وقف المرشح الديمقراطي الرئاسي الأمريكي جو بايدن، أواخر سنة 2019، على منصة الحوار أمام أنصاره متعهدًا أنه في حال انتخابه رئيسًا لبلاده سيجعل المملكة العربية السعودية دولة “منبوذة”، انتصارًا منه لقيم وأخلاقيات الولايات المتحدة التي تلفظ أصحاب السجلات الحقوقية المشينة.
وفي فبراير/شباط 2021 أعلنت المتحدثة باسم بايدن بعدما بات رئيسًا، أنه يعتبر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز محاوره المباشر، وليس ولي العهد محمد بن سلمان، كما كان في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وعليه فلا اتصال مباشر بينه وبين الأمير الشاب، استكمالًا لسياسة إعادة ضبط العلاقة بين البلدين.
في 3 يونيو/حزيران 2022 أعلن الرئيس الأمريكي أنه قد يزور السعودية ضمن جولة مرتقبة في الشرق الأوسط، وذلك بعد مرور أكثر من أسبوع على تسريبات صحفية تشير إلى قرب موعد الزيارة التي حُددت بأنها نهاية الشهر الحاليّ، فيما نقلت بعض الصحف الأمريكية أنه سيلتقي ولي العهد لقاءً مباشرًا سيكون الأول من نوعه منذ دخوله البيت الأبيض.
التحول المفاجئ في سياسة بايدن تجاه السعودية من التعهد بجعلها دولة “منبوذة” إلى شريك وحليف لا يمكن التخلي عنه، والتراجع عن استبعاد ابن سلمان من أجندة اتصالات الرئيس الأمريكي إلى ذهاب الأخير لمقر إقامة الأول لعقد اجتماع رسمي معه، أثار الكثير من التساؤلات عن دوافع هذا التغير وسط امتعاض واستنكار من الحقوقيين الذين وصفوا هذا التحول بـ”الخيانة”.
Most galling, Saudi activists said, was the notion that Biden — who vowed to make the kingdom a “pariah” state — would probably meet with Crown Prince Mohammed bin Salman. https://t.co/TrSadR6jTL
— The Washington Post (@washingtonpost) June 3, 2022
تحول ليس مفاجئًا
لم يكن هذا التحول في الموقف الأمريكي إزاء السعودية مفاجئًا في نظر البعض، إذ سبقته حزمة من المقدمات التي تؤكد أن الموقف المتخذ سابقًا جاء في إطار خطاب دعائي شعبوي ليس بالضرورة أن يعبر عن توجه سياسي رسمي، وهو ما تبرهنه المواقف المتعددة منذ نهاية 2021 وحتى اليوم.
في ديسمبر/كانون الأول 2021 دعا بايدن الكونغرس إلى دعم صفقات الأسلحة للمملكة بعد تجميد مبيعات السلاح لها مؤقتًا، وفي خطابه الموجه للبرلمان وقتها قالت الإدارة الأمريكية إنها تعارض بشدة قرار حظر بيع السلاح للسعودية، محذرة أن هذا القرار سيؤثر على العلاقات مع شريك مهم في الشرق الأوسط.
ومن الخطوات المهمة في مسار تحسين الأجواء مع السعودية، اختيار الرئيس الأمريكي، لمايكل راتني كمرشح لمنصب سفير الولايات المتحدة إلى السعودية، في أبريل/نيسان الماضي، بعد تأخر دام طويلًا في تسمية سفراء أمريكا الجدد لدى بعض الدول التي تسود خلافات معها وفي المقدمة منها السعودية.
وفي مايو/آيار الماضي قرر بايدن الإبقاء على “الحرس الثوري” في قائمة الإرهاب الأمريكية رغم مطالبات طهران بشطبه، وهو ما فُسر حينها على أنه مغازلة صريحة للرياض في ظل تداعيات هذا القرار إزاء مفاوضات فيينا التي ازدادت تعقيدًا، هذا بخلاف تراجع الخطاب الإعلامي المهاجم للمملكة ووقف استهداف سياستها وقادتها مقارنة بما كان عليه قبل ذلك.
هذا بالإضافة إلى إثناء واشنطن على سياسات الرياض في اليمن، فقد وصف بايدن السعودية بأنها أظهرت “قيادة شجاعة” من خلال بنود الهدنة الأممية بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، مؤكدًا دعم بلاده للمملكة في حقها في الدفاع عن نفسها إزاء استهدافها بالطائرات المسيرة، كذلك السعي من أجل التواصل لحل لإنهاء الحرب في اليمن.
