كشفَ معهد الإحصاء التركي عن قفز معدل التضخم السنوي في البلاد إلى نحو 73.5% ليكون بذلك الأعلى طيلة الـ 20 عامًا الأخيرة، مقترنًا بارتفاعات جنونية في أسعار السلع، مدفوعًا بالحرب التي شنّتها روسيا في أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي ولا يعلم أحد متى ستنتهي.
وفي تلك الأجواء الضبابية شهدت سلاسل التوريد الغذائي حول العالم أزمات كبيرة، تسبّبت في ارتفاع كافة السلع دون استثناء بنِسَب تتفاوت بين 50% و500% من قيمتها قبل فبراير/ شباط الماضي، وانعكس ذلك بالطبع على الداخل التركي، حيث تأزّم الوضع المعيشي في ظل كلفة الحياة المرتفعة، وما بين ندرة السلع وارتفاع أسعارها فرضَت تساؤلات الأمن الغذائي نفسها على ألسنة الشارع.
الأمن الغذائي التركي
تمتلك تركيا 24 مليون هتكار من الأراضي الصالحة للزراعة تشكِّل نحو 35.5% من إجمالي مساحتها، فيما تحتل المرتبة السابعة عالميًّا من حيث العائدات الزراعية التي بلغت أكثر من 48.5 مليار دولار خلال الأعوام الأخيرة، وتحتضن نحو 21% من إجمالي الأيدي العاملة، لتتربّع بها على عرش القارة الأوروبية.
ساعد على هذا التفوق وفرة الموارد المائية وكثرة الجداول والأنهار، فضلًا عن تنوُّع طرق الريّ والسقاية ما أهّلها لتكون واحدة من أكثر بلدان المنطقة جذبًا للاستثمارات الزراعية، وتشكّل الخضروات عصب المنظومة الزراعية التركية، إذ تشكّل قرابة 76% من إجمالي الإنتاج الزراعي المحلي، هذا بجانب البندق والتين المجفَّف والمشمش والزبيب والفستق والقطن وزيت الزيتون.
وتعدّ الدولة التركية واحدة من أكثر 10 دول على مستوى العالم نجاحًا في القطاع الزراعي، حيث تولي هذا المجال أهمية كبيرة وتجزل له العطاء والإنفاق والدعم البحثي والفني، ما ساعدها في عبور الكثير من الأزمات التي مرّت بها طيلة العقود الماضية مقارنة بغيرها من الدول المجاورة.
وفي الوقت الذي كان يئنُّ فيه الاقتصاد العالمي جرّاء جائحة كورونا، كانت المنتجات التركية تغزو 205 دول حول العالم خلال عام 2020، حيث صدّرت أنقرة أكثر من 980 منتجًا من المنتجات الزراعية بقيمة عائدات بلغت 20.7 مليار دولار أمريكي.
فيما تصدّرت خارطة الإنتاج الزراعي العالمية في بعض المحاصيل، أبرزها البندق الذي تنتج منه 69% من الإنتاج العالمي البالغ 1.1 مليون طن، و26% من إجمالي إنتاج الكرز عالميًّا البالغ 2.6 مليون طن، فضلًا عن تصدُّرها القائمة في تصدير دقيق القمح والثانية عالميًّا في تصدير المعكرونة، والرابعة في إنتاج الخضروات والخامسة في إنتاج الفواكه.
وقد ارتفع الإنتاج الزراعي إلى أعلى مستوياته في تاريخ الجمهورية التركية بنهاية العام الماضي، حين بلغ 124 مليون طن، حسبما أشار الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي أرجع تلك الطفرة إلى الدعم الذي قدّمته الحكومة للمزراعين والذي زادَ بمعدل 12 ضعفًا عمّا كان عليه في السنوات الـ 18 الأخيرة، والتي شهدت قفزة في البنية الزراعية التحتية، حيث تمَّ بناء أكثر من 600 سدّ و423 بركة ماء بجانب 1457 مرفقًا للري، ما انعكس على حجم الإنتاج السنوي.
