في 15 مايو/ أيار الماضي اعتقلت شرطة الاحتلال الإسرائيلي عددًا من الطلبة الفلسطينيين في جامعة تل أبيب وجامعة بن غوريون، تحت تهمة رفع العلم الفلسطيني داخل الجامعة، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة.
وتبعت هذه الملاحقة والاعتقال سلسلة من المواجهات في القدس المحتلة التي يحظر فيها الاحتلال الإسرائيلي رفع العلم الفلسطيني، ويعتقل ويفرض غرامات مالية على من يقوم بمثل هذه الخطوة تحت ادّعاء السيادة على المدينة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ شهدت مناطق مثل حوارة في نابلس الواقعة شمالي الضفة المحتلة مواجهات لأيام، بين الفلسطينيين أصحاب الأرض والمستوطنين الذين حاولوا إزالة العلم الفلسطيني تحت حماية جنودهم وأنظارهم، وهو ما فشلوا فيه عدة مرات.
إن ما سبق يعكس الأزمة التي يعاني منها الإسرائيلي منذ أن سرق أرض الفلسطينيين قبل 74 عامًا، فالاحتلال من جانب يبحث دائمًا عن صورة النصر التي تثبت أحقّيته في أرضٍ ليست أرضه، وعن صورة سيادة منقوصة ما فتئ الفلسطينيون يحطمونها رغم المؤامرات.
ينصُّ مشروع القانون على أن “المواطنين الذين يرفعون خلال تظاهرة علم دولة عدوّة أو أية هيئات ليست صديقة لـ”إسرائيل” مثل أعلام منظمة التحرير الفلسطينية، ستتم محاكمتهم وسيكونون معرّضين للسجن لمدة عام”
ومع ذلك، أقرَّ الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون بالقراءة التمهيدية يحظر رفع العلم الفلسطيني وأعلام الدول “المعادية”، في الجامعات والمؤسسات الحكومية والرسمية التي تحصل على تمويل حكومي رسمي.
إذ جاء إقرار القانون الذي قدّمه عضو الكنيست عن الليكود، إيلي كوهين، في سياق محاولات المعارضة الإسرائيلية بقيادة الليكود إحراج حكومة نفتالي بينت الأشد تطرفًا في اليمين، رغم وجود مكونات يسارية فيها، مثل حزبَي “ميرتس” و”العمل”، والقائمة العربية الموحَّدة بقيادة عضو الكنيست منصور عباس.
وتمكنت المعارضة من تمرير مشروع القانون، بعدما سمحت لجنة التشريع الوزارية في الحكومة لأعضاء الائتلاف بالتصويت مع مقترح القانون، رغم أنه قُدِّم من قبل المعارضة، علمًا أن بمقدور اللجنة إصدار قرار ملزم لأعضاء الائتلاف بمعارضة قوانين المعارضة.
وجاء القانون تتويجًا لحملة من التحريض ضد طلاب الجامعات الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، بعدما رفع هؤلاء الأعلام الفلسطينية في جامعتَي بئر السبع وتل أبيب الشهر الماضي، خلال إحيائهم لمناسبة النكبة الفلسطينية.
طمس الهوية الفلسطينية
ينصُّ مشروع القانون على أن “المواطنين الذي يرفعون خلال تظاهرة علم دولة عدوة أو أية هيئات ليست صديقة لـ”إسرائيل” مثل أعلام منظمة التحرير الفلسطينية، ستتم محاكمتهم وسيكونون معرّضين للسجن لمدة عام”.
يقول الكاتب والمحلل السياسي سليمان بشارات إن القانون يمكن قراءته في سياق استكمال يهودية الدولة الذي تمَّ إقراره قبل عدة سنوات، وجاء قانون منع رفع الأعلام الفلسطينية ليكمل الإجراءات المتعلقة بشكل يهودية الدولة.
وبحسب بشارات الذي تحدّث لـ”نون بوست”، فإن الهدف الأساسي من هذا القانون هو تثبيت الهوية اليهودية للكيان الإسرائيلي الذي يحاول تعزيز مظاهر الهوية، والتي لا تكمن إلا في منع كل الشعارات والأعلام المعارضة.
ويلفت الكاتب والمحلل السياسي إلى أن الاحتلال ككيان يهودي يبحث عن محاولة توحيد مفهوم الكيان الذاتي وتوحيد العرقية الذاتية، ولا يريد معنى آخر لوجود قوميات أخرى داخل الكيان، وهو ما سعى إليه الاحتلال منذ نشأته.
ومنذ تأسيس الكيان الإسرائيلي عام 1948، سعى الاحتلال لتطبيق نظرية “الصهر” التي تقوم على دمج كل القوميات الموجودة داخله والأعراق، إلا أن ذلك لم يجدِ نفعًا على اعتبار أن كل طائفة يهودية لها خصائص تختلف عن الأخرى.
