ليست بالأمنيات ولا بالأدعية، في الواقع دولة الرئيس قيس سعيّد آخذة في التمدُّد يومًا بعد يوم، آخذة في بسط نفوذها على مراحل، قاضمة مؤسسات الجمهورية الثانية ومتوسِّعة من جديد على إرث التي سبقتها من جمهورية التأسيس الأولى، وربما أشد وطأة منها، وبقبضة على مفاصل الدولة.
مع كل جولة من يوليو/ تموز يقضم الرئيس مؤسسة ليلحق بها إلى أخرى، وآخر الضحايا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، حيث لا يريد رقيبًا ولا حسيبًا على الاستفتاء المرتقب على الدستور الجديد، وهو ما يعد “إنجاز” آخر يُضاف إلى دولة الرئيس الجديدة، ليواصل الهروب إلى الأمام، نحو دستور مفصَّل على المقاس، عبر حوار إقصائي، ومنطق تعسُّفي يُفرض في الداخل والخارج، غير مبالٍ بتناقُص عدد السابحين في فلكه يومًا بعد آخر، فمن أبقى معه؟
الدائرة تضيق كلما اقترب موعد الاستفتاء
كلما اقترب دستور دولة الرئيس قيس سعيّد، بعد إجهازه على الهيئة المستقلة العليا للانتخابات بتعيينه معظم أعضائها بنفسه، رغم رفض رئيسها، كلما اتّسعت دائرة المعارضين له، سواء في الشارع أو من نقابات ومنظمات وأحزاب وشخصيات أو حتى من الخارج.
مضى سعيّد لإحداث لجنة استشارية لفرض تغييرات على المقاس بناء على نتائج الاستشارة الإلكترونية، التي جرت في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، ولم تحظَ بمشاركة تُذكر، رغم ذلك مُرِّرت على أنها إنجاز كبير.
تخلّت عنه شخصيات مقرَّبة من الصف الأول، من مستشارين إلى رؤساء دواوين، وليس من المستغرب أن تتعاظم أدوار المعارضة السياسية لقيس سعيّد وإن حافظت على تشتُّتها نوعًا ما، لكنها بدأت عمليًّا في التكتُّل والتوحُّد.
تشكّلت جبهة الخلاص الوطني بقيادة أحمد نجيب الشابي التي تضمُّ أحزابًا كبرى، وحراك “مواطنون ضد الانقلاب” الذي أثبت قدرته على التحشيد ضد الانقلاب منذ أشهره الأولى، لكن لا يزال أمام هذا التكتل الجديد امتحان آخر، وهو الإثبات مرة أخرى قدرته على التحشيد للعودة للمسار الدستوري، ومقاطعة استفتاء 25 يوليو/ تموز المقبل، خاصة أن الرئيس تعمّد عدم دعوة قوى الجبهة للمشاركة في لجان الحوار وإعداد الدستور.
لم يعد الرفض فقط محسوبًا من قوى برلمانية، بل حتى من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات الذين طالبوا رئيس الجمهورية بإشراكهم في اللجان المختصة المنبثقة عن الهيئة الاستشارية، إضافة إلى رفض منظمات تمَّ إقحام رؤسائها عمدًا دون موافقتهم، على غرار ما جرى مع أمين عام المنظمة الشغيلة نور الدين الطبوبي، الذي استنكر إدراج اسمه وصفته دون علمه، معلنًا مقاطعته للحوار الرئاسي ولجانه، والدخول في إضراب عام قريبًا.
والأغرب أن يتكرر هذا مع المدعوّين للجنة الحوار الوطني، حيث تمَّ دعوة أسماء دون علمها، ناهيك عن رفض بعض المكونات للحوار باعتباره صُوريًّا وشكليًّا وخاليًا من أي مصداقية.
ينذر هذا باتّساع الدائرة أكثر، وانفراط العقد الدائر بقيس سعيّد، مع قرب تشكُّل جبهة جديدة كان أحزابها، خاصة حزب التيار الديمقراطي، من أشد الموالين لقيس سعيّد، وقد طالبوا بانقلاب عسكري بغرض إقصاء حزب حركة النهضة، لولا أن الانقلابات دائمًا لا تكون بالشكل المطلوب، فهي تأكل الجميع دون استثناء.
بالتالي رأت اليوم إطلاق مولود سياسي آخر ضد الانقلاب، بمسمّى “الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء”، وتضمُّ أحزاب التيار كما ذكرنا، وأحزاب القطب والجمهوري والتكتل والعمال.
