أعلنت وزارة الداخلية البريطانية بشكل رسمي انطلاق أول رحلة جوية تحمل مهاجرين وطالبي لجوء دخلوا البلاد عبر القنال الإنجليزي، إلى رواندا في 14 يونيو/حزيران الحاليّ، فيما أصدرت التوجيهات الرسمية لمن سيتم نقلهم عبر تلك الرحلة، وسط انتقادات حادة لتلك السياسة التي تتعارض ومواثيق حقوق الإنسان ويصفها البعض بأنها أحد أنواع تجارة البشر مقابل المال.
وعبر رحلة طويلة تقطعها إحدى شركات الطيران البريطانية لمسافة تزيد على 6500 كيلومتر، يُساق المئات من طالبي اللجوء البريطاني إلى البلد الإفريقي لتوطينهم هناك، في ضوء صفقة أبرمت بين الحكومتين، البريطانية والرواندية، تقضي باستقبال كيغالي أعدادًا من اللاجئين نظير 120 مليون جنيه إسترليني.
يأتي هذا التحرك وفق خطة رسمية كشفها رئيس الوزراء بوريس جونسون، تستهدف التخلص من اللاجئين وطالبي اللجوء إلى بريطانيا خلال الآونة الأخيرة، ونقلهم إلى أماكن إيواء أخرى، بما يخفف الضغط على الداخل البريطاني، اقتصاديًا واجتماعيًا، في ظل تصاعد الأصوات الرافضة لسياسة البلاد في استقبال المهاجرين، وهي السياسة التي كانت محط تقدير كبير طيلة العقود الماضية.
وفي أول مرحلة من تنفيذ تلك الخطة سيتم نقل الأشخاص الذين دخلوا بريطانيا منذ بداية العام الحاليّ، بصورة غير شرعية (عبر القنال) ونقلهم إلى إفريقيا، ليقدموا طلبات اللجوء في رواندا والبقاء فيها حال نجاح طلب اللجوء، على أن يتم توفير المقومات الحياتية اللازمة لهم حسبما أكدت الحكومة الرواندية.
ووصفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خطة جونسون بأنها “انتهاك للقانون الدولي”، مضيفة أن محاولة “نقل المسؤولية” عن المطالبات بوضعية اللاجئ أمر غير مقبول، فيما يتوقع البعض التوسع في تبني مثل تلك القرارات، سواء على المستوى البريطاني أم الأوروبي عمومًا، بعدما تحولت قضية اللاجئين إلى “قضية أمن قومي” بالنسبة للكثير من البلدان التي تواجه أزمات اقتصادية طاحنة.. فما قصة هذا القرار؟
#BREAKING Rwanda to host asylum-seekers, migrants to UK: govt pic.twitter.com/N7ZWZ9XLES
— AFP News Agency (@AFP) April 14, 2022
وقف موجات الهجرة
تنطلق الحكومة البريطانية في سياستها الجديدة إزاء اللاجئين – ضمن حزمة من التغيرات على أكثر من مسار – من أرضية اقتصادية بحتة، هذا بخلاف الجانب الاجتماعي الذي تعمق أكثر مع تنامي نفوذ اليمين المتطرف والخطاب الشعبوي المتصاعد منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
ورغم أنه لا يوجد إحصاء دقيق لعدد اللاجئين في بريطانيا، فإن الأعداد تتفاوت من شهر لآخر، لا سيما من يعبرون القنال بطرق غير شرعية، فتشير التقديرات إلى أن أكثر من 1000 شخص عبروا القنال في يوم واحد فقط في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، فيما ذهبت إحصاءات إلى أن عدد من عبروا القنال العام الحاليّ أكثر من 25000 شخص، مقارنة بـ8400 شخص عام 2020، في سابقة لم تحدث من قبل وهو ما أثار قلق الحكومة.
الأزمة هنا بحسب حكومة جونسون لا تتوقف عند الهجرة غير الشرعية فقط، بل تمتد إلى تنامي أعداد طالبي اللجوء في المملكة، التي زادت بشكل واضح خلال السنوات الماضية، وكان عام 2019 هو بداية الأزمة الحقيقية في هذا الملف، حيث بلغ عدد طلبات اللجوء أكثر من 45 ألف طلب.
جدير بالذكر أن إستراتيجية إدارة ملف الهجرة كانت واحدة من أبرز أوجه النقد الموجهة للحكومة، فقد كشفت دراسة أجرتها شركة Ipsos Mori البريطانية حديثًا أن 60% من الشعب البريطاني غير راضٍ عن سياسة الهجرة الحكومية، وأن كثيرًا منهم استشهد بحادثة غرق 27 شخصًا العام الماضي خلال عبورهم القنال.
