يعيش قاطنو مخيم الركبان، شرق سوريا، والواقع قرب مثلث الحدود السورية – الأردنية – العراقية، في ظروف معيشية صعبة مع انعدام كامل لمقومات الحياة، إثر سياسة التضييق والحصار التي تفرضها قوات النظام السوري والميليشيات الموالية له محيط المنطقة.
وشددت قوات النظام وميليشياته قبل أكثر من شهر من حصارها عبر منع دخول المواد الغذائية والأدوية والمساعدات الإنسانية إلى المخيم عبر طرق التهريب، ما خلّفَ كارثة إنسانية بحقّ العائلات التي تقطن المخيم، والتي تعاني أساسًا من ظروف متردّية ما زالت ترافقها منذ أعوام.
تفاقُم المعاناة
يعيشُ أبو محمد في مخيم الركبان مع أفراد عائلته المكوَّنة من 6 أشخاص، ويعاني الرجل من ظروف معيشية سيّئة للغاية، كونه لا يملك مردودًا ماليًّا أو عملًا يوفِّر احتياجات أسرته، وإنما يعتمدُ على الحوالات المالية المتقطِّعة التي تُرسل من أقاربه في دول اللجوء السوري.
تفاقمت حالة أبو محمد المعيشية بعدما أقدمَ النظام على منع دخول المواد الغذائية والأدوية، مثله مثل باقي قاطني المخيم الذين لا يستطيعون شراء ما توفّر من حاجياتهم في السوق بسبب ارتفاع الأسعار واستغلال حاجة الناس، كونها تدخل عبر خطوط التهريب التي يعمل بها مهرّبون يتبعون لقوات النظام.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تتراوح تكلفة طهي وجبة الطعام اليومية نحو 20 إلى 30 ألف ليرة سورية، ورغم أن المبلغ لا يساوي دولارات معدودة لكنني لا أملكه، كون الحوالات المالية غير دائمة ولا أملك عملًا يعود عليّ بمردود مالي”.
وأضاف: “صراحة الأكل لا نشبعه والماء نتحسّر عليه، بالإضافة إلى الغبار والحر الشديد اللذين يرافقاننا منذ سنوات، وغياب فعلي للكوادر الطبية والأدوية، ما قد يوصلنا إلى مرحلة إذا رأيت ابنك يموت أمامك وأنت غير قادر على تقديم شيء له، ماذا تفعل؟ أتوقع لا يوجد أصعب من هذا الشعور، نحن مسجونون داخل منطقة تُسمّى الـ 55 لا يتوفر فيها شيء من مقومات الحياة، وأتوقع إذا عدنا إلى مناطق النظام ستتمّ ملاحقتنا ووضعنا في السجن، لكن في المقابل سيكون هناك منزل يأوي أطفالي ويشعرون بشيء من الحياة”.
غياب الخدمات
تكاد الخدمات أن تكون معدومة كليًّا في مخيم الركبان، لا سيما شحّ المياه الواردة من الأردن، وتكاليف نقلها إلى المخيم تتراوح بين 6 إلى 10 آلاف للألف ليتر ماء، ما يُثقل كاهل الأهالي كونها تصل إلى الساتر الترابي الذي يعزل الحدود السورية – الأردنية، بينما تُعتبر الكهرباء شيئًا من الماضي، وتكلفة الحصول عليها من المولدات الكهربائية كبيرة بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، حيث لا يستطيع قاطنو المخيم تأمين تكاليفها.
أما عن الخدمات الطبية والصحية، فيتواجد في مخيم الركبان نقطتان طبّيتان، الأولى داخل المخيم تقدِّم خدمات طبية نسائية، في ظل الغياب الكامل للأجهزة الطبية اللازمة لإجراء العمليات الجراحية، والثانية تبعد نحو 7 كيلومترات عن المخيم، ورغم تصنيفها من النقاط الطبية المدعومة من الأمم المتحدة، إلا أنها تفتقر للأطباء والأدوية والمعدّات.
وقال أبو محمد: “نرسل المرضى إلى مناطق النظام عبر طرق التهريب لعلاجهم وضمان عودتهم بتكاليف باهظة الثمن، لأن إرسالهم عن طريق المنظمات سواء الأمم المتحدة أو الهلال الأحمر لا يضمن العودة إلى المخيم مرة أخرى”.
