ترجمة وتحرير: نون بوست
اعتاد علي البياتي على الترهيب، وخلال فترة عمله لأربع سنوات كعضو في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، أصبح أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في البلاد، وغالبًا ما كان يستشهد بكلامه في وسائل الإعلام الدولية خلال حملة القمع العنيفة التي شنتها الحكومة ضد المظاهرات الجماهيرية والتي أصبحت محط اهتمام العالم لفترة وجيزة في سنة 2019
غالبًا ما تلقى البياتي تهديدات سرية بسبب نشاطه الحقوقي من المرجح أن تكون من الجهات التي اتهمها بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان. اتخذ الأب البالغ من العمر 43 عامًا حذره لكنه رفض أن يتم إسكاته إلى أن رفعت الحكومة دعوى قضائية ضده في شباط/ فبراير متهمة إياه بالتشهير بموجب قوانين حزب البعث البالية. قال البياتي في مقابلة موسعة مع فورين بوليسي: “لقد قررت مغادرة البلاد. لست مستعدًا لأن يراني أطفالي اُعتقل أمامهم”.
اتُهم البياتي بموجب المادة 434، وهي واحدة من عشرات أحكام التشهير في قانون العقوبات العراقي لسنة 1969 المصممة لحماية النظام القديم من خلال تجريم إهانة المؤسسات العامة والشعارات الوطنية وموظفي الخدمة المدنية والأفراد. ووفقًا لوثائق المحكمة التي اطلعت عليها فورين بوليسي، اتهمت الأمانة العامة لمجلس الوزراء البياتي بالتشهير خلال تصريحات متلفزة أدلى بها قبل 14 شهرًا، وتحديدا في كانون الأول/ ديسمبر 2020.
خلال المقابلة التلفزيونية، أعرب البياتي عن مخاوفه بشأن مزاعم تعرض المعتقلين، الذين اعتقلتهم الهيئة الخاصة التي أنشأها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي للتحقيق في الفساد وعمليات القتل البارزة، للتعذيب. وذكر البياتي أن المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وهي هيئة رسمية مفوضة من قبل البرلمان العراقي لمراقبة حقوق الإنسان في البلاد، قد مُنعت من التحقيق في مزاعم التعذيب. وبصفته مفوضًا في هذه المؤسسة، من المفروض أن يتمتع البياتي بالحصانة من الملاحقة القضائية لكن لا يزال يتعين عليه الخضوع للاستجواب من قبل قاضي التحقيق.
وفي حال إدانته، من الممكن أن يواجه البياتي حكما بالسجن والغرامة. قال البياتي، الذي غادر العراق في وقت سابق هذا الأسبوع: “لقد عملنا مع العديد من رؤساء الوزراء، لكن بالنسبة لي كشخص ومن خلال تعاملي مع اللجنة، يمكنني القول إن أسلوب الكاظمي هو الأسوأ”.
تعد قضية البياتي واحدة من بين سلسلة من القضايا البارزة في ما يبدو أنه محاولة منهجية من قبل الحكومة الحالية لتقويض وتشديد الخناق على حرية التعبير، وهو سجل مفاجئ لرئيس الوزراء الذي صعد إلى السلطة واعدًا بتحسين حقوق الإنسان.
تولّى الكاظمي، الصحفي ورئيس المخابرات السابق، منصبه في سنة 2020 بعد مظاهرات حاشدة دعت إلى إصلاحات كاسحة وأجبرت سلفه عادل عبد المهدي على التنحي من منصبه. قوبل تعيين الكاظمي بترحيب كبير في العواصم الغربية، حيث تعهد بتلبية مطالب المحتجين من خلال تحسين الحكم وتحقيق العدالة لأكثر من 600 متظاهر قتلوا في عهد عبد المهدي الذي أفلت من العقاب.
قال الكاظمي في خطاب أمام البرلمان قبيل أدائه اليمين الدستورية في 7 أيار/ مايو 2020: “تتعهد الحكومة بحماية حرية التعبير وحماية المتظاهرين السلميين وساحاتهم … وتتبع جميع الأطراف المتورطة في إراقة دماء العراقيين”. ولكن بعد عامين من ولايته، تبدو وعود الكاظمي جوفاء، وبدلاً من ذلك اتخذت حكومته موقفًا غير متسامح بشكل متزايد تجاه المعارضة، ووجهت اتهامات ضد الناقدين باستخدام أحكام تشهير قديمة تقول المنظمات الحقوقية إنها تقوض حرية التعبير
بالإضافة إلى قضية البياتي، رُفعت دعوى قضائية ضد المعلقين السياسيين إبراهيم الصميدعي ويحيى الكبيسي، ونقيب الفنانين العراقيين جبار جودي ومؤخراً أحمد ملا طلال، الصحفي بارز الذي عمل لفترة وجيزة المتحدث الرمزي باسم الكاظمي وأصبح منذ ذلك الحين من أشد منتقدي حكومته.