وختامًا لتلك الإرهصات الإيجابية على عودة العلاقات الأمريكية السعودية رحبت إدارة بايدن بقرار تحالف “أوبك+” زيادة الإنتاج النفطي خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، لمواجهة أزمة النفط العالمية الراهنة، وفي بيان لها أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، أن بلادها “تدرك دور السعودية، كرئيس لمنظمة (أوبك+) وأكبر منتج للنفط، في تحقيق هذا الإجماع بين أعضاء التحالف النفطي”.
ما الذي تغير؟
كان المعارضون لسياسة المملكة وسجلها الحقوقي المشين يخشون تلك اللحظة، لحظة تخلي بايدن عن موقفه السابق، وفتح صفحة جديدة مع ابن سلمان الذي يعتقدون أن يديه ملطخة بالدماء، هكذا استهل الكاتب الأمريكي ديفيد إغناتيوس مقاله في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية معلقًا على الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي للرياض في إطار جولة شرق أوسطية.
غير أن الكاتب يرى أن ما أسماه “الاحتضان الأمريكي” لولي العهد السعودي كان سيأتي منذ عدة أشهر، وأن بايدن حاول مهاتفة ولي العهد خلال الأشهر الماضية لكن دون جدوى، في إشارة إلى رغبة برغماتية أمريكية في فتح صفحة جديدة مع سعودية ابن سلمان الذي بات المتحكم الوحيد في المملكة.
وأرجع إغناتيوس التحول الأمريكي إزاء ولي العهد السعودي تحديدًا وإلى المملكة بصفة عامة إلى عاملين رئيسيين، الأول: الحرب الروسية في أوكرانيا، التي فرضت تموضعات جديدة وحزمة من الأزمات والتحديات أبرزها ما يتعلق بالنفط وإمدادات الغذاء، التي تتطلب إعادة النظر في المواقف والسياسات.
وقد أدت الحرب إلى ارتفاع جنوني في أسعار النفط العالمية، بسبب أزمات النقل من جانب ووقف الإمداد الروسي لأوروبا من جانب آخر، وهو ما دفع واشنطن وغيرها من عواصم أوروبا لطرق أبواب عواصم النفط الخليجية لمساعدتها في أزمتها الراهنة بزيادة معدلات الإنتاج حفاظًا على استقرار الأسعار والسوق بصفة عامة.
وتحاول واشنطن على وجه الخصوص تفتيت الارتباط السعودي الروسي نفطيًا من خلال “أوبك+” عبر الموافقة على إنتاج المزيد من النفط ودعم زيادة مماثلة من الإمارات، فذلك سيسمح بتعزيز الاقتصاد العالمي من جانب ويقوض النفوذ الروسي من جانب آخر.
أما العامل الثاني وراء هذا التحول فيتمثل في رغبة “إسرائيل” أن يقوم الرئيس الأمريكي بدور قوي في تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية أسوة بما فعله سلفه دونالد ترامب مع الإمارات والبحرين والمغرب، ويستند الكاتب في ذلك إلى ما أوضحه مسؤول إسرائيلي كبير حين قال له: “نعتقد أن السعودية لاعب مهم في المنطقة وخارجها، نحن نؤيد بشدة توثيق العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، في سياق تحقيق الاستقرار في المنطقة، واحتواء إيران، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتحقيق الاستقرار في سوق الطاقة”.
ويمكن قراءة هذا التحول في إطار خطة الإدارة الأمريكية نحو توسيع قاعدة حلفائها، ممن أطلق عليهم توم دونيلون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، “القوى الوسطى”، كرد فعل إزاء المعطيات الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية، التي بدأت برحلة بايدن الشهر الماضي إلى آسيا، ثم “قمة الأمريكتين” في لوس أنجلوس نهاية مايو/أيار الماضي، بجانب قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) يومي 29 و30 يونيو/حزيران الحاليّ.
ماذا عن الملف الحقوقي؟
كان موقف بايدن من الملف الحقوقي السعودي أول الأسئلة المثارة عن تلك الزيارة، إذ عبر العديد من المعارضين السعوديين في الخارج وغيرهم من منتقدي السياسة السعودية عن غضبهم من هذا التحول في الموقف الأمريكي دون إجراءات ملموسة على ساحة الوضعية الحقوقية.