أما على مستوى الحبوب، كونها عصب الأمن الغذائي التركي والعالمي كذلك، فتشير البيانات إلى بلوغ معدلات إنتاج الحبوب إلى 37.2 مليون طن، بزيادة قدرها 8.1% خلال عام 2020، فيما بلغ إنتاج القمح 2.05 مليون طن بزيادة 7.9%، أما الشعير فبلغ إنتاجه 8.3 ملايين طن بزيادة 9.2%، يليه الذرة بـ 6.5 ملايين طن بزيادة قدرها 8.3%، ثم الشوفان بـ 214.5 ألف طن بزيادة 18.7%.
الوضع يتأزّم
في الأعوام الخمس الأخيرة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، تعرضت تركيا لهزات اقتصادية طاحنة كان لها صداها على الوضع المعيشي للمواطن، حيث حدث انهيار شبه كامل للعملة المحلية “الليرة”، صاحبته قفزات جنونية في معدلات التضخم والبطالة بصورة دفعت الكثير من الشباب التركي للهجرة، وهو ما تبرهنُ عليه الأرقام الرسمية.
ثم جاءت جائحة كورونا (كوفيد-19) ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الوضع اشتعالًا، حيث كانت بمثابة زلزال هزَّ أركان الاقتصاد العالمي بأكلمه، ما يسفر بالتبعية عن ارتفاع معدلات تضخم أسعار الغذاء العالمية بنسب تقترب من 30%، بحسب البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الأوروبي “يوروستات”.
وكانت تركيا واحدة من أكثر الدول في معدلات تضخم أسعار السلع، حيث وصلت إلى 90.8%، فيما تشير تقديرات أخرى إلى 107% خلال عام واحد فقط (2021)، ما يعني خروج شرائح كبيرة من المجتمع التركي عن المنطقة الدافئة المؤمِّنة لطعامها وشرابها، بحسب المسح الذي أجراه اتحاد نقابات العمال التركي.
أشار المسح إلى أن تضخُّم أسعار المواد الغذائية تحديدًا في البلاد حيث بلغ 13% الشهر الماضي، وبنسبة إجمالية على مدار العام الأخير قُدِّرت بنحو 107%، ليصل متوسط كلفة معيشة المواطن التركي الواحد شهريًّا 7836 ليرة، في حين ارتفع حد الجوع في البلاد إلى 6 آلاف ليرة في الوقت الذي لم يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور حاجز الـ 4 آلاف ليرة، ما يعني انخفاض حدّ الجوع عن الحدّ الأدنى للأجور قرابة الثلث.
ومن العوامل التي لعبت دورًا سلبيًّا في تهديد الأمن الغذائي التركي ومثّلت معضلة حقيقية أمام سلاسل الإمداد والإنتاج الزراعي، التغيُّر المناخي، وهو ما حذّر منه الخبير بمركز تغير المناخ ودراسة السياسات بجامعة البوسفور بمدينة إسطنبول، ليفينت كورناز، الذي أشار خلال مقابلة له مع “الأناضول” أن “الجفاف هو القضية الأكثر إلحاحًا التي نحتاج إلى التعامل معها، وأمننا الغذائي هو أهم مشكلة في سياق تغير المناخ”، محذّرًا من أن نقص المياه سيكون له ارتدادته السلبية على الزراعة، لافتًا إلى أن هذا المستوى المقلق من الجفاف وانعدام الأمن الغذائي يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة.
معرض إسطنبول للأغذية
كثّفت الحكومة التركية من تحركاتها على المستوى الداخلي والخارجي للتعاطي مع أزمة الأمن الغذائي عبر عدة مسارات، بعضها اتّخذ شكل إعادة هيكلة للسياسات الزراعية والاقتصادية، والآخر فتح قنوات اتصال شراكة وتعاون مع عدد من البلدان الخارجية التي ترتبط بها أنقرة بعلاقات جيدة، لتعوِّض أزمة الإمدادات التي تأثرت بالحرب والوضع الداخلي المتأزِّم منذ سنوات.