يعتقد البياتي وآخرون ممن لديهم معرفة بالموضوع أن هناك العديد من الحالات غير المعروفة. قيل لموظف حكومي سابق تعرض للتهديد باتخاذ إجراءات قانونية لانتقاده سجل رئيس الوزراء على مواقع التواصل الاجتماعي، إن أكثر من 60 دعوى قضائية رفعها مكتب الكاظمي تقوم على قوانين تشهير تعود إلى عهد البعث. أوضح الموظف السابق، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته خوفًا من الانتقام، أن “استخدام صحفي سابق وناشط حقوقي مفترض لقانون كتبه واستخدمه الحزب الحاكم الأكثر فتكا في العراق أمر مثير للقلق للغاية”.
ذكر عمر سري، الباحث العراقي في “هيومن رايتس ووتش” أن رئيس الوزراء وصل إلى السلطة على خلفية حركة الاحتجاج التي وفرت فرصة لمحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات؛ مضيفا “ما كان ينبغي أن يكون قطيعة مع تلك الفترة أصبح بدلاً من ذلك مثالاً آخر على استمراريتها”.
وفي تعليق له، نفى المتحدث باسم الكاظمي أن الحكومة تستهدف الأفراد لتعبيرهم عن آرائهم. وأوضح المتحدث الرسمي حسن ناظم “ومع ذلك، عندما يتم استهداف المسؤولين الأفراد بالتشهير الشخصي أو اغتيال الشخصية أو أي اتهامات كاذبة، فإن الأمر متروك للقضاء العراقي المستقل للبت في مثل هذه القضايا على أساس استحقاقها”.
لا تعتبر المضايقات القضائية ظاهرة جديدة في العراق. في جميع أنحاء المحافظات، تعرض المواطنون العاديون لسنوات للتتبعات القضائية بموجب نفس القوانين التي استخدمت في حقبة الحزب البعثي لنشرهم انتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي حول بعض السياسيين المحليين بشأن الفساد والحالة المتردية للخدمات الأساسية.
اكتسب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي سمعة سيئة بسبب الاعتقالات التعسفية والاستخدام المفرط لقوانين مكافحة الإرهاب القاسية. واتهم رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية في كانون الثاني/ يناير، باستخدام المحاكم بشكل منهجي لملاحقة منافسيه السنة وقمع المعارضة في محافظة الأنبار مسقط رأسه. وذكر أحد المصادر الثلاثة الذين تحدثوا مع مجلة فورين بوليسي الذي طلب عدم ذكر اسمه خوفا من مزيد من الانتقام: “في السابق، كنا قادرين على التحدث عن قضايا في الأنبار بيد أنه منذ وصول الحلبوسي إلى السلطة، زادت القضايا القانونية يومًا بعد يوم”.
إن حملة الكاظمي على حرية التعبير تقف في تناقض صارخ مع السمعة التي حاول ترسيخها. وصرح مسؤول غربي طلب عدم ذكر اسمه للتحدث بحرية بأن “الكاظمي قال أشياء لم يكن رؤساء الوزراء الآخرين يقولونها. لقد أعطى انطباعًا بأنه شخص يمكننا مقابلته بشكل مباشر”.
إن خلفية الكاظمي كصحفي، وتعيين العديد من الشخصيات الإعلامية الأخرى كمستشارين مقربين له، ولّد أملًا في المشهد السياسي العراقي بشأن احترام الحريات الأساسية. كما حصل أيضًا على دعم الغرب لاتخاذه موقفًا تصادميًا تجاه الجماعات شبه العسكرية المتحالفة مع إيران. وخلال زيارة الكاظمي لواشنطن في تموز/ يوليو 2021، أشار إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن على أنه “صديق جيد”، في حين وصف مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية الكاظمي بأنه براغماتي وقادر على حل المشاكل وليس شخصًا “يحاول استخدام المشاكل من أجل خدمة مصالحه السياسية”.
لكن من منظور عراقي محلي، تبيّن أن الكاظمي شخص مختلف عن الصورة التي رسمها الغرب له. في هذا الصدد، أوضح الصميدعي المعلق السياسي الذي أيد في البداية صعود الكاظمي إلى السلطة: “هذا قانون السلطة في الشرق الأوسط. بمجرد وصولك إليها، تحاول إسكات أصوات النقاد بكل الوسائل”. وقد اعتُقل الصميدعي في منزله في آذار/ مارس الماضي بعد أن اختلف – بحسب روايته للأحداث – مع رئيس الوزراء وأحد مستشاريه المقربين.
