يواجه المصريون أزمة طارئة ربما تهدد مستقبل الأمن الغذائي للسلعة الإستراتيجية الأبرز (القمح) وذلك بعد امتناع شريحة من المزارعين عن توريد كميات القمح المطلوبة التي حددتها الحكومة بـ12 أردبًا (الأردب يعادل 150 كيلوغرامًا) للفدان الواحد كحد أدنى، الأمر الذي دفع وزير التموين والتجارة الداخلية إلى التلويح بورقة العقوبات القاسية إزاء المزارع غير الملتزم.
ووجه الوزير بتشكيل لجان ميدانية بمختلف المحافظات لحصر المساحات المزرعة بالقمح وتلك التي تم حصادها بالفعل، ومقارنة الكميات الموردة بتلك المساحات، مع توجيه إنذارات مكتوبة للمزاراعين الذين لم يوردوا الكميات المطلوبة منهم تمهيدًا لفرض عقوبات عليهم إن لم يتم تدارك الأمر.
وكانت الحكومة تعول على الإنتاج المحلي في تعويض جزء من العجز الناجم عن ارتفاع أسعار القمح عالميًا جراء الحرب الروسية الأوكرانية، إذ كانت تستهدف 6 ملايين طن من القمح المحلي، بزيادة بأكثر من 70% مقارنة بـ3.5 مليون طن قمح جرى توريدها خلال العام الماضي.
وتتصدر مصر قائمة الدول الأكثر استيردًا للقمح بنحو 12 مليون طن من القمح سنويًا، بما نسبته 10.6% من إجمالي صادرات القمح العالمية، لتسد العجز في تلك السلعة الإستراتيجية التي تستهلك منها كل عام قرابة 18 مليون طن، فيما تأزم الموقف بعد الحرب، فكلا البلدين المتحاربين، روسيا وأوكرانيا، يمثلان معًا 80% من واردات مصر من القمح (7.56 مليون طن من روسيا و1.9 مليون طن من أوكرانيا بحسب إحصاءات 2021).
يذكر أن الحكومة تضع خطة موازنتها للعام الجديد بناء على الأرقام والمعطيات المقدرة لما يمكن أن تكون عليه العام المقبل وفق معطيات العام الحاليّ، وكانت الكمية المتوقع تحصيلها من القمح المحلي للعام 2022 هي المرتكز الأساسي (داخل الموازنة العامة) في تحديد حجم الاحتياجات الاستيرادية وبالتالي إبرام العقود وتوفير الميزانية، وعليه وبعد نشوب أزمة التوريد الحاليّة لا شك أن الحكومة باتت في مأزق حقيقي، فماذا لو لم يلتزم المزارعون بالكميات المطلوب توريدها رغم العقوبات والتهديدات المطروحة؟
عصا الحكومة
صعدت الحكومة على لسان وزير التموين والتجارة الداخلية من لهجتها في مخاطبة الممتنعين عن توريد الكميات المطلوبة من القمح، مستشهدًا بما ورد في القرار الوزاري رقم 51 لسنة 2022، الذي اشترط توريد 12 أردبًا من القمح بحد أدنى لكل فدان، مع ضرورة إحضار صاحب الحيازة مستند التوريد لإثبات ذلك، ومقارنته مع الكمية الموردة فعليًا، وحظر بيع ما تبقى من القمح الناتج عن موسم حصاد 2022 لغير جهات التسويق، إلا بعد الحصول على تصريح من وزارة التموين.
الوزير في تحذيره شدد على أنه في حال مخالفة المزارع لتلك الكميات أو عدم تقديم مستندات تفيد بقيامه بالتوريد، سيتم عمل محضر إثبات حالة بمعرفة اللجنة المختصة ضد المزارع، مدونة به المساحة المزورعة للقمح والكمية الواجب توريدها وكمية العجز.
يتساءل المزارعون عن دوافع التفرقة بين المنتج المحلي والمستورد، فالقمح المستورد من الخارج يتم شراؤه بأكثر من سعره المحلي بأرقام كبيرة، هذا بخلاف رسوم الشحن والتخزين والرقابة وخلافه، مع الوضع في الاعتبار تفوق القمح المصري المنتج محليًا من حيث الجودة
أما عن العقوبة المقترحة فستكون غرامة مالية ضعف سعر التوريد، لتكون قيمة أردب القمح غير المسلم بمبلغ 1770 جنيهًا، وتوريد هذه المبالغ إلى حساب “الهيئة العامة للسلع التموينية” التابعة للوزارة في البنك المركزي، تنفيذًا لأحكام المادة السادسة من القرار الوزاري رقم 76 لسنة 2022، الصادر بتاريخ 29 مايو/أيار الماضي.
وفي حال توريد المزارع للكميات المطلوبة والمحررة بسببها محاضر ضده، تقوم المديرية المختصة بإعطائهم ما يفيد توريدهم الكميات المطلوبة منهم لتقديمها إلى الجهة القضائية المختصة، مع التلويح بمزيد من العقوبات إن لم يستجب المزارعون، ضمانًا لتوفير الكميات المطلوبة تجنبًا لأي صدمات مستقبلية إزاء تلك السلعة التي يعتمد عليها السواد الأعظم من المصريين.
