق الحزب نجاحًا غير مسبوق، حين حصد 9421 صوتًا (ما يقارب الـ 2% من الأصوات) ووسّع قاعدته في مدينتَي بروكسل ولييج.
العنصرية وتنامي اليمين المتطرف
تحوُّل واضح في مستوى ومضمون خطاب الكراهية العنصري ضد المسلمين قبل عام 2015 وبعده، فمع تنامي نفوذ اليمين المتطرف مع موجات الهجرة، وما تبعه من تفجيرات بروكسل عام 2016 التي أودت بحياة 32 شخصًا وإصابة 300 آخرين، التي استغلها الشعبويون، بات المسلمون في مرمى الانتهاكات المتواصلة.
يقول رئيس الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا، محمد أوستون، إن الهيئة التي تُعدّ أبرز الكيانات التي تمثل الجالية المسلمة في بلجيكا تتعرض لضغوط قوية، منوهًا أن أعضاءها يُستهدَفون من قبل الأحزاب اليمينية في البلاد لتحقيق مكاسب سياسية، بحسب تصريحاته لـ”الأناضول“، وأن هناك مساعي يقودها وزير العدل البلجيكي، فينسينت فان كويكنبورن، لإلغاء الاعتراف بالهيئة بزعم أنها لا تمثل المسلمين.
وفي السياق ذاته، يقع الكثير من الأئمة والدعاة في مستنقع حملات التشكيك والاتهامات من قبل الإعلام البلجيكي الموجَّه من اليمين المتطرف، والذي تبنّى لغة عنصرية تستهدف تشويه الإسلام والمسلمين ونعتهم بصفات تحمل نوعًا من الاتهامات التي تزيد من زيادة خطاب الكراهية، كـ”المجاهدين” و”الأصوليين” وغيرهما من المصطلحات التي يحاول الإعلام هناك الربط بينها وبين التنظيمات المتطرفة، وهو ما نجم عنه تعرُّض بعض الأئمة للاغتيال، أبرزهم إمام ومدير المركز الإسلامي في بروكسل، عبد الله محمد قاسم الأهدل، عام 1989، وأحد الأئمة الشيعة في مدينة أندرلخت عام 2012.
أوضحت مديرة مركز “أونيا” لمكافحة العنصرية في بروكسيل، إيلس كيتسمان، أن المجتمع البلجيكي تغيّر بعد هجمات عام 2016 التي أثّرت على الجميع، وكان المسلمون الأكثر تضررًا، مضيفة في تصريحاتها لـ”الشرق الأوسط” أن التلاميذ المسلمين كانوا يرفضون الذهاب للمدارس خشية التعرض لمضايقات عنصرية، بعد تصاعُد خطاب الكراهية من قبل المعلمين وزملائهم من أبناء الديانات الأخرى، كما تمَّ منع الفتيات من ارتداء الحجاب، وفُرضت تضييقات على حصول المسلمين على مساكن وفرص عمل.
وكشف تقرير لمرصد الأديان والعلمانية البلجيكي عن تلقّي الحكومة 4627 شكوى متعلقة بالتمييز ضد مسلمين، عام 2015، فيما تمَّ فتح 1670 ملفًّا للتحقيق، وهي النسبة الأعلى مقارنة بالأقليات الأخرى، أما في عام 2018 ارتفعت الشكاوى -بحسب كيتسمان- لتصل إلى 7500 شكوى، فُتح التحقيق رسميًّا في 2200 منها.
على كل حال، يبذل المسلمون جهودًا مضنية لتخفيف حدّة خطاب الكراهية المتصاعد ضدهم منذ عام 2016، مستغلين نفوذهم السياسي والمجتمعي، وشبكة علاقاتهم القوية المنخرطة داخل المجتمع البلجيكي، الذي يرى كثيرون من أبناء الجالية المسلمة أنه الضمان الأبرز لتواجدهم.