ومن أبرز التحركات الرسمية، الاستعداد لتدشين معرض إسطنبول للأغذية الذي تنظّمه جمعية التعاون التركية والعربية (TÜRAP) في فترة 22-23 يونيو/ حزيران الجاري، بمشاركة 1500 رجل أعمال وأكثر من 200 شركة تركية وعربية، بهدف تعزيز فرص نمو حجم التجارة بين تركيا والدول العربية.
ومن أبرز القطاعات التي سيسلِّط المعرض الضوء عليها قطاع الأغذية والزراعة، حيث العمل على تعزيز الاستثمارات لتقوية قدرات تركيا السلعية خاصة الغذائية، وإنماء خارطتها الزراعية عبر استثمارات عربية، مستغلّة الإمكانات والقدرات الكبيرة التي تتمتّع بها تركيا كقِبلة استثمارية واعدة في هذا المجال، حسبما أشار رئيس مجلس إدارة جمعية التعاون العربي التركي (TÜRAP)، صبوحي عطار.
وأوضح عطار في تصريحات له أن الحرب الروسية أحدثت زلزالًا في منظومة الغذاء والزراعة العالمية، منوّهًا أن الأمن الغذائي سيصبح الشغل الشاغل للدول العربية والخليجية خلال المرحلة المقبلة، معتبرًا أن تركيا مركز لوجستي للاستقرار الزراعي، ومن ثم ستكون واجهة مميزة للمستثمرين العرب، سواء في إنتاج السلع أو نقلها أو تسويقها.
واختتم عطار حديثه بأن معدل استيراد المواد الغذائية من الدول العربية يبلغ نحو 80%، وبما أن الواردات تكون معظمها من روسيا وأوكرانيا فإن الوضع سيزداد خطورة بعد الحرب، لافتًا إلى أهمية تركيا في هذا الصدد، قائلًا: “تركيا ملاذ آمن للمستثمرين، نتوقع حدوث زلازل في الغذاء في شهر يوليو/ تموز القادم، لهذا إن تركيا هي السوق الأقرب والأجمل والأكثر أمانًا واستقرارًا للدول العربية والخليجية، دعونا نستفيد من التكنولوجيا التركية وخصوبة التربة وصلاحيتها للزراعة، دعونا نعوِّض نقص الغذاء في العالم من خلال إقامة مشاريع مشترَكة”.
اتفاقيات شراكة
وفي سياق تنويع مصادر الإمدادات الغذائية، وقّعت وزارة الزراعة والغابات التركية مذكرة تفاهم مع وزارة التغيُّر المناخي والبيئي الإماراتية مؤخرًا، بهدف تكثيف التعاون الزراعي وتبنّي نُظُم الزراعة الحديثة بين البلدَين، وذلك على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدولة الإمارات في فبراير/ شباط الماضي.
وتشمل المذكرة التي وقّعها بكر باك ديميرلي ومريم بنت سعيد حارب المهيري، العديد من أوجُه التعاون في “مجالات مكافحة الآفات الزراعية ووقاية النبات، وتعزيز نظم الزراعة العضوية، وتوظيف أحدث التقنيات في زيادة قدرات الإنتاج الزراعي، وضمان أعلى مستويات السلامة الغذائية، وضمان استمرارية سلاسل التوريد وتعزيز التبادل التجاري للمنتجات الزراعية والثروة الحيوانية”، كما تهدف بحسب الوزيرة الإماراتية إلى تبادل الخبرات المعرفية بين البلدَين بما يساعد على “تطوير نظم غذائية مستدامة وتلبية أهدافنا للأمن الغذائي”.
وفي أواخر مايو/ أيار المنتهي، وخلال مشاركته مراسم الاحتفال السنوي بالذكرى التاسعة والخمسين ليوم أفريقيا الذي أُقيم في أنقرة بمشاركة 37 سفارة أفريقية، أكّد وزير الزراعة التركي على عمق العلاقات التركية الأفريقية، منوّهًا إلى ضرورة تعزيز التعاون بين الطرفَين في ظل الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالعالم.