اطلعت مجلة فورين بوليسي على نسخة من مذكرتي اعتقال الصميدعي والكبيسي، اللتان صدرتا في نفس اليوم بموجب المادة 226 من قانون العقوبات التي تحظر إهانة مؤسسة عامة أو رسمية. وعندما تم التواصل مع الكبيسي عبر تطبيق “واتساب” أثناء وجوده في الخارج، حيث قضى معظم وقته منذ رفع الدعوى ضده، قال: “يتم استغلال القانون لمنع أي انتقاد موجه للسلطة”. ولا تحدد المذكرات الجهة التي توجه الاتهامات، غير أن الكبيسي الذي يعتقد أنه تم استهدافه لانتقاده تسييس القضاء، يُحمِّل الحلبوسي ورئيس السلطة القضائية المسؤولية، مؤكدًا “هذا بالضبط ما تريده الأطراف السياسة الفاعلة المتحالفة مع القضاء، أي خلق مناخ قمعي يحظر انتقادهم مهما كانت أفعالهم”.
نفى القضاء مثل هذه الاتهامات. ومن جهته، قال محمد سلمان، وهو رئيس المحكمة التي تم استجواب الصميدعي فيها: “هناك نص قانوني، ونحن ننفذ هذا النص، ونحن ننأى بأنفسنا عن القضايا السياسية”. وأضاف أن القضاء قد تعامل بتساهل مع مواد التشهير، حيث لم يُدن سوى عدد قليل من المتهمين.
يوجد دلائل أخرى على تراجع الحريات منذ أن تولى الكاظمي منصبه. بدأت الحكومة في فرض مراقبين على الصحفيين الأجانب الذين يتقدمون بطلبات للحصول على إذن للعمل الصحفي خارج العاصمة. وقد تراجع العراق في مؤشر حرية الصحافة العالمي لسنة 2022، الصادر مؤخرًا عن منظمة مراسلون بلا حدود، وتراجع ترتيبه من 163 إلى 172 من أصل 180 دولة، ويُعزا ذلك جزئيًا للحملة الأخيرة على الصحفيين في شمال العراق في الإقليم الكردي شبه المستقل. وأشار المرصد العراقي لحقوق الإنسان في تقرير صدر بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة إلى تنامي “نفوذ الأطراف التي لها المصلحة بتضييق الخناق على حرية التعبير وتقويض مساحة النشاط الصحفي في العراق” خلال العام الماضي.
وفي أحدث قضية لفتت انتباه الجمهور، رفعت الحكومة دعوى تشهير ضد الصحفي الشهير أحمد ملا طلال وأمرت بوقف عرض برنامجه الحواري التلفزيوني الذي يُعرض في أوقات الذروة. وتمثلت تهم ملا طلال في عدم احترام الجيش بعد استضافته لممثل انتحل شخصية ضابط فاسد في الجيش. امتنع ملا طلال عن الإدلاء بتعليق، إلا أن شخصين مطلعين على تداعيات الأمر أخبرا مجلة فورين بوليسي بأن مكتب رئيس الوزراء ضغط على السلطات المعنية باتجاه اتخاذ إجراءات قانونية. لم يكن السبب برنامج ملا طلال فقط وإنما توترات سياسية سابقة مع مالك القناة ومع برنامج ساخر آخر تم بثه على القناة نفسها التي سخرت من رئيس الوزراء شخصيًا.
شعر البياتي بخيبة أمل من الحكومات الغربية، التي تعاون معها بشكل وثيق كمفوض، حيث لم تكن أكثر صراحة في الدفاع عنه. أفاد البياتي: “أدركت أن معظم البعثات الأجنبية في العراق كانت فخورة برئيس الوزراء هذا، وعندما كنت أخبرهم بالحقائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان لم يقبلوا ذلك”. في أوائل شهر نيسان / أبريل، أرسل الاتحاد الأوروبي وكندا خطابًا خاصًا إلى الحكومة يطالبان بإسقاط القضية، غير أنه لم يكن هناك أي إجابة رسمية. ولم يعلق المتحدث باسم السفارة الأمريكية في بغداد على قضية البياتي غير أنه قال: “لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بدعم حرية التعبير”.
تعرض البياتي في غضون ذلك إلى مزيد من المضايقات. وفي أواخر شهر نيسان/أبريل، حضرت قوات الأمن إلى منزله أثناء خروجه مدعية أن بحوزتها مذكرة توقيف أخرى. والآن يعيش البياتي في خوف دائم، فلا يستطيع مواصلة عمله كمفوض ولا العودة إلى وظيفته السابقة كطبيب أعصاب. وكانت عيادته الصغيرة التي افتتحها هذه السنة فارغة عندما زرتها. وقال بنظرة استسلام خيّمت على وجهه: “أنا لا أذهب إلى العيادة بسبب مخاوف أمنية، حتى لو لم أحاكم فأنا أعاقب بطريقة أخرى”.
المصدر: فورين بوليسي