تراهن الحكومة الجزائرية هذا العام والأعوام المقبلة على رفع مساهمات القطاعات غير النفطية بشكل كبير في مداخيل الخزينة العمومية، وذلك بعد دخول قانون الاستثمار الجديد الذي درسه مجلس الوزراء مؤخرًا حيّز التطبيق في الأسابيع القادمة، بالنظر إلى ما حمله من مرونة في تشجيع الاستثمار الأجنبي والخاص في مختلف القطاعات، وهو التحدي الذي ترفعه الحكومة للخروج باقتصاد البلاد إلى برّ الأمان بعيدًا عن تقلُّبات أسعار برميل النفط، الذي يظل إلى اليوم المتحكم الرئيسي في وضعية الاقتصاد الجزائري.
ورافع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، منذ وصوله إلى سدّة الحكم في ديسمبر/ كانون الأول 2019 لاقتصاد متنوِّع ينهي الممارسات السابقة التي جرَت طيلة عقدَين من الزمن في عهد سلفه الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وهي الممارسات التي أصبحت اليوم محل متابعات على مستوى المحاكم، الأمر الذي يجعل المهمة ليست بالسهلة لمحو صورة قاتمة رُسمت لسنوات حول إجراءات الاستثمار في الجزائر.
تحسين مناخ
بعد طول انتظار، أفرجت الحكومة عن الخطوط الرئيسية لما يحمله قانون الاستثمار الجديد، فقد ترأّس الرئيس عبد المجيد تبون في 19 مايو/ أيار المنقضي اجتماعًا خاصًّا لمجلس الوزراء، وهو الاجتماع الأول الذي تُطلق عليه هذه الصفة، حيث باقي الاجتماعات تكون دولية، وقد تمَّ خلال هذا اللقاء الخاص دراسة ومناقشة مشروع القانون الجديد للاستثمار الذي عرضه وزير الصناعة.
وحسب ما جاء في بيان الرئاسة الجزائرية، فقد تضمّن مشروع القانون جملة من التدابير الرامية إلى تحسين مناخ الاستثمار، وتوفير الظروف المناسبة، لتحرير روح المبادرة وتنويع الاقتصاد الوطني، ضمن رؤية شاملة ومستقرة، تراعي تكريس مبادئ حرية الاستثمار والشفافية والمساواة، تماشيًا مع أحكام دستور 2020.
ويسعى القانون الجديد للاستثمار إلى إعادة تنظيم الإطار المؤسساتي المتعلق بالاستثمار، من خلال تركيز مهام المجلس الوطني للاستثمار على اقتراح السياسة الجزائرية في مجال الاستثمار وتنسيقها وتقييم تنفيذها.
ونصَّ القانون على تحويل الوكالة الوطنية لدعم الاستثمار إلى الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، وذلك بمنحها دور المروّج والمُرافق للاستثمارات عبر استحداث شبّاك وحيد ذي اختصاص وطني للمشاريع الكبرى والاستثمارات الأجنبية، وذلك بهدف تقليص الممارسات البيروقراطية التي كانت على الدوام مُنفِّرة للمستثمر الأجنبي والمحلي.
كما جاء في مشروع القانون استحداث شبابيك وحيدة غير ممركزة للاستثمار المحلي، وتعزيز صلاحياتها من خلال تأهيل ممثلي الهيئات والإدارات العمومية لديها، والتي ستكون على مستوى الولايات الـ 58 للجزائر، بغية التخلُّص من عقلية مركزية القرار الاستثماري، وبالتالي المساهمة في بعث الاستثمار المحلي ودفع التنمية المحلية التي تعدّ أساس بروز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وأعطى القانون جانبًا مهمًّا لتسهيل عمليات الاستثمار، بالعمل على “محاربة البيروقراطية عبر رقمنة الإجراءات المتصلة بعملية الاستثمار عن طريق استحداث المنصة الرقمية للمستثمر، التسليم الفوري لشهادة تسجيل المشروع الاستثماري، وتوسيع نطاق ضمان تحويل المبالغ المستثمرة والعائدات الناجمة عنها إلى المستثمرين غير المقيمين، واستحداث أنظمة تحفيزية للاستثمار في القطاعات ذات الأولوية، والمناطق التي توليها الدولة اهتمامًا خاصًّا، من أجل ضمان توجيه أفضل للمزايا الممنوحة للاستثمار”.