ووفق المحلل بشارات، يذهب الاحتلال باتجاه أن الوجود الفلسطيني داخل أراضي 48 وكأنه انصهار ذاتي عبر التنازل عن ملامح الهوية الفلسطينية لصالح هوية السكان، وبالتالي يسعى الاحتلال من جعل الوجود الفلسطيني كأقلية طائفية وليس كأصحاب أرض.
ومن بين الإشكالات الحاضرة في القانون هو أن الاحتلال اعترف سابقًا بمنظمة التحرير والعلم الفلسطيني كان جزء من هذا الاعتراف، وبصفة قانونية وفي أعقاب تمرير القانون فإن حكومة الاحتلال تسقط الاعتراف بالمنظمة ككل.
العلم الفلسطيني مقابل العلم الإسرائيلي
إن المتتبّع للسلوك الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين، يدرك حجم المأزق الذي يعيشه الاحتلال منذ عقود، حيث يحاول ملاحقة أي مظاهر رمزية فلسطينية، ومن بينها العلم الفلسطيني الذي كان في انتفاضة عام 1987، كجرم كبير يعاقب بالسجن من يرفعه لمدة 6 أشهر.
ونزع الرمزية يجبر الإنسان الفلسطيني على القبول بأي شيء آخر، وهو ما بدأ الاحتلال يمارسه من خلال عملية السور الواقي والاجتياح الكبير للضفة الغربية، واللذين من خلالهما مسح التصنيفات التي كانت قائمة للمدن “أ” و”ب” و”ج”.
في السياق ذاته، يقول الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي إن هناك عدة أسباب أولها الطبيعة العنصرية الإسرائيلية، إضافة إلى ملاحقة العلم الفلسطيني في مجتمعات الـ 48، غير أن تكثيف ذلك مرتبط بما جرى خلال هبّة القدس عام 2021 ومعركة “سيف القدس”.
ويضيف عرابي لـ”نون بوست” أن رفع العلم الفلسطيني في الأراضي المحتلة يردُّ على الرواية الإسرائيلية، بالإضافة إلى معركة السيادة الحاصلة في القدس المحتلة، وهو ما ظهر من خلال إصرار الاحتلال على مسيرة الأعلام في القدس المحتلة واقتحام المسجد الأقصى وملاحقة العلم الفلسطيني، وما جرى خلال جنازتَي الصحفية شيرين أبو عاقلة والشهيد وليد الشريف.
إقرار هذه القوانين يُلحق الضرر بشكل كبير بالفلسطينيين، بحيث يساهم في اتخاذ إجراءات قانونية وقضائية وحتى ميدانية تصل إلى القتل أو الاعتقال تحت مبرر وجود تشريع قانوني يحمي مؤسسات الاحتلال
وبحسب الكاتب والمحلل السياسي، لا يجب تغييب حالة المناكفات والمزايدة السياسية بين التيارات الإسرائيلية في الاحتلال، وهو ما يرجع إلى تنامي “الصهيونية الدينية” بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة على حساب الأحزاب.
إسرائيليًّا، تتحدث بعض الأصوات عن الخشية من تآكُل الاحتلال داخليًّا نتيجة الصراع السياسي الداخلي بسبب افتقاد الكثير إلى العقلانية، كما تحدّث شمير باردو، رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي السابق، عن الخطر الحقيقي الذي قد ينعكس سلبًا على الاحتلال.
وباتت “الصهيونية الدينية” والأحزاب المحسوبة عليها يحظيان بنفوذ واسع لا يقتصر فقط على التمثيل في كنيست الاحتلال أو الحكومة، بل في المؤسسات الحسّاسة كالجهاز القضائي والشرطي والعسكري، وهو ما يعكسُ تمدُّده.
السيادة المزعومة
يعكس القانون عنصرية الاحتلال الإسرائيلي الذي سبق وأن أقرَّ قوانين ذات نزعة عنصرية، أولها قانون يهودية الدولة وقانون النكبة الجديد وقانون التجنيد وقانون لمّ الشمل، كمحاولة من الاحتلال بشتى السبل للبحث عن سيادته المزعومة.
ورغم ذلك، فإن إقرار هذه القوانين يُلحق الضرر بشكل كبير بالفلسطينيين، بحيث يساهم في اتخاذ إجراءات قانونية وقضائية وحتى ميدانية تصل إلى القتل أو الاعتقال، تحت مبرر وجود تشريع قانوني يحمي المؤسسات الاحتلال.
ويمكن للاحتلال من خلال قانون الأعلام هذا أن يعتقل حَمَلة الأعلام ورافعيها، وأن يوجِّه إليهم تهمًا كبيرة، وأن يفرض غرامات مالية أو يقوم بإطلاق النار عليهم حال كانوا متواجدين في فعاليات ومواجهات ميدانية شعبية، وهو الأمر الذي يعكس جزءًا من أسباب إقراره.
ولا يبدو أن الاحتلال وأحزابه المتناحرة سيتوقفان عن هذا القانون، إذ يمكن القول إن سلسلة من القوانين ذات النزعة العنصرية ستكون حاضرة بقوة خلال الفترة المقبلة، من أجل ضمان أصوات الناخبين “المتطرفين” وكسب رضاهم.