كنز معرفي وثقافي يسكن بين الرفوف الخشبية العتيقة، إنها المكتبات التركية التي تشكل في حد ذاتها دار معرفة وثقافة، فبين الأروقة والجدران تجد لغات وفلسفات شكلت جسور وصل بين عراقة الماضي وإشراقة الحاضر.
تعتبر المكتبات في تركيا تاريخًا بحد ذاته، طورها السلاطين العثمانيون حتى صارت مرجعًا للباحثين والعلماء ولكل باحث عن غذاء للعقل والمنطق، ازدهرت وتزايدت حديثًا وتشهد اليوم تطورًا إلكترونيًا ورقميًا مع زيادة عدد الكتب.
عملت المكتبات العامة التركية على صقل المجتمع التركي والارتقاء بثقافته، حيث تستوعب عددًا كبيرًا من القراء والمطّلعين ناهيك بالطلاب والتلامذة، وتحظى إسطنبول بامتياز خاص بكثرة مكتباتها وتنوعها بالإضافة إلى أنها تحتوي على عدد هائل من المخطوطات التاريخية التي تعود للعهد العثماني والسلجوقي، وقد جابت هذه الكنوز المعرفية رحلات طويلة من مختلف أصقاع العالم الإسلامي حتى حطت رحالها في مكتبات إسطنبول، حيث كانت تجلب إلى عاصمة الدولة العثمانية كنوز المعارف ونفائس الكتب من شتى بقاع العالم.
بحسب معهد الإحصاء التركي (TUIK) يوجد ما مجموعه 34 ألف مكتبة في جميع أنحاء تركيا، بما في ذلك مكتبة وطنية واحدة و1213 مكتبة عامة وأكثر من 32 ألف مكتبة تعليمية رسمية وغير رسمية، وتضم المكتبة الوطنية نحو 126 ألف كتاب، والمكتبات العامة بها قرابة 4.5 مليون كتاب، والمكتبات الجامعية تضم أكثر من 3.5 مليون كتاب.
نشأة المكتبات التركية
لتركيا باع كبير مع الكتب التي شهدت نموًا في عهد العثمانيين على وجه الخصوص، فقد عملوا على جمع الكتب وتوسيع المكتبات، وقد ألحِقت المكتبات العلمية في صدر الدولة العثمانية بالمدارس الخاصة بالعلوم الدينية أو الدنيوية، وتأسست أول مكتبة علمية عثمانية في مدينة بورصة، ومن ثم انتشرت المكتبات في مدن بولو وإيديرنة وإسطنبول وبقية المدن الأخرى على امتداد الدولة العثمانية.
تحولت إسطنبول بعد فتحها إلى مدينة ثقافية مركزية مهمة للعالم الإسلامي، وقد اتخذ من بعض الكنائس البيزنطية الضخمة مدارس علمية تتضمن مكاتب علمية متنوعة الكتب والمراجع.
وأول مكتبة علمية مستقلة عن المدارس تم تأسيسها في عهد السلطان محمد الفاتح عام 1459 في ساحة جامع أيوب، ولتطوير المكتبة وتوسيع فائدتها أسس السلطان محمد الفاتح بين عامي 1463 و1470، 8 مدارس تعليمية بالقرب منها، ودعا العلماء المسلمين وغير المسلمين حول العالم للقدوم إلى إسطنبول لإجراء بحوثهم ونقل خبراتهم وأفكارهم القيمة لطلاب المدارس.
وصل عدد كتب مكتبة أيوب التي أسسها السلطان محمد الفاتح إلى 839 كتابًا بحلول عام 1470، وقد دعم السلطان إنشاء المكتبات في عدد من المدن العثمانية الأخرى، وخصص حصة من الميزانية العامة للدولة لإنشاء المكتبات والاهتمام بها.
أسس والي إيناجول “إسحاق باشا” مكتبة علمية ضخمة ما زالت قائمة حتى اليوم في مدينة إيناجول عام 1489، كما أسس والي إيديرنة محمد زادة عام 1492 مكتبة مماثلة، وتبعهما في ذلك ولاة المدن الأخرى، حتى انتشرت المكتبات في مدن الدولة العثمانية.
يمكن أن يطلق على تركيا اسم “مدينة المكتبات” على غرار لقب “مدينة المآذن”، إذ تنوعت مكتباتها وانتشرت في جميع أنحاء الأراضي التركية
وفي القرن السادس عشر أحدث السلطان مراد الثالث تغييرًا جذريًا في المكتبات العلمية، إذ حث على إضافة الكتب العلمية الأجنبية “الأوروبية” عام 1593، وعمل على تحويل المكتبات العلمية من مكتبات نظرية إلى مكتبات بحث تطبيقية، فأنشأ مكتبة علمية في إطار تأسيس أول مرصد فضائي من العالم الشامي “تقي الدين” عام 1577.