وأمام تلك الوضعية فكرت الحكومة في البحث عن أماكن إيواء خارج الحدود لنقل طالبي اللجوء إليها، كانت الخطوة الأولى فتح قناة اتصال مع الحكومة الرواندية حيث سافرت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل إلى العاصمة كيغالي لتوقيع اتفاق نقل اللاجئين إليها، فيما علقت على هذه الخطوة بأنها “الأولى من نوعها عالميًا وستغير الطريقة التي نتعامل بها جميعًا مع الهجرة غير الشرعية”.
رغم محاولات الالتفاف على القانون لتشريع الخطة العنصرية التي يتبناها جونسون بشأن اللاجئين، فإن أكثر من 160 منظمة خيرية وحقوقية تقدموا بطلبات رسمية لتجميدها وإلغائها
ثغرة قانونية
الخطوة قوبلت بتشكيك قانوني كبير، فوصفها البعض بأنها مخالفة للقانون البريطاني والدولي على حد سواء، فيما أكد جونسون أنها “متوافقة تمامًا” مع المواثيق القانونية، في الوقت الذي تحاول حكومته تدشين أرضية تشريعية تضمن تمرير القرار وعدم الطعن عليه مستقبلًا، مستندة في ذلك إلى مشروع قانون الجنسية والحدود، الذي يسمح للبلاد بإرسال لاجئين إلى دول أخرى لحين البت في طلبات اللجوء الخاصة بهم، شرط أن تكون الدولة المراد نقلهم إليها “آمنة”، وهو ما يتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين التي تمنع إرسال أشخاص إلى بلد يواجهون فيه مخاطر على الحياة أو قيودًا على حريتهم.
لكن يبدو أن تلك الثغرة التي يعتمد عليها جونسون في إقرار خطته الجديدة لم تقنع شريحة كبيرة من الساسة والمحامين والحقوقيين، ممن قرروا الطعن عليها، وهو ما ألمح إليه رئيس الحكومة نفسه حين أشار إلى أنه يتوقع الطعن عليها في المحاكم ومن “جيش هائل من المحامين ذوي الدوافع السياسية”.
من جانبها تشير المحامية المتخصصة في قانون الهجرة، ميراندا بتلر، إلى أن ما وصفته بـ”العملية المستعجلة” في إشارة إلى خطة الحكومة، تحتاج إلى الإجابة أولًا عن عدد من الأسئلة، سواء فيما يتعلق بدوافع الدولة البريطانية ذاتها أم السجل الحقوقي للدولة التي من المقرر أن تستضيف اللاجئين، هذا بجانب الضمانات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تحمي اللاجئين من أي استهداف أو تعريض حياتهم للخطر.
انتقادات حقوقية
رغم محاولات الالتفاف على القانون لتشريع الخطة العنصرية التي يتبناها جونسون بشأن اللاجئين، فإن أكثر من 160 منظمة خيرية وحقوقية تقدموا بطلبات رسمية لتجميدها وإلغائها، وعلى المستوى السياسي قوبلت الخطة بانتقادات حادة من أحزاب المعارضة ومن بعض المنتمين لحزب المحافظين الحاكم.
وتصدرت تلك الكيانات الرافضة تلك المنظمات المعنية تحديدًا بشؤون اللاجئين التي شككت في قدرة الحكومة البريطانية على تنفيذ خطتها بالشكل المعلن، فيما قال مجلس اللاجئين إن الاقراح لن ينجح، أما حزب “الديمقراطيين الأحرار” فاتهم الحكومة بأنها “تغلق الباب” في وجه اللاجئين، بينما وصف نواب من “الحزب الوطني الإسكتلندي” خطة جونسون بأنها “مروعة للغاية”.
الرئيس التنفيذي لمجموعة مناصرة اللاجئين أنور سولومون، قال: “الخطة بمثابة صفعة في وجه مبدأ منح طالبي اللجوء”، مضيفًا في تصريحاته لراديو “بي بي سي”: “أعتقد أنه شيء غير عادي أن يكون هاجس الحكومة هو كيفية التحكم والسيطرة بدلًا من التركيز على الكفاءة والرحمة”.
وفي المقابل ردت وزيرة الداخلية بأن المنتقدين للخطة لم يقدموا حلولًا واكتفوا فقط بتوجيه النقد، مؤكدة في مقال نشرته في صحيفة “التايمز” مشاركة مع وزير الخارجية الرواندي فنسنت بيروتا، بأن الخطة “حل مبتكر” لمواجهة ما أسمته “التجارة القاتلة” لمهربي البشر، مضيفين “لا توجد دولة إنسانية تسمح بأن تستمر تلك المعاناة”.
