هناك أفلام تُصنَع لسدّ حاجة سوقية، مجرد “فرانشايز” تجاري يحلب المنتج الإبداعي، ويمتصّ عناصره الإبداعية بأفلمات رديئة الجودة ومعالجات سطحية وممطوطة، لتتحول الأفلام إلى سلع مصمَّمة للاستهلاك، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمتد إلى إقحام أيدولوجيات تُضرُّ المنتج الإبداعي لكن تخدم الرواج التجاري والمعايير السائدة، ليتحول الفيلم إلى منتج تجاري يخدم النزعة السياسية والاستهلاكية.
والأقرب إلى هذه النوعية هو فيلم “موتٌ على ضفاف النيل” (Death on the Nile) الذي صدر عام 2022 بعد 5 سنوات من نجاح الجزء الأول Murder on the Orient Express عام 2017، الذي يستند إلى رواية تحمل الاسم نفسه للكاتبة الرائعة أجاثا كريستي، أي أنه يؤسِّس عالمه على عمل أدبي مميَّز يضمن للفيلم الرواج المطلوب قبل العمل عليه.
إلا أنه يفرِّط في الامتياز الأدبي في سبيل تحريف ومبالغة لإرضاء نزعات عصرية لا يصحّ وجودها في تلك الحقبة أصلًا، بحيث يتخلى عن التاريخي بشكل كامل، ويوظِّف شخوصه في حقبة مائعة ليس لها معنى، لأنه ببساطة إذا تخلى عن الإشارات والعادات التاريخية التي تميِّز الحقبة وتصنع فرادتها -ومن السهل أن تخلق الدراما إذا التزمت بالشكل التاريخي المذكور-، فإنه يتخلى عن وجوده الزمني، وهذا يخلُّ بالقصة، فهو يؤكد على ذكر الحقبة ثم ينفلت منها بطريقة غريبة.
تدور قصة الفيلم حول المحقق الشهير، بطل أغلب روايات أجاثا كريستي، هيركيول بوارو (الممثل المميز كينيث برناه)، الذي يرافق امرأة ثرية مع مجموعة من أقاربها وأصدقائها على متن سفينة في رحلة نيلية تنقلب إلى مأساة بعد سلسلة من الجرائم.
يؤسِّس المخرج كينيث برناه وكاتب السيناريو مايكل جرين سردية فيلمهما على ثنائية الحب والغيرة، ولكنهما يجرّدان القصة من قيمتها الأدبية، أي أنهما لا يلتزمان بالنص الأصلي للرواية عكس نسخة 1978، وهذا من حقّهما طبعًا، ولكنهما لا يضيفان شيئًا جديدًا إلى الفيلم، بل يحشوانه بمجموعة من الإحالات والدلالات السياسية التي تناقض عصرها.
فلا هما يأتيان بجديد في معالجة القصة، ولا هما يخلقان حبكة جيدة، كل ما هناك هو حشدٌ من المؤثرات البصرية الزائفة التي تتراوح جودتها بين الجيدة والمتوسطة، بجانب خط سردي من السهل تتبُّعه، وحبكة درامية ساذجة ترفع نفسها إلى الذروة في الدقائق الأخيرة.
يحاول برناه صنع فيلم مختلف، بيد أن محاولاته أخفقت لعدة أسباب، أولها الإيقاع الكارثي للفيلم، فالأحداث تتقدّم ببطء شديد، وهذا يحيلنا إلى السبب الثاني، فالساعة الأولى من الفيلم يمكن بتر معظمها دون تأثير حقيقي على القصة أو الحبكة الرئيسية، حيث ينغمس برناه في استعراضات ورقصات دون سبب واضح غير الانبهار البصري والحركي، ثم يصنع متوالية من المشاهد الثانوية السخيفة بلا داعٍ.
لم يأخذ برناه في الحسبان أن الفيلم يلعب في نوعية الجريمة والغموض، وهذا يتطلب نسقًا معيّنًا واندفاعًا واضحًا وتشويقًا بنِسَب معيّنة، ومعايير لا تحضر داخل سردية الفيلم، ورغم ذلك هناك بعض التفصيلات الجيدة، والتي تترافق دائمًا مع شخصية جاكلين دي بيلفورت (الممثلة إيما مكاي)، وهي الشخصية الأفضل داخل الفيلم من حيث الكتابة مقارنة بالشخصيات الأخرى، فضلًا عن أداء إيما المميز الذي أنقذَ الفيلم من السقوط عدة مرات.
خلال الفيلم نرى شخصية بيلفورت ترتدي الأحمر بدرجاته، والأحمر هنا يشير إلى عدة أشياء، الحب بالطبع والدماء/ الانتقام، وهذا إسقاط جيد على حالة الشخصية التي كانت من الممكن أن تصنع عمقًا دراميًّا إذا كانت الحبكة تهتمُّ بتطوير الشخصيات الأخرى، ولكن لا يمكن الاكتفاء بتطوير شخصية واحدة داخل الفيلم.
