تتواصل سلسلة الاغتيالات أو عمليات التصفية التي يتعرض لها العلماء النوويون وجنرالات الحرس الثوري في إيران، في مشهد يعكس عمق الأزمة الأمنية التي يعيشها النظام السياسي اليوم، التي تأتي مترافقة مع حركة احتجاجية اندلعت منذ بداية الشهر الماضي ولم تهدأ حتى الآن.
هذا التحول الأمني دفع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى الظهور على شاشات التلفاز، بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل مؤسس الجمهورية الإسلامية الخميني، وتقديمه العديد من الرسائل التهديدية الموجهة للداخل والخارج، موضحًا أن إيران ستتخذ الإجراءات المناسبة لمواجهة هذه التحديات.
واعتبر خامنئي أن حسابات الأمريكيين و”الأعداء” تجاه بلاده خاطئة، واتهمهم بالعمل على تأجيج الشعب ضد نظام الحكم، مضيفًا “اليوم يعتمد أهم أمل للأعداء لتوجيه ضربة لبلادنا على الاحتجاجات الشعبية، لكن حسابات الأعداء خاطئة مثل الكثير من حساباتهم السابقة”، وأوضح أن الأمريكيين يأخذون المشورة من مستشارين إيرانيين “خونة”، ويأملون في إحداث مواجهة بين الشعب والنظام في البلاد، ويعتمدون على أسلوب الاحتجاجات.
سلسلة اغتيالات/تصفيات مستمرة
بعد عملية الاغتيال التي طالت العميد في قوة القدس (الذراع الخارجية للحرس الثوري) حسن خدائي منتصف الشهر الماضي، الذي كان يعمل قائدًا للوحدة 840 في سوريا، التي أخذت على عاتقها تطوير برامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وإيصالها إلى حزب الله اللبناني، عاد سيناريو الاغتيال/التصفية ليفرض إيقاعه على الداخل الإيراني، فقد شهدت إيران على مدار الأسبوعين الماضيين سلسلة من عمليات القتل، إذ توفي المهندس إحسان غادباجي في منشأة بارتشين العسكرية، بعد هجوم بطائرات مسيرة مجهولة، إلى جانب وفاة الجنرال في قوة القدس إسماعيل زادة، بعد أن وجد مقتولًا، ويوم أمس توفي العالم النووي أيوب إنتظاري في ظروف غامضة.
“إسرائيل” لم تعلن حتى هذه اللحظة مسؤوليتها عن مقتل إسماعيل زادة، على عكس عملية اغتيال حسن خدائي
وباستثناء إحسان غادباجي، فإن عمليات الاغتيال/التصفية التي طالت كل من خدائي وزادة وإنتظاري، تجمعها مشتركات عديدة أبرزها أن الشخصيات الثلاثة على صلة مباشرة ببرنامج تطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، ما يشير بدوره إلى حلقة مفقودة في العمليات التي طالت هذه الشخصيات، وهل تأتي في سياق برنامج إسرائيلي متكامل لتصفية كل الأسماء العاملة في هذا البرنامج، في ظل غياب أي حلول سياسية ودبلوماسية يمكن أن تردع طهران، أو حتى في إجبارها على مناقشة هذا البرنامج في المحادثات النووية الجارية في فيينا، أم تاتي في سياق تصفية داخلية يقوم بها الحرس الثوري بعد أن زادت عملية تجنيد العديد من الجنرالات لحساب جهاز الموساد الإسرائيلي.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن “إسرائيل” لم تعلن حتى هذه اللحظة مسؤوليتها عن مقتل إسماعيل زادة، على عكس عملية اغتيال حسن خدائي، فلم تمض إلا 24 ساعة على عملية الاغتيال، حتى أعلنت “إسرائيل” مسؤوليتها عن اغتياله، خصوصًا أن زادة وجد مقتولًا بعد سقوطه من سطح منزله في مدينة كرج، وظهرت بعض المعلومات الاستخبارية التي تحدث عن أنه هو من ساعد جهاز الموساد الإسرائيلي على الوصول لخدائي، وكشفه جهاز استخبارات الحرس الثوري.