مكملًا: “تنتشر العديد من الأمراض بين الأطفال أبرزها اليرقان، والديدان في الأمعاء، والتهاب الرئتين والربو، بينما يعاني مرضى السكر والضغط والقلب من فقدان الأدوية في الصيدليات الموجودة في المخيم، مع ارتفاع أسعارها في حال وفّرتها خطوط التهريب”.
وبعد مضيّ أزيد من شهر على تشديد الحصار المفروض من قبل النظام وميليشياته على مخيم الركبان، يناشد الأهالي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لمساعدة قاطني المخيم لأنهم يفتقرون لأدنى مقومات الحياة في منطقة صحراوية لا يمكن العيش فيها.
سياسة الحصار والجوع
بعد تضييق النظام حصاره المفروض على قاطني مخيم الركبان، بدأ ما تبقّى من سكان المخيم يفكرون مليًّا بمصيرهم، بعدما عاد عدد من العائلات خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى مناطق النظام نتيجة سياسة التجويع التي يتّبعها في ظل صمت دولي لما يجري لسكان المخيم منذ سنوات حتى اللحظة.
قال رئيس المجلس المحلي لمخيم الركبان، محمد أحمد درباس، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يضيّق النظام على سكان المخيم من خلال قطع الطرق التي تؤدي إلى مخيم الركبان وتصله بمختلف المحافظات السورية، حيث تمَّ نشر ميليشيات إيرانية وسورية ولبنانية على حدود منطقة الـ 55، ما يمنع خروج الأهالي إلى الشمال السوري أو تدفُّق المواد الغذائية وغيرها من احتياجات قاطني المخيم”.
وأضاف: “بدأ النظام التضييق على سكان مخيم الركبان منذ عام 2019، عندما تحول دخول المساعدات من الحدود إلى الخطوط، واستلام النظام لملف المساعدات وسرقته، حيث انخفض عدد سكان المخيم تدريجيًّا من 70 ألف نسمة حتى 7500، بعد توجُّه عدد منهم إلى الشمال السوري وإلى مناطق النظام بعد عمليات التسوية التي أشرفت عليها روسيا”.
وأوضح: “يسعى النظام من خلال سياسة التجويع والحصار، والتغاضي الدولي عن انتهاكاته، إلى تفكيك المخيم وعودة الأهالي إلى مناطق سيطرته، ونتيجة التضييق الأخير بدأت العائلات فعليًّا تعود إلى مناطق النظام بسبب انتشار الجوع والأمراض، بعدما أغلقت أبواب التهريب من قبل النظام إلى الشمال السوري”.
العودة إلى مناطق النظام.. خيار صعب أمام أهالي الركبان
بدأ الأهالي يفكرون بشكل جدّي بالعودة إلى مناطق النظام، وهم ينتظرون الموافقة الأمنية من عضو المصالحة في مدينة حمص، حيث يتم سوقهم إلى فرع البادية لتسوية أوضاعهم، بعد حصولهم على الموافقة أيضًا من جيش مغاوير الثورة الذي يسيطر على منطقة الـ 55، والمدعوم من قبل التحالف الدولي، بحسب أحد سكان المخيم الذي رفض الكشف عن اسمه خلال حديثه لـ”نون بوست”.
ورغم مخاوف الأهالي من الانتهاكات الجسيمة التي سيقوم بها النظام بحقّ العائدين إلى مناطق سيطرته، إلا أن أهالي الركبان لا يجدون مكانًا آخر بعدما فرضَ النظام عليهم حصارًا مطبقًا وسط انتشار الأوبئة والأمراض والجوع، وغياب كلّي للخدمات الطبية والصحية، وسط تغاضي التحالف الدولي والأردن عمّا يجري لهم.
واستغلَّ النظام مشروع المصالحات الذي أشرفت عليه روسيا للسيطرة على مناطق المعارضة السورية، واعتقال المئات من الأشخاص العائدين إلى مناطق سيطرته من مخيم الركبان، يتخللهم منشقّون وفارّون من الخدمة العسكرية وغير عسكريين، بهدف محاسبتهم وسوقهم إلى الخدمة العسكرية.
يحدث ذلك رغم الضمانات الروسية التي قدّمتها نيابةً عن النظام أثناء عمليات التسوية، ما يشير إلى أن العائدين إلى مناطق النظام يتعرّضون لانتهاكات رغم التسهيلات التي يحاول النظام عرضها على أهالي الركبان عبر عضو المصالحة في مدينة حمص.
