عندما ننظر في مصير الانقلاب، لا يمكننا إلا أن نتفاءل بنهايته القريبة، لكن عندما نستعرض اللوحة السياسية المعارضة والموالية للانقلاب حتى اللحظة، لا يمكن إلا أن نتوجّس خيفة من مستقبل السياسة في تونس.
هناك علامات على أن السياسيين جميعهم ماكثون في مرحلة ما قبل الانقلاب، وأن الانقلاب لم يعلّمهم شيئًا، لذلك يذهب التحليل إلى أن المشهد القادم (مهما دام أمد القوس الانقلابي) هو مشهد عائد، وأن النخبة تمارس كل وسائل التخريب السياسي ولا تتقدم.
يستوي في ذلك من أراد أن يحكم من خارج الصندوق ومن يمنحه الصندوقُ القيادةَ فيتخلى عنها، جبنًا وفرقًا أو جهلًا وغباءً، تحت مسميات التوافق.
الانقلاب قائم بالحزام الاستئصالي
الطيف السياسي الذي لا يزال ينافح عن الانقلاب ويسعى إلى حمايته واستدرار عطفه، هو الحزام الاستئصالي الذي وقف عمليًّا ضد نتائج الصندوق الانتخابي منذ انتخابات 2011، وهو حزام متركّب من حزيبات مجهرية ومن شخصيات مصنوعة إعلاميًّا، تشقّه اختلافات كثيرة لكنه متفق على نقطة مهمة، ألّا يكون في المشهد السياسي إسلاميون، لا في الحكم ولا خارجه، وتتّسع الرغبات الاستئصالية لتشمل كل من يقترب من الإسلاميين أو يشتغل معهم أو يقرُّ لهم بحقّ سياسي ووجودي.
هذا الطيف عرضَ نفسه على الناخبين في 3 انتخابات تشريعية وانتخابات بلدية، ولم يَفُز بوزن يمكّنه من الحكم، بخلاف الإسلاميين الذين وزنوا أنفسهم وكشفوا وجودًا لا يمكن إغفاله أو تجاوزه، ولم يخلق هذا الفرق رغبة في المراجعة بل عمّقَ الروح الاستئصالية.
للتذكير، وقف هذا الطيف في انتخابات 2019 ضد قيس سعيّد إعلاميًّا، وسمّوه غواصة النهضة، ونعتوه بالداعشي، وصوّتوا ضده، لكن بمجرد ظهور خلاف بين قيس سعيّد وحزب النهضة حصلت هجرة سياسية، فصار أعداء قيس هم حزامه السياسي، وكانوا سبّاقين إلى الترحيب بالانقلاب ودعمه في الشهور الأولى، قبل أن تخفت أصوات جانب كبير منهم لأن الرئيس لم يذهب في استئصال الإسلاميين، وهو مطلبهم الأساسي من الانقلاب.
الباقون مع الانقلاب من مكونات هذا الطيف والمتطهّرون منه، يقفون ضد المعارضة التي تتعاون مع حزب النهضة، ولسان حالهم يقول: “نعارض الانقلاب لكن ليس مع النهضة”، وترجمة ذلك لا عمل مع النهضة سواء في هذه المرحلة أو التي تليها، أي مرحلة استعادة الديمقراطية (وهو الأمل الذي يملأ الكثيرين).
وهنا ينكشف لنا المستقبل الماضي، المشهد المنقسم يعيد إنتاج نفسه وبالآليات نفسها وبالخطاب نفسه وبالوجوه نفسها، كأن لم يحدث انقلاب ولم يهدِّد الديمقراطية ولم يهدِّد وجود البلد نفسه.
معارضة الانقلاب تستعيد الخطاب التوافقي
تقارَبَ الطيف المعارض للانقلاب ونسّقَ حركته بعد تردد، وهو لا يزال يثابر على زعزعة أركانه لكنه وباسم أولوية إسقاط الانقلاب يمارس سياسة توافقية، بزعم أن المرحلة تقتضي التجميع ضد الانقلاب وتأجيل الخلافات إلى ما بعده.
من وجهة نظر إجرائية نضالية، يبدو هذا المنطق سليمًا، خاصة أنه لا يمكن خوض معارك كثيرة على جبهات مختلفة في وقت واحد، لكن هذه الحكمة النضالية تحمل فيها جرثوم فنائها أو بالأحرى فناء الديمقراطية، لأنها تقوم على غشّ سياسي.
