ترجمة وتحرير نون بوست
“أعداؤنا كُثُر هنا، المكان ليس آمنًا”، هكذا قالت السيدة الكردية التي حاولت إثنائي عن المبيت حين حطيت رحالي في قريتها على الجبل إبان غروب الشمس، إذ أشارت بيدها إلى البيوت الخالية المحيطة بنا، وقالت بأن حادث قتل قد وقع مؤخرًا مما أدى إلى تسوية بيت القاتل بالأرض، في حين فر أقاربه خوفًا من أهل القتيل الذين يحاصرون البيت بالسلاح. أذعنت لرغبتها ثم مضيت في طريقي، ونمت في حقل يبعد حوالي 8 كيلومترات عن القرية.
في الحقيقة لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تلك العبارة. فعلي مدار ثلاثة أشهر، وأثناء ترحالي لحوالي 500 كيلومتر عبر المرتفعات والطرق الريفية والطرق السريعة الحديثة في كردستان التركية، سمعت تلك العبارة عشرات المرات. لماذا أرتحل هنا أصلًا؟ لأنني جزء من مشروع “رحلة الخروج من عدن” (Out of Eden Walk)، والذي يحاكي أول هجرة بشرية من أفريقيا أثناء العصر الحجري، ويتضمن توثيق التفاصيل الدقيقة لهذه الرحلة العتيقة على الأقدام وصولًا إلى أمريكا الجنوبية.
تركيا هي البلد الثامن الذي أزوره منذ انطلاقي من إثيوبيا عام 2013، وكنت أعتقد أن الترحال سيكون سهلًا فيها، غير أنني واجهت الكثير من المصاعب في شرق الأناضول هذا الصيف، حيث تم طردي من العديد من القرى الكردية، والتحقيق معي من قبل القيادات الأهلية هناك، بل وتعرّضت مرتين لإطلاق النار من أكراد متوجسين مني. بالطبع لا ينفي هذا الترحاب والضيافة اللذين لاقيتهما في القرى الكردية، ولكن الشك تجاه الأجانب أحيانًا ما أعاق الكثيرين عن استقبالي بصدر رحب.
الوحدة، هذا هو ما يشعر به الأكراد. الكثير من الأعداء وانعدام الأصدقاء؛ تلك المعاني أصبحت جزءًا من الهوية الكردية ذاتها، والتي ينتمي لها 30 مليون كردي عانوا من القمع والتهميش من قِبَل الدول التي يتركزون فيها — تركيا وإيران والعراق والسوريا. ولكن هذا الوضع يوشك أن يتغيّر، إذ يرى الكثير من الأكراد أن دعم الولايات المتحدة لهم، وهي القوة الأكبر في العالم، في مواجهة داعش، يعيد أحلام توحيد الأكراد بتعزيز التعاون بين الحركات الكردية المتنافسة، بل وربما تأسيس دولة لهم.
الأكراد شعب جبلي لا يزال محتفظًا بشيم المجتمعات التقليدية، بل ويتسم بثقافة عنيفة فيما يخص الشرف والكرامة تشبه صعيد مصر، وهو ما عرفته قبل وصولي لتركيا، حين هاتفني مُرشِدي الكردي ليعتذر عن المهمة إثر اقتتال عائلي طال أسرته أدى إلى مقتل أحدهم، فلم نستطع حتى أن نلتقي بمدينة شانلي أورفا، خوفًا من الاصطدام بأي ممن يناصبون عائلته العداء. (وكان هذا خبرًا مؤسفًا حيث كان شخصًا غزير المعارف فيما يخص المجتمع الكردي.)
الاقتتال الداخلي بين الأكراد شديد لدرجة أنني مررت بمجموعة قرى جديدة تشكلت إثر الصراعات الدموية بين القبائل والأسر، فقد مررت بقرية اسمها باسلي، وسألت “المُختار” فيها (أو قائد القرية)، سهم الدين أيطن، عن عُمر المكان، فقال أن المكان لا يتجاوز عمره ثلاثين عامًا، ودبت فيه الحياة إثر نزوح قريته بالكامل بعد حادثة قتل عام 1987.
إلى جانب الاقتتال القبلي الكردي، تحوم حول شرق الأناضول أشباح زمن ليس ببعيد، تفشى فيه العنف من قِبَل الدولة التركية لقمع ميليشيات الأكراد الانفصاليين (أو المطالبين بالاستقلال) من حزب العمال الكردستاني، وهو أمر لمسته بشدة في مجموعة قرى مررت بها ووجدتها خالية إثر إخماد الدولة لتمرّد أودى بحياة 37 ألفًا.
الدين أيضًا مسألة شائكة هنا، خصوصًا منذ صعود داعش والمتطرفين بشكل عام في سوريا، إذ ظن الكثيرون أنني جهادي متجه لسوريا (نظرًا لتوافد جهاديين كثر من أوربا) وتعرّضت لإطلاق نار من أكراد قرب جبل قره جه طاغ، إذ قال لي أحدهم بوضوح “سأقتلك!”، قبل أن يهمس آخر في أذن مُرشدي الكردي الجديد بأن يهاتف سياسيًا كرديًا لنخرج من تلك الأزمة. خلال دقائق، عرفنا أن مشكلتهم الرئيسية هنا هي حزب الله الكُردي، وهو حزب إسلامي متطرف تموّله أنقرة منذ عقود كما يُقال لمواجهة حزب العمال الكردستاني.
كردستان التركية منطقة بديعة، حيث أنتقل هذه الأيام بين أشجار الحور الذهبية التي تعانق سماء الشتاء الملبّدة بالغيوم، ولكنني أمشي بحذر، وأرفع يدي أحيانًا كعلامة استسلام لكي لا تصيبني طلقة من كردي ارتاب في أمري.
من الصعب أن ألوم الأكراد على هذه القسوة، إذ يبدو أن الجغرافيا والتاريخ وضعاهم لقرون بين شقي رحا العثمانيين والصفويين، قبل أن يجبرهم قلم رصاص أوربي رسم حدود الشرق الأدنى منذ قرن على الخضوع لأربعة دول مختلفة. ولكن هذا النوع من الثقافة يُرهق الزوار في نهاية المطاف.
أسوأ حكايات سمعتها هنا هي عن “القوروجو”، وهي الحراسة الكردية التي شكلتها الحكومة التركية لمواجهة حزب العمال الكردستاني، إذ يلعنهم القوميون من الأكراد ويعتبرونهم خونة، فمنذ بضعة أسابيع، قام رجال من حزب العمال بالتحفظ على واحد منهم وإعدامه بالرصاص.
قابلت ثلاثة من رجال القوروجو هؤلاء الأسبوع الماضي وأنا أمشي مع مُرشدَين في وادٍ تحفه الأشجار في بلدة أجري، إذ تأخرت عنهما وانغمست في كتابة رسالة هاتفية لأجد القوروجو في وجهي في زي تمويهي يصيحون فيّ ويرفعون بنادق الكلاشينكوف، حتى بعد أن رفعت يدي استسلامًا.
“لقد أرعبتنا!”، هكذا قالوا، إذ ظنوا أنني منتمٍ لحزب العمال الكردستاني، قبل أن يربت أحدهم على كتفي ويعتذر قائلًا، “أعداؤنا كُثُر هنا.”
المصدر: نيويورك تايمز