أهم الجوانب التي حملها مشروع قانون الاستثمار الجديد هي منح تسهيلات للمستثمرين الأجانب
ولتحويل هذه الشعارات إلى عمل ميداني، أمرَ الرئيس الجزائري خلال الاجتماع ذاته بـ”تعزيز الضمانات المتعلقة بتكريس مبدأ حرية الاستثمار، وتعزيز النظام القانوني لحماية المستثمرين من التعسُّفات البيروقراطية عبر استحداث آلية مستقلة رفيعة المستوى، تضمّ قضاة وخبراء اقتصاديين وماليين، توضع لدى رئاسة الجمهورية، وتتولى الفصل في الشكاوى والطعون المقدمة من قبل المستثمرين”.
وشدّدَ الرئيس الجزائري على ضرورة “التخلي عن مظاهر التسلُّط والسيطرة في معالجة ملفات المستثمرين، وتقليص آجال دراستها إلى أقل من شهر، مع اعتماد المعايير الدولية في استقطاب الاستثمارات، وبالتركيز على السرعة والنجاعة والديمومة”.
ووضع تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020 الجزائر في المرتبة 157 من بين 190 بلدًا شملها التقرير، وهي المرتبة التي تسعى الحكومة الجزائرية إلى تغييرها بالقانون الجديد، والتي تتطلب أيضًا معالجة الانتقادات الموجَّهة إليها من قبل المؤسسات المالية الدولية التي تنتقد في الغالب تأخُّر وثقل الإجراءات البنكية، وصعوبات في تحويل الأرباح إلى الخارج للشركات الأجنبية، وتأخُّر منح العقار لإقامة المشاريع، وطول فترة الحصول على وثائق إنشاء الشركات وغيرها، وهي المشاكل التي تطرّق إليها مشروع قانون الاستثمار الجديد، وتشريعات أخرى أصدرتها الحكومة مؤخرًا أو بصدد إصدارها.
ومن منطلق هذه المؤاخذات، يقول الخبير الاقتصادي البروفيسور مراد كواشي لـ”نون بوست” إن “أهم الجوانب التي حملها مشروع قانون الاستثمار الجديد هي منح تسهيلات للمستثمرين الأجانب، وتيسير تحويل الأرباح إلى الخارج ومحاربة البيروقراطية باعتماد الشبّاك الوحيد، وسنّ تسهيلات للحصول على العقار الصناعي، لكن أهم إيجابيات هذا القانون أنه سيمكّن من توفير مناصب عمل للجزائريين بنصّه على تسقيف العمالة الأجنبية في مختلف المشاريع عند 10%”.
تقليص
بالنسبة إلى اقتصاد الجزائر الذي يعاني تبعية لقطاع المحروقات تتعدى 95%، يظل الاستيراد مشكلة كبيرة تثقل كاهل البلاد، وتجعل الميزان التجاري يميل إلى اللون الأحمر في كل مرة تتهاوى فيه أسعار النفط، لذلك تراهن الحكومة على تقليص فاتورة الاستيراد ودعم التصدير وتنويع الإنتاج المحلي.
وبدا هذا التحدي جليًّا من خلال تشديد الرئيس تبون في اجتماع 19 مايو/ أيار على “دعم الاستثمارات التي تساهم في تقليص فاتورة الاستيراد، وتعتمد على المواد الأولية المحلية”.
ويعدّ هذا التوجه استمرارًا لنهج اتخذته البلاد في السنوات الأخيرة خلال فترة انهيار أسعار البترول وجائحة كورونا، فقد صدر قرار بضرورة عدم استيراد المنتجات المصنوعة محليًّا، حيث مثلًا ألزمت الحكومة المستثمرين في قطاع البناء والسكن على الاعتماد على المنتج المحلي في تشييد الأبنية، كما قلّصت الحكومة فاتورة استيراد الأدوية ببعث قطاع الصناعة الصيدلانية الذي يعدّ أحد القطاعات التي ترى فيها أنها ستساهم في رفع الصادرات خارج المحروقات، وفق خطة تستهدف بالدرجة الأولى الأسواق الأفريقية وتشجيع الإنتاج المحلي الذي يوقف الاستيراد من الخارج.
واستطاعت الجزائر في السنتَين الأخيرتَين تقليص استيراد الأدوية بـ 800 مليون دولار، حسب تصريحات سابقة لوزير الصناعة الصيدلانية، عبد الرحمان جمال لطفي بن باحمد، بعد ارتفاع الإنتاج المحلي الذي مكّن من تغطية 78% من احتياجات الجزائر الخاصة بالمواد الصيدلانية.