كنا لاحظنا منذ انطلاق حركة الشارع ضد الانقلاب غياب نصّ سياسي جديد تتجمّع حوله المعارضة، لا لإسقاط الانقلاب فحسب بل لبناء الأفق السياسي بعده، بحيث يكون التجميع على قاعدة بينة لما بعد الانقلاب.
لكن هذا النص السياسيِّ القاعدةِ لم يُكتَب، وإن نُطقت منه جمل متناثرة في تصريحات متباعدة، كأنَّ الملزمين به غير معنيين فعلًا بحياة سياسية ديمقراطية واضحة وغير استئصالية، وهذا أمر لا نتبيّن أسبابه.
عُوِّض هذا النص بخطاب ترحيبي بكل من يبتعد عن الانقلاب باسم تفريغ الساحة من حول الانقلاب، لكن إخلاء الساحة من حول الانقلاب لا يؤدّي في تقديرنا إلى تعمير ساحة الديمقراطية بعناصر منسجمة، وخطاب التوافق والترحيب يصير هنا أشبه بحشر دواب في شاحنة دون فرز صحي.
الصورة قاسية نعم، لكن جرى أمر رعاة الغنم بفرز السليم من الأجرب، ونرى كثيرًا من الجرب السياسي الكافر فعلًا بالديمقراطية، يحاول التسلُّل إلى مرحلة ما بعد الانقلاب دون توضيح المواقف، ودون مراجعات خاصة لجهة مبدئية التعامل مع الإسلاميين طبقًا لنتيجة الصندوق الانتخابي.
نقدِّر أن هذا الخطاب التوافقي يغشُّ نفسه ويغشُّ المستقبل، إذ يتغاضى عن قاعدة التوافق على أُسُس واضحة باسم أولوية الحرية مرحليًّا، ونرى أن بقاء الانقلاب على علّاته أقل ضررًا من استعادة المشهد السياسي الفاسد الذي سبقه، وهنا الدرس الذي لا نرى أحدًا يودُّ الخوض فيه.
الدرس الضروري من الانقلاب
الانقلاب شرّ مطلق لكن في بعض شرّه خير، لقد سمح بفرز عميق بين المؤمنين بالديمقراطية فعلًا والمتذرّعين بها زيفًا، لذلك إن الدرس الضروري للمستقبل هو بناء تجربة سياسية على ما أحدثه الانقلاب من فرز.
لم يعد هناك مجال لاعتبار القوميين جزءًا من الطيف الديمقراطي، مثلهم مثل الفاشية التجمعية واليسار الاستئصالي، هذه القطيعة ضرورية للمستقبل، لا ندعو هنا إلى الفرز القانوني باسم الديمقراطية كأن يكون هناك منع انتظام حزبي أو “مطاردة باسم تنظيف/ تطهير الساحة”، فهذا عمل فاشي غير ديمقراطي.
لكن بناء التحالفات الحاكمة والاشتراك في إدارة المنظمات المستقلة أو الهيئات الدستورية، لن ينجح ولن ينتج تجربة مختلفة إذا تواصل غضّ الطرف عن لا ديمقراطية هذه الطوائف الاستئصالية.
نستعيد في هذه اللحظة أجواء تصعيد حكومة الجملي وإسقاطها، ثم أجواء تصعيد حكومة الفخفاخ وأسلوبها في إدارة مرحلتها، وهي أجواء بُنيت على فرضية أن القوميين حزب ثوري وأن التيار حزب ديمقراطي، وكان يجب أن نصل إلى الانقلاب لنعرف جوهر المواقف والاصطفافات.
لقد كانوا خديعة قبل خديعة الانقلاب، وكل عمل لاحق للانقلاب يعطيهم فرصة مشاركة أو يهادنهم هو عمل غير ديمقراطي، والأَوْلَى تركهم لحكم الصندوق مهما تأخّرت مواعيده.
الديمقراطية لا تُبنى بمن يخونها، وهذه الجملة الحاسمة للمستقبل، والتأسيس عليها ينقذ التجربة وينقذ البلد، لكنه يقتضي شجاعة تُرقى فوق النفاق التوافقي الذي فتحَ على تونس كل بوابات الخراب.