ما هدف النظام من حصار مخيم الركبان؟
بعد استعادة النظام السيطرة على مناطق المعارضة في جنوب ووسط سوريا، خلال عام 2018، بدأ يمهّد لعملية تفكيك مخيم الركبان، من خلال إرسال وفود عشائرية برعاية روسيّة لإجراء مصالحات مع الأهالي قرب خطوط التماسّ الفاصلة مع النظام السوري.
حقّق النظام وروسيا عام 2019 مآربهما في إيقاف دخول المساعدات عبر الحدود الأردنية لقاطني المخيم، وتحويلها عبر الخطوط قادمة من مناطق سيطرة النظام السوري في دمشق، وهنا بدأ النظام بسرقة ونهب المساعدات واستغلالها في سبيل الضغط على المدنيين لتفكيك المخيم، بحسب الصحفي حسن جنيد.
وقال جنيد خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يهدف النظام من سياسة الحصار إلى إجبار سكان المخيم على التسوية، والعودة إلى مناطقه، والسيطرة على الحدود السورية العراقية، وفق المخططات الإيرانية، لكن هذا لن يحصل بسبب وجود قاعدة التنف الأمريكية التي تواجدت لمكافحة “داعش”، وطالما أنها موجودة فإن النظام لا يستطيع السيطرة على مخيم الركبان”.
وأضاف: “هناك رؤية لدعم المنطقة الجنوبية ضد التمدُّد الإيراني المستشري على الحدود السورية – الأردنية، وما حملَهُ من مخاطر في تهريب السلاح والمواد المخدّرة إلى الأراضي الأردنية، هذا ما كشفه الملك الأردني خلال تصريحاته الأخيرة، وهذا لن يحدث إلا بدعم فصائل محلية لكفّ التمدد الإيراني، لذلك أتوقع أن يكون هذا فخًّا لإيران لدعم مغاوير الثورة لقتالها”.
واتفق الأردن خلال عام 2018 مع روسيا على ضبط الحدود والسيطرة على الجنوب السوري، واستعادة سيطرة النظام على المنطقة، لكن التمدد الإيراني وميليشيا “حزب الله” وانشغال روسيا بالحرب الأوكرانية وغياب دور النظام السوري وأجهزته الأمنية أربك الجانب الأردني، وخلخلَ أمن حدوده بشكل كبير، ما جعل الأمر تهديدًا لأمنه الوطني.
شكّلت عملية التضييق الممنهَج التي عملت عليها روسيا والنظام دورًا بارزًا في تخفيض أعداد قاطني المخيم من 65 ألف نسمة إلى 7 آلاف فقط، خلال فترة زمنية لا تتجاوز الـ 3 سنوات
ويتّفق الصحفي في شبكة “نهر ميديا”، عهد الصليبي، مع ما طرحه الصحفي حسن، بقوله خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لا أستبعد أن تتوسّع منطقة الـ 55 لا سيما بعد تصريحات الملك الأردني بخصوص تهريب المخدرات والتمدُّد الإيراني على الحدود الأردنية، لذلك من المرجّح أن يكون اقتراب إيران من المنطقة بوابةً لوقف تمددها على الحدود السورية – الأردنية”.
وأضاف الصليبي: “يتمنّى النظام السيطرة على منطقة الـ 55 التي يتواجد فيها مخيم الركبان وقاعدة التنف الأمريكية، لكنه فعليًّا غير قادر بسبب وجود القاعدة، لذلك لا يمكنه الاقتراب ووجود القاعدة يمنح الأهالي ثقة أنه لا يمكن اقتراب النظام من منطقة الـ 55، ومحاولات النظام التضييق على أهالي الركبان تعتبر تمهيدًا لعملية دعم عسكري للفصائل لمحاربة إيران مجددًا”.
ويقع مخيم الركبان قرب قاعدة للقوات الأمريكية في جنوب شرق سوريا في التنف على الحدود العراقية السورية، داخل ما يطلق عليه منطقة “عدم اشتباك” حدّدتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بهدف حماية قاعدة التنف من هجمات القوات الموالية للنظام.
وشكّلت عملية التضييق الممنهَج التي عملت عليها روسيا والنظام دورًا بارزًا في تخفيض أعداد قاطني المخيم من 70 ألف نسمة إلى 7 آلاف فقط، خلال فترة زمنية لا تتجاوز الـ 3 سنوات، عبر عمليات التسوية وإفساح المجال أمام المهرّبين لتهجيرهم إلى الشمال السوري، ولا يزال النظام مستمرًّا في محاولاته وقطع الطريق أمام أي وجود عسكري معارض له في الجنوب السوري.