سيكون أول مهام هذه الجبهات المضادة بعد 10 أشهر من انقلاب سعيّد، الدعوة إلى إعادة الاعتبار للحياة السياسية الحزبية والمدنية التي ألغاها رئيس الجمهورية بتجميد المؤسسات الدستورية، ناهيك أن يجعلها شاهدة زور وتزوير على كتابة دستور داخل الغرف المغلقة، بعد استشارة إلكترونية ضعيفة الإقبال ولم تُعلن نتائجها للعلن.
رفض آخر كان خارج المنظومة الديمقراطية لكنه يبقى ضغطًا إضافيًّا لا تزال تمارسه عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، التي رفضت بدورها ديكتاتورية سعيّد، وتحشد لمظاهرة يوم 18 يونيو/ حزيران الجاري، لعدم ارتهان تونس لقيس سعيّد، وفق قولها.
ورغم بقاء قلة قليلة مع القصر لم تكلِّف نفسها حتى الخروج إلى الشوارع بحجم الأعداد الأولى في أكثر من مناسبة، رغم التسهيلات الكبيرة، ما يعني فشل الرئيس في وضع بديل حقيقي بالنسبة لهم لما قبل 25 يوليو/ تموز الماضي، بعد إخراجهم في صورة الأغلبية الموالية.
وبالتالي كما تمَّ إخراج نتيجة الاستشارة على أنها ناجحة، سيتم إخراج الاستفتاء على أنه عمل ناجح، ومحفل ديمقراطي متفرِّد، ما لم يتمَّ رفض الانقلاب من أوله وليس في إحدى مخرجاته فقط، فما بُني على باطل فهو باطل، حتى إن نجح الاستفتاء أو تمَّ إنجاحه كما عبّر عن ذلك بوضوح أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور.
بعد نقابة الشغل والصحفيين واتحاد الفلاحين، ها هو القضاء يعارض أيضًا قرارات قيس سعيّد، آخرها قرار إعفاء 57 قاضيًا عدليًّا وإداريًّا، في مخالفة للدستور وللقانون ولكافة المعايير الدولية، ما سيصيب استقلالية القضاء وحق التقاضي العادل والمستقل في مقتل، لذلك عارض القرار كل الهيئات القضائية من اتحاد القضاة الإداريين وجمعية القضاة التونسيين، وبالتالي سيسقط في أول امتحان له.
قلق الجوار.. الجزائر بعد ليبيا
كان واضحًا تذمُّر طرابلس الغرب من الموقف التونسي الرسمي من الأزمة الليبية، خاصة بخصوص الوقوف مع الحكومة الشرعية في العاصمة وعدم موالاة الحكومة المدعومة من مصر والإمارات التي تسعى للسيطرة على طرابلس ولو بشكل سلمي، على عكس الجزائر التي دعت علنًا دعمها لحكومة الوحدة بطرابلس كحكومة معترَف بها أُمميًّا، وبضرورة إجراء انتخابات برلمانية في ليبيا قبل الرئاسية تفاديًا لأي انقلابات عسكرية، وهذا ما دعا إليه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من العاصمة الإيطالية روما.
تخلّص الموقف الجزائري من ضبابيته في الاصطفاف مع محور روسيا، بينما يبحث قيس سعيّد حسب توجُّهات أنصاره عن إعادة التموقع شرقًا ضمن المحور الروسي، الحليف القوي لسلطات الشرق الليبي، لذلك سارع تبون إلى توثيق علاقاته بالمحور الديمقراطي، وجدّدَ تحالفه مع تركيا عبر عدة اتفاقيات اقتصادية، كما دعا تونس للعودة إلى مسارها الدستوري، بعد خسارتها الموقف الداعم لها من الجارة الشرقية ليبيا والغربية الجزائر.
الكثير لم يفهم تصريحات الرئيس تبون حول تونس و ليبيا الشقيقتين و هناك عملية تحريف و تشويه ممنهجة لضرب البلدان ببعضها و الجزائر لا تتدخل في شأنهما و ليس لها مصلحة مادية و انما الإستقرار الامني و صد كل محاولات التدخل الأجنبي فيهما و الجزائر بدورها لن تتدخل كما صرح تبون سابقا
— إسكندر ?? (@Iskander21358) May 28, 2022
وبعد أن باتت كل القوى السياسية غير مكترثة بقرارات سعيّد، حتى إن لم تتوحّد في تيار واحد، لكن يكفي معارضتها لحماية المسار من الانهيار إلى نظام جديد مجهول العوالم، ما أيقظَ الطرف الخارجي في البداية، حتى بدأت أخيرًا دول الجوار في التيقُّظ أكثر.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن التوجُّس الجزائري من خطر سقوط المؤسسات في مستنقع غير معلوم كان مبكّرًا ولو في شكل إيحاءات، حيث سبق للرئيس تبون التحفُّظ منذ صيف العام الماضي على مسار سعيّد، عندما قال بصريح العبارة إن قيس سعيّد “أبلغه أمورًا لا يمكنه البوح بها”، وفضّل الصمت لأمرَين، أولًا لأن تونس قادرة على حلّ مشاكلها بنفسها، كما قال، ثم لعدم رغبته كدولة جوار التدخُّل في شأن غيرها حتى تبلور الموقف الداخلي أكثر، وهو ما حدث مؤخرًا.