اللافت للنظر أن الحكومة البريطانية كانت قد وجهت حزمة من الانتقادات القاسية لرواندا العام الماضي بسبب سجلها الحقوقي المشين، إذ أعربت عن قلقها بشأن “القيود المستمرة على الحقوق المدنية والسياسية وحرية الإعلام” وذلك خلال إحدى جلسات الأمم المتحدة، لكن سرعان ما تبدل الحال اليوم بعد توقيع الاتفاقية إلى الحد الذي وصف فيه جوسنون رواندا بأنها واحدة من أكثر البلدان أمانًا في العالم.
بريطانيا ليست الأولى
إيفاد اللاجئين إلى مناطق إيواء خارج الحدود لم يكن سبقًا بريطانيًا، فقد تبنت العديد من الدول الخطة ذاتها قبل سنوات، فيما تنوي بعض الحكومات أن تحذو حذوها خلال المرحلة المقبلة، وتعود البداية إلى عام 2001 حين قررت أستراليا إرسال طالبي اللجوء إلى مراكز احتجاز أنشئت في دولة ناورو في المحيط الهادئ وجزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة.
وكانت القوات البحرية الأسترالية تعترض قوارب المهاجرين في البحر وتقودها إلى مراكز الاحتجاز الجديدة وكان يطلق عليها “مخيمات أو مراكز دراسات طلب اللجوء” ومنذ بداية القرن الحاليّ تنتهج الحكومة الأسترالية سياسة عدم منح أي لجوء للمهاجرين عبر البحر بالطرق غير الشرعية، فيما وثقت الكيانات الحقوقية الدولية انتهاكات بالجملة ضد اللاجئين في مراكز الإيواء الجديدة، إذ لقى أكثر من 13 شخصًا من طالبي اللجوء حتفهم بسبب تلك الانتهاكات منذ عام 2014، من بينهم 7 حالات انتحار.
سرعان ما تحول حلم اللاجئين بحياة أفضل على أعتاب أوروبا، القارة صاحبة الحريات والحقوق غير المتوافرة في بلدانهم الأصلية، إلى كابوس يهدد حياتهم
الخطة ذاتها تبنتها الدنمارك حين سنت العام الماضي قانونًا يسمح بنقل طالبي اللجوء الذين يصلون إلى أراضيها، إلى مراكز اللجوء في دولة شريكة، غير أنها خلال العامين الأخيرين فشلت في العثور على دولة تنطبق عليها المواصفات لا سيما بعد الانتقادات التي تعرضت لها من الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية، فيما يتوقع أن تحذو حذو بريطانيا في إبرام اتفاق مع الحكومة الرواندية، لتصبح أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تتخطى نظام الهجرة واللجوء المتبع في التكتل منذ عقود.
ولا تختلف دولة الاحتلال في عنصريتها إزاء اللاجئين عن بريطانيا والدنمارك، حيث اتخذت إجراءات صارمة لمنع الهجرة غير الشرعية إليها، لا سيما القادمة من إفريقيا، إذ أبرمت صفقات مع “ملاذات آمنة” من دول أخرى لاستقبال عدد غير معلوم من المهاجرين.
بداية تلك السياسة تعود إلى 2015 حين رفضت تل أبيب طلبات لجوء بعض المهاجرين غير الشرعيين إليها، ووضعت أمامهم بعض الخيارات، منها العودة إلى بلدانهم أو منحهم 3500 دولار وتذكرة طيران إلى دولة أخرى، ومن يرفض منهم يتم وضعه في السجون لحين البت في أمره، وكانت دولة الاحتلال قد كشفت أن ثلث المهاجرين إليها في 2018 كان بشكل غير قانوني، يقدر عددهم بـ20 ألف من أصل 65 ألف إجمالي من وصلوا إليها في ذلك العام.
وهكذا سرعان ما تحول حلم اللاجئين بحياة أفضل على أعتاب أوروبا، القارة صاحبة الحريات والحقوق غير المتوافرة في بلدانهم الأصلية، إلى كابوس يهدد حياتهم، فلم تعد الأبواب مفتوحة ولا الممرات متاحة، فالكل أوصد حدوده أمام الفارين بحياتهم من جحيم الحروب والنزاع والانتهاكات، ليجدوا أنفسهم بين مطرقة الخنوع والحبس والترحيل لبلدان أخرى ربما تكون أكثر كارثية وقسوة، وسندان العودة إلى الجحيم الذي فروا منها ابتداءً.
لم تكن بريطانيا الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد كشفت السنوات العشرة الأخيرة الوجه الحقيقي لبلدان أوروبا، لتسقط معها أقنعة الشعارات المزيفة عن قبول الآخر والاحتواء والتشاركية، ليحل محلها برغماتية فجة وانتهازية غير مسبوقة وأنانية مفرطة ولو على حساب الملايين ممن قذفتهم الحياة من بابها الخلفي.