المزارعون: السعر غير عادل
بحسب التوجيه الوزاري تشتري الحكومة من المزارع سعر الأردب بواقع 885 جنيهًا (47.5 دولار) وهو السعر الذي لا يرضي المزارع، إذ يتجاوزه سعره في السوق الحر 1200 جنيها (64.8 دولار)، فيما كان عدد من الفلاحين قد تقدموا بطلبات لزيادة سعر الأردب إلى 1000 جنيه كسعر وسط بين الحكومي والسوق، وهو ما لم توافق عليه الحكومة لما يترتب عليه من أعباء مالية إضافية.
ويتساءل المزارعون عن دوافع التفرقة بين المنتج المحلي والمستورد، فالقمح المستورد من الخارج يتم شراؤه بأكثر من سعره المحلي بأرقام كبيرة، هذا بخلاف رسوم الشحن والتخزين والرقابة وخلافه، مع الوضع في الاعتبار تفوق القمح المصري المنتج محليًا من حيث الجودة والأصناف والقيمة الغذائية.
ويأتي امتناع بعض المزارعين عن توريد القمح لسببين: الأول: بيعه في السوق الحر بما يحقق نسبة ربح هامشية تعوض النفقات التي يتكبدها الفلاح طيلة الموسم الزراعي في ظل ارتفاع جنوني في أسعار الأسمدة ومستلزمات الزراعة، تزامنًا مع حزم محفزات ودعم حكومي متواضعة.
أما السبب الثاني فيتعلق بتخزين كميات وفيرة من القمح لاستخدامها منزليًا في تلبية حاجات الأسر خاصة بعد الحديث عن رفع أسعار الخبز المدعم على بطاقات التموين، وعليه يحاول المزارعون تأمين أمنهم الغذائي على الأقل في سلعة واحدة في ظل موجات الأسعار الجنونية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد العالمي ككل.
الحكومة في مأزق
في ظل الموازنات المحدودة فإن أزمة التوريدات الحاليّة ربما تضع الحكومة في مأزق حقيقي، فالاستجابة لمناشدات المزارعين رفع السعر المحلي بما يقترب ولو بهامش ضئيل من السعر العالمي، سيكبد الدولة أموالًا طائلة قد تجد صعوبة في توفيرها في الوقت الحاليّ.
وكانت وزارة المالية قد خصصت ما يقرب من 50 مليار جنيه (3.2 مليار دولار بسعر يناير/كانون الثاني الماضي و2.7 مليار دولار بسعر اليوم) لدعم الخبز، على أساس سعري في المتوسط لطن القمح 255 دولارًا العام الماضي، في موازنة العام المالي الحاليّ 2021/2022، غير أن تداعيات الحرب الروسية وارتفاع أسعار السلع من المتوقع أن ترفع فاتورة استيراد القمح إلى 4 مليارات دولار بزيادة قدرها 25% تقريبًا عما كانت مخصصة له بداية العام، بعدما وصلت كلفة طن القمح في الوقت الحاليّ إلى 350 دولارًا أي بزيادة قدرها 100 دولار للطن الواحد.
وبحسب الأرقام الرسمية فإن الدولة المصرية تحملت 12 مليار جنيه (0.64 مليار دولار) إضافية عن الميزانية المخصصة للقمح في الموازنة بداية العام بسبب الأسعار المرتفعة، لكن بعد الزيادات التي وصلت إليها منذ مارس/آذار الماضي وحتى اليوم، من المقرر أن يرتفع إلى 47 مليار جنيه (2.5 مليار دولار) تعاطيًا مع المستجدات الأخيرة.
رغم تطمينات السلطات بأن الأمور في إطارها الآمن، فإن حالة القلق لا تزال تفرض نفسها إزاء إجراءات تصعيدية تقشفية جديدة تزيد أعباء محدودي ومتوسطي الدخل
بعيدًا عن مأزق توفير الاعتمادات المالية المطلوبة لشراء القمح المحلي عبر ترضية المزارعين بزيادة سعر الأردب، فإن هناك مأزق آخر لا يقل أهمية عن المال، تتعلق بمصادر توفير القمح، حيث كانت تعتمد مصر على روسيا وأوكرانيا في تلبية معظم احتياجاتها من القمح (كانا يوفران 80% من احتياجات المصريين)، وعليه لا بد من البحث اليوم عن بديل آمن ومطابق للمواصفات.
وقد فتحت القاهرة باب تفاوض مع الهند كأحد أباطرة القمح في العالم، إذ استقبل المصريون شحنة واحدة (63 ألف طن) فيما رفضوا الأخرى بسبب عدم مطابقتها للمواصفات والشروط التي وضعها الحجر الصحي المصري، ومن الصعب تعويض الهند العجز الروسي الأوكراني لا سيما بعدما أعلنت عن توقف التصدير والاحتفاظ بمخزونها من القمح تحسبًا لما هو قادم في ظل الخسائر الناجمة عن التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة على محصول هذا العام.
وهكذا تتقلص خيارات الحكومة المصرية في مواجهة أزمة القمح التي تلقي بظلالها القاتمة على العالم بأسره، ورغم تطمينات السلطات بأن الأمور في إطارها الآمن، غير أن حالة القلق لا تزال تفرض نفسها إزاء إجراءات تصعيدية تقشفية جديدة تزيد أعباء محدودي ومتوسطي الدخل.