أنشأ القائد العسكري مصطفى باشا أول مكتبة علمية مستقلة عن إدارة الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1678، ومنحها للعلماء والمفكرين، وأقيم بالقرب منها خان لاستضافتهم ومساعدتهم في بحوثهم العلمية.
وفي العصر الحديث اهتمت الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 بالمكتبات وتقديم الخدمات اللازمة لها، لكن دور المكتبات تراجع وأهمل في عهد الرئيس التركي عصمت إينونو، إلا أن الحكومات الحديثة بعده حرصت على العناية بالمكتبات العلمية وتوسيعها، ويبدو أثر ذلك واضحًا حتى يومنا هذا.
أبرز المكتبات العريقة وأهميتها
تنوعت المكتبات وانتشرت في جميع أنحاء الأراضي التركية، لكن للمكتبات التاريخية عراقة خاصة ارتبطت في الأصل بالأماكن التي أنشئت فيها وأهميتها وقدسيتها، وهنا سنحكي قصة أبرز المكتبات التركية القديمة:
مكتبة السليمانية: هي المجمع الأعظم في العالم لمخطوطات التراث الثقافي العربي وهي من أقدم المكتبات في تركيا، تقع في منطقة السليمانية داخل إسطنبول ضمن آثار هذه المنطقة، تم تأسيس هذه المكتبة سنة 1918 عندما تم جمع العديد من المكاتب العامرة بالكتب والمخطوطات في إسطنبول بمكتبة واحدة.
تضم أضخم المخطوطات التاريخية الإسلامية والعثمانية، فبها 50 ألف كتاب مطبوع وأكثر من 100 ألف مخطوطة، ومن مميزات هذه المكتبة أنها تحتوي على بعض الكتب المكتوبة بخطوط يد المؤلفين وبعضها بيد أشهر الخطاطين وبعضها نسخة واحدة ليس لها وجود في أي مكان آخر، وهناك نسخ عليها توقيعات وإهداءات كبار العلماء والحكماء، كل ذلك يجعلها بيئة خصبة للباحثين والمهتمين بالثقافة والأدب وفنون صناعة الكتاب العربي القديم.
مكتبة بيازيد الحكومية: من المكتبات العامة في تركيا، تم بناؤها سنة 1884، تقع في قلب إسطنبول التاريخية داخل جامع بايزيد في منطقة الفاتح، تعتبر المقصد الأول للمهتمين والباحثين، فهي تضم ما يزيد على مليون مجلد منها الكتب والصحف والمجلات والمخطوطات، وتحتوي على 5 آلاف كتاب مسموع وأكثر، كما توجد آلاف المواد غير المكتوبة مثل الملصقات والخرائط والنقود والطوابع.
ما يميز هذه المكتبة الصالات الخاصة للقراءة، فضلًا عن صالات الأفلام والموسيقى، ما يمكّن المواطنين والباحثين عن العلم من الحصول على المعلومات من مصادر موثوقة ومجانية، فالهدف من تأسيس المكتبة تجميع التراث المعرفي في مكان يسهل الوصول إليه وتنظيمه للأجيال القادمة، ما يعني أن مكتبة بايزيد صرح ثقافي بامتياز.
مكتبة توب كابي: تأسست سنة 1719 على يد السلطان أحمد الثالث على أراضي قصر توب كابي، وضمت جميع الكتب المتناثرة هنا وهناك في القصر، بقيت توب كابي خاصة بالقصر توجد فيها أفخم الكتب والنسخ السلطانية، كما جمع فيها الآلاف من الكتب والمخطوطات الأثرية التابعة لـ13 مكتبة منفصلة، بناءً على قانون تجميع المكتبات في إسطنبول.
يوجد في المكتبة العديد من المخطوطات المشهورة للخطاطين العثمانيين والمعدات اللازمة للخطاط من محابر وأقلام وشفرات تقليم المقصات، بالإضافة إلى قسم خاص بمحافظ خشبية توضع في القرآن الكريم أي أن الداخل إلى المكتبة يستمتع بالقراءة ويشاهد أجمل التحف الأثرية، مع تقديم المكتبة للعديد من الخدمات لزوارها كنسخ المطبوعات وتصوير السلايدات والتصوير التقليدي.