ورغم أن بايدن نفسه أكد أنه لم يتراجع عن موقفه المتعلق بملف حقوق الإنسان في السعودية، وذلك خلال كلمة مصورة بُثّت، أمس الجمعة، متحدثًا فيها عن احتمالية زيارة الرياض قريبًا، فإن ذلك لم يكن كافيًا للمعارضين ممن طالبوه بضرورة ألا يكون هذا التحول مجانيًا ولا بد من ضغوط لتحسين هذا الملف.
من جانبه كتب الناشط السعودي عبد الله العودة، نجل الأكاديمي والمعتقل سلمان العودة، عبر “تويتر” قائلًا إن الناشطين السعوديين الذين تضرروا من محمد بن سلمان يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة من بايدن، فيما وصفت رئيسة قسم التواصل في مؤسسة “القسط” لحقوق الإنسان، لينا الهذلول، شقيقة الناشطة السعودية لجين الهذلول التي أُطلق سراحها العام الماضي، الزيارة المخطط لها بأنها “قصيرة البصيرة” إذا لم تتضمن إثارة بعض الملفات القضايا الحقوقية كمنع شقيقتها من السفر أو المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين.
We as Saudi activists harmed by MbS feel betrayed by Biden.
Shaking hands with the same person who killed our friend #khashoggi, arrested our loved ones and tortured them, banned many of our family members from travel in order to blackmail us, and harass us here in the US?! https://t.co/A0tqERZgLV
— د. عبدالله العودة (@aalodah) June 2, 2022
وفي مقال له في صحيفة “واشنطن بوست” كتب خالد الجبري (نجل ضابط الاستخبارات السعودي السابق سعد الجبري)، معلقًا على الزيارة المرتقبة قائلًا: “أنا أحد ضحايا النظام القاسي الذي يتزعّمه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. اثنان من أشقائي محتجزان كرهينتين في السعودية، وعائلتي تتعرض للتعذيب عبر حملة ترهيب وحشية، ومع ذلك، ما زلت من مؤيدي شراكة سليمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، يمكن للرئيس بايدن أن ينقذ هذه العلاقة وينبغي عليه فعل ذلك – ولكن ليس دون مقابل”.
وحذر الكاتب السعودي من استغلال الرياض لأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية والضغط على واشنطن لتقديم المزيد من التنازلات في إطار محاولة بايدن إعادة تقويم الشراكة الأمريكية-السعودية، “كما يجب ألّا يستسلم بايدن لمطالب حملة علاقات عامة سعودية مُنَسَّقة تلومه على تدهور العلاقة، وتثقل كاهل إدارته بعبء المصالحة وتعيد تصوير ابن سلمان القاتل كضحية بريئة” على حد قوله.
وبعيدًا عن المصالح الاقتصادية البحتة التي يجب على واشنطن أن تضعها في الحسبان خلال زيارة بايدن والخاصة بفك الارتباط السعودي الروسي نفطيًا، واستقرار سوق الطاقة العالمي من خلال المزيد من الإنتاج، فإن هناك شروطًا أخرى يجب أن توضع في الحسبان بحسب الجبري الذي قال: “يجب على بايدن استخدام المحفزات الإيجابية لتغيير السلوك القمعي لولي العهد. مدفوعًا بمصلحته الشخصية، سيتجاوب ابن سلمان مع طلبات الولايات المتحدة بشأن حقوق الإنسان إذا كانت مصحوبة بحوافز وخالية من الإذلال. ولأنه يتوق إلى إعادة الاحتواء الأمريكي، فعلى ابن سلمان أن يفهم أن السماح للرهائن الأمريكيين في السعودية بالعودة إلى الوطن هو شرط أساسي له لزيارة الولايات المتحدة مرة أخرى”.
وهكذا تثبت الأحداث أنه لا ثوابت في السياسة، كما أنه لا أخلاق كذلك، فالبرغماتية هي القاعدة الأكثر استقرارًا التي تحكم العلاقات بين الدول وتحدد بوصلة المواقف والتوجهات، ليكتشف ضحايا القهر والسلطوية المطلقة أنهم مجرد أداة تستخدم لتحقيق مآرب سياسية وأن الشعارات التي ترفع بين الحين والآخر نصرة ودعمًا لهم ليست إلا حلقة من خطاب شعبوي طويل الأمد.