أكّد الوزير خلال كلمته على أهمية الدور التركي في إنقاذ دول أفريقيا من الجوع عبر حزمة من التعاون في شتى المجالات، وذلك بالاستفادة من الخبرات التركية والموارد الأفريقية بما يحقق المنفعة المشترَكة، قائلًا إن هناك واحدًا من كل 3 أشخاص لا يحصل على كفايته من الغذاء بسبب الكوارث الطبيعية وتغيُّر المناخ والأوبئة، وبغضّ النظر عن مدى ثرائك أو فقرك تبقى التهديدات التي تلوح في الأفق بشأن الأمن الغذائي عصية عن التعامل معها إلا من خلال التشاركية والتعاون، وهو ما تسعى إليه أنقرة حاليًّا للخروج من المأزق الحالي.
أزمة سياسات لا موارد
ارتفاع أسعار الغذاء والاضطراب اللذين شابا معدلات التضخم الغذائي وتهديدات الحرب الروسية لإمدادات السلع، والتراجع المستمر للعملة المحلية، كل ذلك أثار موجة من القلق وسط تحذيرات من تيارات المعارضة بأن تركيا على أبواب مجاعة كبيرة إذا ما استمرَّ الوضع على ما هو عليه.
ورغم التصريحات المطمئنة لنائب المدير الإقليمي للائتمان الزراعي التركي، سيثان قرطبابا، في 30 مايو/ أيار المنقضي، من أنه لا توجد مشكلة تتعلق بأمن الإمدادات في تركيا، وأن الأزمة الحالية ستنتهي في القريب العاجل، وأن بلاده على أهبّة الاستعداد للتعامل مع كافة السيناريوهات المحتملة، إلا أنها لم تلقَ القبول لدى الشارع الذي يعاني يوميًّا من أزمة غذاء خانقة، على المستوى السعري والسلعي.
يرى الكاتب التركي دينيز استقبال أنه رغم ما تمتلكه بلاده من إنتاج غذائي متنوع، في ظل وفرة كبيرة في الموارد الزراعية والمائية تكفي لأجيال قادمة، إلا أن هناك أزمة حقيقية تواجه تركيا إن لم يتمَّ تدارك الأمر، مرجعًا ذلك إلى سياسات الأمن الغذائي في تركيا، والتي وصفها بأنها “ليست على المستوى المطلوب”.
وفي مقال له يتساءل استقبال كيف لتركيا التي تحلُّ في المرتبة الـ 41 من 113 دولة في مؤشر الأمن الغذائي العالمي، والتي تتميز عن باقي الدول من حيث الجودة المعيارية للغذاء والإنتاج الغذائي المثمر واستقرار أسعار الغذاء، أن تواجه مثل تلك الأزمة؟
وطالب بلاده التي تحتل موقعًا متميّزًا بين دول العالم من حيث تقديم الدعم المالي للقطاع الزراعي، بضرورة تطبيق سياسات تهدف إلى ضمان أمنها الغذائي على المدى البعيد، وتشجيع الإنتاج الأكثر تخطيطًا والذي يعمل بشكل سليم، كذلك أن تولي اهتمامًا كبيرًا بالبحث العلمي الزراعي واستخدام الأساليب الأكثر تطورًا للحصول على أكبر إنتاجية، بما يقلل من مخاطر الجوع مستقبلًا.
في ضوء المعطيات السابقة، ينذر الوضع في تركيا بالقلق رغم ما تمتلكه من إمكانات وموارد، لكن في ظل المأزق العالمي الراهن فإن الإمكانات وحدها لن تجدي نفعًا إن لم يتمَّ تطعيمها بسياسات زراعية واقتصادية وغذائية قادرة على التعاطي مع التطورات بمرونة كبيرة بعيدًا عن التشبُّث بالاستراتيجيات الثابتة، فرغم الموارد الهائلة اقتصاديًّا تعاني معظم دول أوروبا من ندرة السلع الغذائية، ومن المرجّح أن يكون الوضع كذلك لدى الشارع التركي إن لم يتمَّ تدارُك الموقف.