مكتبة أتاتورك: أنشئت سنة 1939 في منطقة تقسيم الشهيرة وسط إسطنبول، وهي من المكتبات التي تتبع للبلدية، وواحدة من أشهر المكتبات في إسطنبول، ما يميزها أنها تفتح على مدار الساعة طوال أيام السنة ويزورها الطلاب والباحثون من أماكن بعيدة وفي كل الأوقات، حيث يزورها بشكل يومي 600 زائر.
تطل على تلة خضراء مطلة على البوسفور، ما يعني أن زيارتها متعة للقلب وللعين معًا، تضم المكتبة نحو 500 ألف مؤلف منها الكتب والعديد من الخرائط، بالإضافة إلى أنها تضم أكبر مكتبة للمجلات والصحف.
مكتبات إسطنبول الحديثة
تطورت المكتبات في إسطنبول وتماشت مع الطفرة الرقمية والإلكترونية، فبالإضافة إلى المكتبات الضخمة من حيث المساحة وعدد الكتب، اهتمت المكتبات الحديثة بإنشاء قاعات عرض وفيديو للأطفال، ودخلت الحداثة إلى المكتبات، بالإضافة إلى اهتمامها بالتصاميم وقربها من الطبيعة لتشجيع الأجيال الصاعدة لا سيما تلاميذ المدارس على المطالعة، ثم انضمت إلى تركيا المكتبات الصوتية والرقمية وذلك للحفاظ على المخطوطات القديمة والكتب الثمينة، فما هي أبرز المكتبات في العصر الحديث؟
مكتبة صباح الدين زعيم: تتبع هذه المكتبة لجامعة صباح الدين زعيم، موجودة ضمن بناء ضخم مكّنها من أن تكون أشهر المكتبات في إسطنبول، فهي تستوعب 1500 طالب في وقت واحد، تتضمن المكتبة آلاف الكتب بـ15 لغة كاللغة التركية والعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والعثمانية ولغات أخرى، بالإضافة إلى نصف مليون كتاب مطبوع إلكترونيًا.
كما يوجد في أرجاء المكتبة أمكنة مخصصة للعديد من النشاطات مثل قاعات الاجتماعات وورش العمل، والجدير بالذكر أن المكتبة حصلت على عضويات رسمية في الكثير من المواقع البحثية العالمية لمساعدة الطلاب والباحثين في الوصول إلى الكتب التي يطلبونها.
مكتبة الرئاسة في أنقرة: تعتبر المكتبة الأضخم في تركيا كونها مكتبة العاصمة السياسية أنقرة، أُسست سنة 2016، وتستوعب 5 آلاف شخص وتتضمن 4 ملايين كتاب مطبوع وأزيد من مئة مليون منشور إلكتروني، في داخلها مكتبة للشباب ومكتبة صوتية وقاعات للفيديو مخصصة للأطفال ما بين 10 و15 سنة، وهذه مبادرة مهمة لجعل الأطفال على مقربة من الكتاب.
الجميل في مكتبة الرئاسة أنه حين زيارتها لا تستمتع بجرعة المعرفة فقط بل تستمتع أيضَا بالتصميم المبهر للمكتبة الذي يدمج بين الفنين السلجوقي والعثماني إضافة إلى الفن المعاصر.
مكتبة باشاك شهير: أنشئت في منطقة باشاك شهير بإسطنبول ضمن حديقة نباتية هائلة تسمى حديقة الشعب وتضم المكتبة مجموعة ضخمة من الكتب والمؤلفات تقارب 100 ألف كتاب بمجالات عديدة مثل الفلسفة والدين والتاريخ والأدب وكتب الأطفال والعلوم الاجتماعية.
تتألف المكتبة من أقسام عديدة كقسم القراءة الصامتة وقسم مكشوف للمعارض والمؤتمرات، كما يوجد قسم في الطبيعة الخلابة للاستمتاع بالمناظر الجميلة في أثناء القراءة والعديد من المطاعم لقضاء وقت ممتع في أثناء زيارة المكتبة، فعند زيارة هذه المكتبة ترى في كل زاوية منها عناية واهتمام تركيا بالجانب الثقافي.
إن المكتبات العامة في تركيا تعتبر عنصرًا رئيسيًا وفاعلًا لصياغة ثقافة المجتمع من خلال ما تتيحه للأفراد من فرص التواصل وتعلم المهارات الخاصة باكتساب المعرفة والبحث عن الحقائق وتبادل الآراء، وتوفير الفرص للفرد من أجل التعلم الذاتي الكفيل بتحويله إلى فرد مبدع ملم بكل قضايا مجتمعه ومحيطه، الأمر الذي يتمخض عنه ثقافة مجتمعية رفيعة.