ترجمة وتحرير: نون بوست
تفاخرت منظمة “شراكة” الإسرائيلية الخليجية غير الحكومية المشتركة مؤخرًا بتنظيم بعثة عربية إلى معسكر “أوشفيتز” لإحياء ذكرى الهولوكوست. وضمت البعثة ناشطين وسياسيين وإعلاميين من سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر والمغرب وتركيا والقدس الشرقية المحتلة والإمارات العربية المتحدة والبحرين.
تأسست منظمة “شراكة” أواخر سنة 2020 بعد توقيع اتفاقيات إبراهيم، وهي تهدف إلى “إنشاء روابط بين قادة الشباب الإسرائيلي والخليجي”. شارك حوالي 100 مواطن فلسطيني من عرب “إسرائيل” في إحياء ذكرى الهولوكوست. وبينما فشل المندوبون العرب الذين تحدثوا إلى وسائل الإعلام في ذكر الاضطهاد الاستعماري الإسرائيلي المستمر للشعب الفلسطيني، فقد تحدثوا عن كيفية إحياء ذكرى الهولوكوست وسعيهم لتعزيز العلاقات العربية الإسرائيلية ورؤية “العرب يجتمعون مع الإسرائيليين طواعية”.
منذ الحرب العالمية الثانية وقيام “إسرائيل” سنة 1948، ارتبط التاريخ العربي الفلسطيني والتاريخ اليهودي ارتباطا وثيقًا. وقد استغل الصهاينة الإسرائيليون بعض الأحداث في التاريخ اليهودي، بما في ذلك الهولوكوست، لأغراض دعائية لتأكيد “حقهم” في احتلال فلسطين – التي استعمروها قبل نصف قرن من الإبادة الجماعية. ومن خلال استغلال الهولوكوست، تؤكد “إسرائيل” أن أي اعتراف بالإبادة الجماعية هو اعتراف بـ “حق “إسرائيل” في الوجود كدولة يهودية”، وأي محاولة لإنكار هذا الحق هي إنكار للهولوكوست.
تم تكريس هذه الصيغة في إعلان 1948 لتأسيس دولة إسرائيل: “المحرقة النازية، التي ابتلعت ملايين اليهود في أوروبا، أثبتت من جديد الحاجة الملحة لإعادة تأسيس الدولة اليهودية التي من شأنها أن تحل مشكلة تشرد اليهود من خلال فتح الباب أمام جميع اليهود وتحقيق المساواة للشعب اليهودي في الحضيرة الدولية”.
بدأت “إسرائيل” الاستفادة من الهولوكوست بقدر أكبر من الإلحاح في ستينات وسبعينات القرن الماضي لتبرير العنف الاستعماري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وقد دُعي الفلسطينيون وغيرهم من العرب لتقبّل الصلة بين الهولوكوست و”حق “إسرائيل” في الوجود كدولة يهودية” باعتبارها صفقة شاملة. وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق دافيد بن غوريون بشكل لا لبس فيه أن “الدولة اليهودية وريثة ستة ملايين يهودي ماتوا في الهولوكوست، إنها الوريث الوحيد”.
فخ أيديولوجي
تباينت ردود فعل الفلسطينيين والعرب إزاء هذا الارتباط. رأى البعض من الذين وقعوا في الفخ الأيديولوجي الصهيوني أنه إذا كان قبول الهولوكوست يعني قبول حق “إسرائيل” في أن تكون دولة استيطانية استعمارية وعنصرية، فيجب إنكار الهولوكوست أو على الأقل التشكيك في صحته. سعت منظمة التحرير الفلسطينية، إلى جانب العديد من المثقفين العرب، بنشاط لفك الارتباط بين الحدثين. وقد أدانت “إسرائيل” هذه المحاولات التي ترفض أيضًا الادعاء الفلسطيني بأن الناجين من المحرقة غادروا أوروبا كلاجئين لكنهم وصلوا إلى فلسطين كمستوطنين استعماريين مسلحين.
وفقًا لكتاب حنا يابلونكا (بعنوان “الناجون من الهولوكوست)”، فإن حوالي 22 ألف جندي أو ثلث الجيش الصهيوني “الهاغاناه” ونصف قوتها المقاتلة خلال حرب 1948 كانوا من الناجين من المحرقة – وهو أمر بالغ الأهمية – وقد شاركوا في طرد الفلسطينيين وفي ارتكاب العديد من المجازر المروّعة. ويشير الصحفي والمؤرخ الإسرائيلي توم سيغف في كتابه “المليون السابع” إلى أن الناجين من الهولوكوست شاركوا أيضًا في سرقة ونهب الممتلكات الفلسطينية.
نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية صورة لجنود إسرائيليين يطردون فلسطينيين مع تعليق يقول “لاحظ الرقم الموشوم على ذراع الجندي الحارس”. وكثير من المهاجرين الذين مروا بجحيم معسكرات الاعتقال الأوروبية يفتقرون إلى التعاطف تجاه الأسرى العرب. فعلى سبيل المثال، قام الناجون من انتفاضة “غيتو وارسو” ببناء كيبوتس لوهامي هجيتو، الذي يضم متحف مقاتلي الغيتو، على أنقاض قرية السميرية الفلسطينية المدمرة التي طُرد سكانها خلال حرب 1948. وجادل العديد من الفلسطينيين بأن الهولوكوست كانت جريمة أوروبية مسيحية دفع ثمنها الشعب الفلسطيني.
لطالما ميّزت منظمة التحرير الفلسطينية دائمًا بين الصهاينة واليهود، وهي من هذه الناحية تختلف اختلافًا كبيرًا عن “إسرائيل” وأنصارها الذين يعتبرون الصهيونية وإسرائيل مرادفة “لليهودية” ويدعمون مطالبة الصهيونية الاستعمارية بفلسطين على أساس اليهودية. وقد رفضت منظمة التحرير الفلسطينية هذا الاقتران، ووصفت “إسرائيل” بأنها ليست “دولة يهودية” بل “كيانًا صهيونيًا“. وهو ما تعتبره “إسرائيل” علامة على معاداة السامية الفلسطينية.
تحرص منظمة التحرير الفلسطينية على إظهار تعاطفها مع ضحايا الهولوكوست اليهود وإدانة النازيين. وعندما ألقى الزعيم الفلسطيني السابق ياسر عرفات كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974 “أدان بشدة مذابح اليهود في ظل الحكم النازي” وأكد أن النضال الفلسطيني ليس ضد اليهود بل ضد “الصهيونية العنصرية”. وفي السنوات الأخيرة، تبنت حماس هذا الموقف حرفيا تقريبًا.
وبعد استعراض الفظائع البريطانية والصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، أكد عرفات أن فلسطين “تشجب كل تلك الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود والتمييز الحقيقي الذي عانوا منه بسبب عقيدتهم”.
ضحايا النازيين الجدد
في الذكرى الأربعين لانتفاضة “غيتو وارسو” التي تعود لسنة 1943، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية عن خطط لوضع إكليل تذكاري على نصب “غيتو وارسو” التذكاري لتكريم “اليهود الأبطال”.
وخلافًا للبعثة التابعة لمنظمة “شراكة”، التي تسعى للتعبير عن تضامنها مع “إسرائيل” وليس مع اليهود ضحايا الهولوكوست، قال فؤاد ياسين ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بولندا إن اليهود الذين ماتوا وهم يقاتلون لصد المحتلين الألمان هم “رفاقنا وإخواننا … نحن نعتبر هؤلاء اليهود أبطالًا”.
أثارت خطة منظمة التحرير الفلسطينية على الفور حفيظة قادة مركز سيمون فيزنتال، وهي مجموعة أمريكية تشارك في إحياء الذكرى. أعرب الحاخام ألكسندر شندلر، رئيس الوفد الأمريكي، عن غضبه قائلاً إن “مشاركة أولئك الذين يقتلون النساء والأطفال اليهود ويحتفلون بذبح الأبرياء يُمثّل استهزاءً بشعًا بكل ما تمثّله هذه الذكرى”.
يعتقد ياسين أن الفلسطينيين أرادوا تكريم أبطال انتفاضة غيتو وارسو لأننا “ما زلنا نواجه هذا النوع من الفاشية ضد شعبنا”. خلال إحياء الذكرى وضع ياسين رفقة أعضاء آخرين من بعثة منظمة التحرير الفلسطينية، إكليل زهور على النصب وقال: “لقد وضعت إكليلا من الزهور لأن الشعب اليهودي كان ضحية النازية والشعب الفلسطيني هو ضحية النازيين الجدد … وهم الصهاينة وإسرائيل”. ونتيجة لذلك، أمرت “إسرائيل” مندوبيها بالعودة إلى ديارهم احتجاجًا على ذلك.
لم تُثبّط اتفاقيات أوسلو لسنة 1993 محاولات “إسرائيل” تشبيه الفلسطينيين بالنازيين. وعندما خطط الرئيس البولندي آنذاك ليخ فاونسا لدعوة الفائزين بجائزة نوبل للسلام بمن فيهم عرفات إلى الذكرى الخمسين لتحرير أوشفيتز في كانون الثاني/ يناير 1995، انتفض الناجون من الهولوكوست ومسؤولو ياد فاشيم والجماعات اليهودية على الأمر.
صرح رئيس منظمة آنذاك منغيله توينز أن “عرفات لا يجب أن يتواجد في أوشفيتز … لأنه يمثّل استمرارًا لما فعله [النازيون]”، كما دعا الكونغرس اليهودي الأوروبي إلى مقاطعة الحدث لأن عرفات “يمثل معاناة كبيرة للشعب اليهودي”. ومع تصاعد الضغط على الحكومة البولندية، قرر فاونسا التراجع عن دعوة الفائزين بجائزة نوبل.