وما يرجح هذه الفرضية، أن إسماعيل زادة اختفى مباشرة بعد اغتيال خدائي، وتشير المعلومات إلى أن جهاز استخبارات الحرس الثوري أخفاه ثم أعاده إلى منزله، لتتم عملية اغتياله لتكون أشبه بعملية انتحار، وهذا ما يدل على حجم الاختراق الذي تعاني منه إيران اليوم، فلا يتعلق هذا الاختراق بجيش الجواسيس الذي تمتلكه “إسرائيل” داخل إيران فحسب، وإنما يتعلق أيضًا بتهالك أجهزة الأمن الإيرانية، بفعل انشغالها بمواجهة الحركات الاحتجاجية المستمرة في الداخل الإيراني.
أزمة غير مسبوقة في الداخل الإيراني
رغم امتداد خريطة الصراع بين إيران و”إسرائيل” على أكثر من مساحة وجغرافيا، فإن الوتيرة المتصاعدة لعمليات الاغتيال/التصفية التي يشهدها الداخل الإيراني، تضع العديد من علامات الاستفهام حول الدور الذي تضطلع به الأجهزة الأمنية الإيرانية في حماية منشآتها أو علمائها أو حتى جنرالاتها، إذ لم تشهد إيران هكذا مستويات متصاعدة من الخروقات الأمنية على طول تاريخ الجمهورية الإسلامية، بل والأكثر من ذلك، بدت عاجزة اليوم عن الحد منها، وهو ما يؤشر بدوره لعمق الأزمة الوجودية التي بدأ يعاني منها النظام السياسي.
حالة الانكشاف الأمني التي تعاني منها إيران اليوم، إلى جانب عجزها عن مواجهتها، تشير إلى أن إيران على موعد مع سلسلة جديدة من عمليات الاغتيال أو الهجمات
فإصرار النظام السياسي على الاستثمار بنفوذه الخارجي، متناسيًا الجبهة الداخلية، جعلت منه نظامًا هشًا للغاية، ورغم امتلاكه شرعية دينية ساعدته على فرض نفسه على مختلف القطاعات السياسية في إيران، فإن المؤسسة الأمنية على ما يبدو بدت أنها لم تعد قادرة على مواجهة أكثر من جبهة في الداخل والخارج أو حتى في الحفاظ على حيوية هذه الشرعية، فإلى جانب دورها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، فإنها تواجهة تحديات داخلية لا تقل خطورة، خصوصًا في أقاليم الأهواز وسيستان بلوشستان وكردستان إيران، وهي أوضاع أنهكت المؤسسة الأمنية، واستغلتها “إسرائيل” بصورة جيدة، من أجل أن تفرض واقعًا سياسيًا جديدًا على طاولة المحادثات النووية في فيينا.
وفي هذا السياق، قال مسؤول السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن فرص إبرام صفقة والعودة إلى الاتفاق النووي تتضاءل، في وقت توعدت فيه إيران خصومها برد فوري على أي خطوة تعارض مصالحها، أما وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان فانتقد مساعي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إعداد مشروع قرار في اجتماع الوكالة الذرية للطاقة الذرية يحضّ إيران على التعاون الكامل وغير المشروط مع الوكالة، ووصف عبد اللهيان مشروع القرار الغربي أمام الوكالة الذرية، بأنه متسرع وغير بناء ويتعارض مع الممارسة الدبلوماسية.
إن حالة الانكشاف الأمني التي تعاني منها إيران اليوم، إلى جانب عجزها عن مواجهتها، تشير إلى أن إيران على موعد مع سلسلة جديدة من عمليات الاغتيال أو الهجمات، وهي حالة ستؤدي بطريقة أو أخرى إلى تصعيد غير مسبوق في الداخل والخارج الإيراني، فمن غير المتوقع أن يبقى النظام الإيراني دون أن يقدم رسائل تطمين لمؤيديه في الداخل ومناصريه في الخارج، ما يعني أننا سنكون أمام مرحلة جديدة تكتنفها حالة من عدم اليقين للأوضاع السياسية والأمنية التي ستمر بها إيران والشرق الأوسط.