ويعمَّم هذا القرار على مختلف القطاعات، كالحديد والإسمنت، والذي تحولت فيه البلاد إلى دولة مصدرة لا مستوردة، لكن هذا الجانب المضيء لا يلغي بقاء الجزائر مرتبطة بالأسواق الخارجية لتغطية مختلف حاجيتها، وبالخصوص الغذائية منها رغم ارتفاع مساهمة الفلاحة في الاقتصاد العام الماضي إلى 25 مليار دولار، والذي يبقى غير كافٍ رغم التحفيزات المقدَّمة للفلاحين، وبالخصوص للمحاصيل الاستراتيجية كالحبوب والبقوليات. ويُترجَم هذا الواقع في عدم تجاوز حجم الصادرات خارج البترول عتبة الـ 4.5 مليارات دولار عام 2021.
نصَّ القانون على توجُّهٍ للحكومة يضع قطاعات معيّنة كأولوية، أولاها قطاع الطاقة الذي تحاول فيه الجزائر أن تبقى موردًا موثوقًا للطاقة سواء في إمدادات الغاز أو ميادين أخرى
وأوضح البروفيسور مراد كواشي لـ”نون بوست” أن الوصول إلى “المساهمة في تنويع الاقتصاد لا يقتصر على قانون الاستثمار فقط، إنما يتطلب توفُّر شروط أخرى كالقيام بإصلاحات هيكلية تخصُّ الجانب البنكي، وذلك بإعادة النظر في قانون القرض والنقد والمنظومة الجبائية، بتخفيف الضرائب العالية المطبقة على المستثمرين، إضافة إلى تهيئة البنية التحتية من طرق وموانئ ومطارات وإنشاء مناطق حرة على الحدود الجزائرية”.
وهنا تحاول الحكومة الاستثمار في بنيتها التحتية المتوفرة أو التي هي قيد الإنجاز، كالطريق العابر للصحراء الذي يربط بين 6 دول أفريقية، وبرامج السكك الحديدية والألياف البصرية للربط بالدول الأفريقية المجاورة، إضافة إلى تنمية التجارة على الحدود مع تونس وموريتانيا وليبيا والنيجر ومالي، حيث تعمل على سبيل المثال على تأهيل الطريق الرابط بين تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية.
وأشار كواشي إلى أن الجزائر بإمكانها بهذا القانون رفع الصادرات خارج المحروقات إذا ما تمكّنت من جلب مستثمرين أجانب في قطاعات مختلفة، ورفع عدد المستثمرين المحليين، وذلك باستعمال الدبلوماسية الاقتصادية، إضافة إلى استغلال مكانتها الغازية الدولية لجعل شركائها الأجانب يستثمرون في قطاعات أخرى خارج قطاع المحروقات.
ونصَّ القانون على توجُّه للحكومة يضع قطاعات معيّنة كأولوية، أولاها قطاع الطاقة الذي تحاول فيه الجزائر أن تبقى موردًا موثوقًا للطاقة، سواء في إمدادات الغاز أو ميادين أخرى كالهيدروجين الأخضر والطاقة الكهربائية.
فقد استثمرت شركة سوناطراك الحكومية هذا العام 20 مليار دولار فقط، وكذا قطاع التعدين الذي عقدت بشأنه اتفاقات مع الصين لتشغيل منجم غار جبيلات للحديد بالجنوب الجزائري، والذي يتوقع أن يوفِّر إيرادات للبلاد قد تصل إلى 14 مليار دولار، إضافة إلى قطاعات أخرى كالصناعة الصيدلانية والإسمنت والفلاحة.
ردع وعقاب
يرى الخبير الاقتصادي مراد كواشي أن تضمين قانون الاستثمار لإجراءات رادعة ضد من يعرقلون الاستثمارات في الجزائر، هو خطوة ستمكّن من القضاء على الفساد الذي استشرى في السنوات الماضية، وسينهي كل أشكال البيروقراطية، وذلك بالاعتماد على نظام الشبّاك الوحيد ورقمنة المعاملات الاستثمارية.
وحمل قانون الاستثمار إجراءات ردعية لكل من يريد الوقوف ضد تطبيقه، فقد أمرَ الرئيس تبون بـ”تسليط أقصى العقوبات على كل من يعرقل بشكل أو بآخر عمليات الاستثمار، مهما كان مركزه وطبيعة مسؤوليته”.