غضب شعبي عارم
تمكنت إدارة كلينتون من إقناع عرفات في سنة 1998 بزيارة متحف ذكرى الهولوكوست في واشنطن العاصمة، لكن المتحف رفض في المقابل استقبال عرفات. حذّر أعضاء الجالية اليهودية الأمريكية مدير المتحف والتر رايش من أن “[عرفات] هو تجسيد لهتلر”. وبينما أشاد المسؤولون الإسرائيليون بهذا الرفض، اندلع احتجاج عام في واشنطن.
رغم التمرد الذي واجهه من قبل مجلس إدارة المتحف، وجه مايلز ليرمان، رئيس مجلس ذكرى الهولوكوست، دعوة إلى عرفات. أوضح مسؤول بالسفارة الإسرائيلية أنه إذا كان عرفات “سيتعرف بالهولوكوست دون إنكاره، سيكون ذلك للأفضل”، كما أضاف رئيس مديرية ياد فاشيم: “ربما ذلك سيجعل عرفات أكثر ترددًا في إنكار [الهولوكوست]”.
إن حقيقة عدم إنكار عرفات أو منظمة التحرير الفلسطينية للهولوكوست والتعبير عن تضامنهما الدائم مع ضحاياه ليس له أي أهمية وسط مثل هذه الدعاية. في النهاية، اختار عرفات عدم قبول الدعوة. وفي ظل الدعوة المتأخرة إلى المتحف، لم يعد الإجماع الصهيوني والإسرائيلي على عرفات والمحرقة قائما. ومع استمرار الإدانة الإسرائيلية لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية وأي محاولة فلسطينية لإظهار التضامن مع الهولوكوست إلى غاية 1994، كان هذا التغيير المفاجئ في موقف “إسرائيل” مرتبطا باستسلام عرفات لها.
لم تكن زيارة عرفات المرتقبة للمتحف لتكون بمثابة تضامن بين شعب ظل ضحية للقمع وشعب آخر كان في الماضي ضحيّة للاضطهاد ولم يعد كذلك، وإنما كانت لتعتبر تأكيدًا من جانب عرفات أنه يتفهم ويتعاطف مع “إسرائيل” وأنه سامحها على جرائمها منذ توقيع اتفاقيات أوسلو.
المطالب الإسرائيلية بأن يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى الهولوكوست لا تتعلّق بالمحرقة على الإطلاق بل بالاعتراف “بحق “إسرائيل” في الوجود” كدولة يهودية عنصرية مستعمرة استيطانية
كانت زيارة عرفات تهدف إلى التأكيد على موافقة الفلسطينيين على الإشارة إلى الهولوكوست على أنه تبرير لـ “حق “إسرائيل” في الوجود” ككيان استيطاني-استعماري. تشبه زيارة عرفات المرتقبة زيارة أنور السادات إلى ياد فاشيم في 1977 صحبة مناحيم بيجن. وكانت زيارة السادات، مثلها مثل زيارة عرفات، بمثابة خضوع رمزي للاستيلاء الإسرائيلي على الهولوكوست.
في الواقع، بدأ خضوع منظمة التحرير الفلسطينية لإعادة كتابة “إسرائيل” لتاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قبل أوسلو. أسفر مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1991 عن إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة 1975، الذي وصف الصهيونية بأنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، في كانون الأول/ ديسمبر 1991.
قال سفير “إسرائيل” لدى الأمم المتحدة آنذاك، حاييم هرتصوغ، لأفراد بعثة الجمعية العامة عندما تم تمرير القرار في سنة 1975، الذي انتقد الاحتجاجات ضد العنصرية الإسرائيلية على أنها معاداة السامية للإبادة الجماعية، إن هتلر كان سيشعر بأنه واحد منهم.
إن المحاولة الإسرائيلية المستمرة لإشراك الفلسطينيين وغيرهم من العرب في تاريخ المحرقة هي في الواقع محاولة لصرف الانخراط الفلسطيني والعربي عن الحاضر الصهيوني اليهودي والإسرائيلي وتبرير جرائم “إسرائيل” المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
إن المطالب الإسرائيلية بأن يحيي الفلسطينيون والعرب ذكرى الهولوكوست لا تتعلّق بالمحرقة على الإطلاق بل بالاعتراف “بحق “إسرائيل” في الوجود” كدولة يهودية عنصرية مستعمرة استيطانية والخضوع لها. استسلمت السلطة الفلسطينية لهذه المطالب قبل ثلاثة عقود، مثلما استسلمت الحكومات العربية التي وقّعت اتفاقات سلام مع إسرائيل، لكن الشعبين الفلسطيني والعربي لم يتوقفا عن مقاومة إعادة كتابة “إسرائيل” للتاريخ الفلسطيني واليهودي.
المصدر: ميدل إيست آي