على الجانب الآخر، شخصية لينيت ريدجواي (الممثلة غال غادوت) شخصية مسطحة لا تحمل عمقًا، منذ اللحظة الأولى وهي مكشوفة بالكامل للمُشاهد، والحق أن اختيار ممثلة متواضعة مثل غال لتلعب شخصية أحادية لا تملك رأيًا ولا قرارًا داخل الفيلم هو اختيار موفق، وهذا بالضبط ما يمكن لغال فعله، مجرد تمثال من الشمع، يلمع فقط بلا هوية درامية.
شخصيات غير مكتملة ومؤثرات بصرية
يستهلُّ المخرج فيلمه بتقنية “الفلاش باك”، يسلِّط الضوء على ماضي بوارو القاتم في الحرب العالمية الأولى، يرصد فطنته في التعامل مع المواقف، وإصابته البالغة في الوجه التي اضطر بعدها إلى إنماء شاربه.
يتحرك الفيلم من شخصية بوارو ذاتها ويحاول تأسيس أرضية جيدة لفهم المحقق البارع، وهي خطوة جيدة وموفَّقة داخل الفيلم، ويمكن إرجاع إعراضه عن الحب والعلاقات لهذا الماضي المظلم، بيد أن هذه المحاولة لم تكن كافية لتطوير الشخصية الرئيسية داخل الفيلم، لتدور في ساقية التحقيق الراكد والتفاصيل التقليدية المعهودة للمحققين في السينما، فيكتفي بدور المراقب في الفيلم، دون حياة شخصية حقيقية.
تجعله هذه الأشياء شخصية مبتورة، وعلى النقيض كان من الممكن استخدام عدد كبير من الدقائق المهدورة بلا هدف حقيقي في إرساء حياة اجتماعية حتى لو بشكل ثانوي، ما دام الصنّاع لا يلتزمون أصلًا بالنص الروائي منذ البداية، حيث كان بإمكانهم صنع شبكة من العلاقات العاطفية تشكِّل بوارو لتورُّطه أكثر في الحكاية.
الجدير بالذكر أن روايات أجاثا كريستي لا يمكن نقلها مباشرة إلى الشاشة، بل يجب تكثيفها وإضافة المعادل البصري إلى أشياء لا يمكن رصدها وأفلمتها، فالنص الأدبي البوليسي لا يشمل الكثير من التفاصيل البصرية، بل يهتم بالحبكة، ويتوخّى الحذر في الكشف والإخفاء حتى يبقي المشاهد منتبهًا.
بيد أن طريقة التعاطي مع الفيلم البوليسي مختلفة، صحيح أنه يتبع المنهجية نفسها في الكشف والإخفاء، ولكنه يمرِّر المعلومات خلال الصورة، وهذا لا يحدث هنا، فالفيلم مليء بالحوارات غير الضرورية، مجرد حشو فارغ وبهرجة بصرية فارغة من المعنى ترصد المكاني بغرض الحضور المادي فقط.
إلى جانب ذلك، يخلق برناه خللًا في تفاصيل كثيرة، ويقحم علاقات دون داعٍ، فقط ليظهر بمظهر الفتى المثالي حسب معايير الغرب، ولكنه قلّلَ من قيمة الفيلم دون أن يشعر، فالعلاقة المثلية والحب بين فتاة سمراء وفتى أبيض، بجانب تنصيب غال غدوت ملكة على مصر في مشهد كاريكاتوري ساذج لا يقدِّم للفيلم بقدر ما يأخذ، وليس له أساس درامي، كلها تفاصيل لا تضيف إلى البناء بأي شكل.
كل الأشياء في الفيلم، الأماكن والبيئة والنهر، تبدو مصطنعة داخل الفيلم، حتى لو بُذل الكثير من الوقت والجهد في بنائها وتحريكها لتكون بجودة ممتازة، خصوصًا في الإضاءة النهارية المستخدمة، ما يجرّد الفيلم من الشيء الأخير الذي يمكن التعويل عليه: القيمة الجمالية للصورة، حيث لم يبقَ سوى بعض الدراما والتشويق في الربع الأخير من الفيلم، بعد أن ينام الجميع في السينما.
وأستطيع القول إن الجزء الأخير من الفيلم هو الجزء الوحيد الذي ينتمي إلى نوعية الجريمة والإثارة، رغم أنه لم يكن أفضل شيء ممكن، ولكن على الأقل قدّم برناه جزءًا يمكن الاستمتاع به، حتى لو كان بضع دقائق.