ومع اتّضاح الرؤية وتفاقُم حجم المعارضة لسعيّد داخليًّا وخاصة في الخارج، آثر تبون الإفصاح عن تحفُّظه في موقف مشترَك مع إيطاليا حتى لا يقع في إحراج مع سعيّد، وقد عبّر في موقف اُعتبر تغيُّرًا مفاجئًا عن ضرورة عودة تونس كنظام سياسي إلى المسار الديمقراطي أولًا، ثم ضرورة إيجاد حلّ “للمأزق” المقلق، وهذا موقف جديد غير معهود حيال الوضع التونسي وما وصل إليه.
ومعلوم دائمًا موقف الجزائر المتيقظ باستمرار من الجوار، وهنا نشير إلى موقف الإعلام الجزائري الرسمي الذي قال إن موقف تبون قد تمَّ إخراجه عن سياقه، وهذا أيضًا رفع للحرج مع النظام التونسي ليس إلا، وإلا فإن الموقف واضح حتى أنه فاجأ الجميع بعد أن استشعر حقيقة المعارضة و”مأزق” سعيّد.
دبلوماسية الطرد.. آخر الحلول
عملًا بالمثل العربي القديم “الكيّ آخر الداء”، ومع استعصاء بعض الردود على قيس سعّيد، لجأ أخيرًا إلى دبلوماسية الطرد بدل الدبلوماسية الرزينة الرصينة الهادئة والمتعقّلة، وهي لا شكّ تعاطٍ غير لائق ولا مقبول في التعامل بين الدول، وقد جُربت من قبل في أقرب الدول إلينا مع العقيد الليبي الذي استعدى كثيرًا الغرب وحتى جيرانه في الضفة الشمالية للمتوسط، ولم يجنِ غير الجراح والحصار والآلام، وانتهى به الأمر إلى تعويضات مادية أضرّت بالبلاد والشعب، لا بل بدول الجوار، ثم انتهت بالقذافي نفسه مطارَدًا من حلف “الناتو”.
رفضُ الجميع والتصرُّف بشكل انفرادي بحت، سواء بالتعامل مع فرقاء الداخل أو الخارج، بطرد لجنة البندقية، بات يعيد إلى الأذهان التصريحات الأخيرة لمستشارة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، بأن الرئيس كان يعتزم في أي لحظة غضب أن يطرد السفير الأمريكي.
الغريب هو أن التبرير لهكذا تصرفات تُسوَّق تحت عناوين كالحرص على عدم المساس بسيادة الوطن، في تناقض تامّ مع كون تونس هي من طلبت عضوية لجنة البندقية، ثم مع حكومة تمرُّ بظرف اقتصادي صعب بإدراك منها، وهو ما يتطلب منها بناء علاقاتها على مراعاة هذا الأساس، علّه يكون عاملًا محفّزًا للاتحاد الأوروبي على مزيد التصعيد والضغط أو المساهمة بما في وسعه لأن تجتاز تونس مرحلتها الصعبة، بما يحفّز المنتظم الأممي وصندوق النقد الدولي على التسريع في إقراض تونس.
عندما تجتمع الشعبوية والغباء
?في خطوة متوقعة قيس سعيد يطرد أعضاء لجنة البندقية ويعتبرهم أشخاص غير مرغوب في وجودهم على الأراضي التونسية‼️
هذه المرة باش تتكلفنا باهضة
— Le parrain العراب??♓ (@WalidDouma4) May 30, 2022
في المقابل، لم نرَ الحزم والتسرُّع ذاتهما في موقف سعيّد مع التغيُّر المفاجئ للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مؤخرًا في موقفه، خاصة أنه لم يعلنه من داخل البلاد، بل من دولة أوروبية كما أشرنا، لكن من زاوية أخرى الآن لم يردّ قيس سعيّد على تدخل تبون أو نظيره الإيطالي في الشأن التونسي، في سابقة لم تحصل.
عمومًا، وبناءً على كل ما تقدّم، يبدو أن كل تلك المعوقات لن تثني قيس سعيّد عن مساعيه، بل إن ما سيثنيه هو الاستمرار في التآكُل الداخلي حتى ينفضّ الجميع ويحدث الانهيار الداخلي بأخفّ الأضرار.