وفي الأشهر الأخيرة أصبح مجلس الوزراء الذي يرأسه الرئيس تبون يدرس دوريًّا عملية رفع العراقيل عن المشاريع الاستثمارية التي أعاقت تنفيذها العقلية البيروقراطية للإدارة الجزائرية، والتي تعدّ أهم تحدٍّ للحكومة في تنفيذ مشروع قانون الاستثمار بحذافيره، لأنه وإن كان من السهل تعديل التشريعات فإنه من الصعب تغيير الذهنيات.
وقبل أيام، قال وسيط الجمهورية، إبراهيم مراد، إن عملية رفع العراقيل عن المشاريع الاستثمارية المكلَّف بها ساهمت في توفير 34 ألف منصب عمل، مع رفع العراقيل عن 802 مشروع من أصل 915 مشروعًا، مع دخول 601 مشروع منها حيّز الاستغلال.
ترحيب وانتقادات
لقي إعلان مجلس الوزراء عن الخطوط العريضة لمشروع قانون الاستثمار الجديدة تثمينًا من قبل العديد من الجهات، بالنظر إلى أنه سيسدّ الفراغ الذي كان موجودًا والذي حالَ دون قدوم استثمارات أجنبية إلى الجزائر.
وقال الخبير الاقتصادي مصطفى مقيدش لوكالة “الأنباء” الجزائرية إن هذا المشروع يُعتبر “تقدُّمًا حقيقيًّا وملموسًا، إذ من شأنه أن يحرر روح المبادرات للمتعاملين المحليين والأجانب”، بالنظر إلى أنه قد “أدخل لأول مرة نظرة على المدى الطويل بخصوص الاستثمارات، والتي تسمح بتحديد الأولويات ودعم المشاريع المهيكلة، وكذا المشاريع اللامركزية من أجل تحقيق التنمية المحلية”.
واعتبر مقيدش أن الرقمنة “ستضمن شفافية أفضل في مجال معالجة ملفات الاستثمار وتمكِّن من تحديد العراقيل”، مبينًا أن “الأحكام القانونية المنصوص عليها في مشروع القانون الجديد لأجل حماية المستثمرين من العراقيل البيروقراطية والتعطيلات غير المبررة ستفرض على الإدارة ضرورة تقديم النتائج أو على الأقل شرح الأسباب وراء هذه العراقيل، لتفادي العقاب في حال التعطيلات غير المستحقة”.
ولم تخفِ المنظمة الوطنية للتنمية الاقتصادية “ارتياحها” لما جاء به مشروع قانون الاستثمار الجديد، بالنظر إلى أن مختلف محاوره تصبُّ في خانة تحسين مناخ الاستثمار وتوفير الظروف المناسبة لتحرير روح المبادرة وتنويع الاقتصاد الوطني ضمن رؤية شاملة ومستقرة.
إن نصَّ مشروع القانون الجديد للاستثمار “يكرّس توجهًا تصحيريًّا” للاقتصاد الجزائري والإنتاج الوطني، بحسب لويزة حنون
أما حزب العمال الذي تتولى أمانته العامة لويزة حنون، والتي تصنِّفها الصحافة الجزائرية ضمن المحسوبين على النظام السابق بالنظر إلى قربها من الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة ورجاله، فقد انتقدَ القانون الذي يعوّل عليه الرئيس تبون للخروج بالاقتصاد الجزائري إلى المنافسة الإقليمية عربيًّا وأفريقيًّا، حيث قالت حنون إن نصَّ مشروع القانون الجديد للاستثمار “يكرّس توجهًا تصحيريًّا” للاقتصاد الجزائري والإنتاج الوطني.
وتعتقد حنون أن معنى الانفتاح الذي يسعى إليه القانون هو “القضاء على كل خاصيات السيادة الاقتصادية للدولة الجزائرية، ويبرمج تفكيك ما تبقى من صناعة جزائرية من خلال منافسة غير عادلة لصالح الأجانب وبعض الخواص المحليين على حساب القطاع العمومي خاصة والوطني عمومًا”.
وفي انتظار أن يدخل القانون الممارسة الميدانية الحقيقية، تبقى كل الأحكام مقبولة لأنها في الغالب تعبِّر عن توجُّه وخلفية سياسيَّين وفكريَّين معيّنَين، في حين أن الميدان يكشف حقيقة الاتجاه الذي سيسير عليه الاقتصاد الجزائري انطلاقًا من هذا القانون الذي يمكن أن يشكّل انطلاقة حقيقية للبلاد في مجال الأعمال والمال، بالنظر إلى التغيرات الإقليمية والدولية التي وضعت الجزائر أمام فرص ورهانات قد لا تتكرر إن استطاعت كسبها.