لم تكن مدينة “تل رفعت” لدى السوريين إلا رمزًا للبذل في سبيل الثورة، فهي إحدى دعائم الانتفاضة السورية وأحد أهم طرق تحرير حلب، وبالإضافة إلى أنها درة الريف الحلبي، لم تقاتل هذه المدينة الأسد فحسب، إنما قاتلت الفكر المتطرف الذي حارب السوريين وثورتهم، فكانت شوكة في حلق تنظيم داعش، ومع امتداد سنوات الثورة ومع تبدل الفاعلين واختلاف توزع السيطرة على الخريطة السورية، باتت المدينة تحت احتلال الرايات الصفر المتمثلة بالوحدات الكردية.
سيطرة الميليشيات الكردية على المدينة جعلتها هدفًا لتركيا، ففي كل مناسبة تؤكد تركيا أنها ستسيطر على المدينة، وخلال سنوات مضت لم تستطع أنقرة في كل المعارك التي خاضتها أن تدخل إلى المدينة نتيجة للاتفاقيات والتفاهمات بين الأطراف الفاعلة، في هذا التقرير نطل سريعًا على المدينة التي باتت حديث الإعلام اليوم، التي ينتظر أهلها المهجرون تحريرها كي يعودوا إليها.
مسيرة المدينة
في أبريل/نيسان من عام 2011 انتفض أهالي تل رفعت في مظاهرتهم الأولى لنصرة مدينة درعا التي كانت مبتدأ الخبر في الثورة السورية، بعد هذه المظاهرة بدأت الاعتقالات تطال الشباب الذين شاركوا في المظاهرة، لكن ذلك لم يثن أهل المدينة عن التظاهر، فقد باتت المطالب مرتفعة وهو ما دفع النظام للاعتقال أكثر فأكثر، ولتنظيم العمل الثوري ظهرت التنسيقيات في المدينة التي باتت تنسق الأعمال الثورية في المدينة.
كرد فعل على الإجرام الأسدي ضد المدينة، ظهرت تشكيلات من الجيش الحر في المدينة أواخر عام 2011، فقد عمل المنشقون عن النظام وبعض المتطوعين بجانبهم على حماية المظاهرات التي كان يستهدفها النظام، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المدينة كانت تستقبل مئات المنشقين عن جيش النظام من كلية المشاة ومن مطار منغ وغيرها من القواعد العسكرية لجيش النظام باعتبارها مدينة ثورية بامتياز.
شكّل وجود أعداد كبيرة من المنشقين عاملًا مساعدًا على انتظام العمل المسلح، الذي تطور لاحقًا، وصولًا إلى تحرير المدينة بشكل كامل، وقد تحررت المنطقة في أواخر عام 2011 حين بدأ تنظيم العمل العسكري بشكل واسع، وسيطر الثوار على على مخفر المدينة وأجبروا الحواجز الأمنية المحيطة بالمدينة على الهروب ومغادرة المنطقة، وخلت المدينة من أي وجود أمني للنظام السوري في بداية 2012.
شارك مقاتلو تل رفعت في الكثير من معارك الثورة السورية ضد نظام الأسد، لكن المعركة الأهم في مسيرة المدينة هي المشاركة بتحرير أجزاء واسعة من مدينة حلب عام 2012، حيث أبلى مقاتلو المدينة وفصائلها بلاءً حسنًا، وكان الثوار في هذه المدينة ينتمون إلى فصيلين رئيسيين، هما لواء الفتح ولواء التوحيد، ومع استمرار المعارك قدمت المدينة الكثير من الشهداء.
مع استمرار الثورة وطول أمدها وظهور الفكر الداعشي المتطرف، قاتل أبناء المدينة هذا الفكر بشكل كبير، فلم يكن للتنظيم وجود إلا بين قلة قليلة من أبناء المدينة، لكن هذا التنظيم ظهر في المدينة نتيجة مبايعة الكثير من الغرباء الموجودين في تل رفعت لـ”داعش”، لكن تدخل هؤلاء العناصر في مجريات الحياة بالمدينة جعل الأهالي يتذمرون من الوضع القائم.
في نهاية 2013 شنّ الجيش الحر في إدلب وريف حلب الغربي حملة لطرد “داعش” من مناطقه، فقام أبناء تل رفعت بهجوم مماثل على مقرات تنظيم داعش، واستطاعوا طرده وتخليص مدينتهم من وجوده، بعد ذلك، أعلن التنظيم عن معركة كان من بين أهدافها السيطرة على تل رفعت، طبعًا تصدى أبناء تل رفعت لهجوم التنظيم وأوقفوا تقدمه في واحدة من أشرس المعارك، ثم إن مناطق تل رفعت ومارع وغيرها من مدن ريف حلب الشمالي استطاعت كسر شوكة “داعش” في وقت كانت في أوج انتشار التنظيم وتمكنه من السيطرة على أي مدينة يريدها.
في فبراير/شباط 2016، شنت قوات الأسد هجومًا بريًا واسعًا تحت غطاء جوي روسي على تل رفعت والمدن المجاورة لها، لكن السيطرة على هذه المناطق تمت لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في عملية غريبة من أمرها، تشارك فيها النظام والروس والميليشيات الإيرانية للعمل على تسليم تلك المناطق للوحدات الكردية وسلبها من يد أهلها.
التهجير
يعتبر تهجير أهالي تل رفعت من أخطر عمليات التغيير الديمغرافي التي حصلت في سوريا، يذكر أن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، عملت على إجبار سكان منطقة تل رفعت الذين بقوا فيها ولم ينزحوا خلال المعارك أن يغادروها، وكان سكان المدينة قد نزحوا إلى مناطق مجاورة ومخيمات النزوح إضافة إلى تركيا، وغادروا المدينة خوفًا من أعمال انتقامية أو عمليات تطهير عرقي.
حاول بعض سكان المدينة العودة إلى مدينتهم بعد أشهر من سيطرة الوحدات الكردية عليها، لكن حواجز الميليشيات رفضت إدخالهم وقالت إن تل رفعت منطقة عسكرية لا يُسمَح للمدنيين بدخولها.
في هذا السياق يقول جهاد حدبة وهو مهندس من أهالي تل رفعت: “التهجير الذي تعرض له أهل المدينة كان قاسيًا”، مضيفًا خلال حديثه لـ”نون بوست”: “حاول الكثير من الأهالي العودة إلى مدنهم وبلداتهم في تل رفعت، لكن الميليشيات الكردية ما زالت ترفض هذا الأمر منذ سنوات ولم يسمح إلا للقليل بالعودة”، ويرى حدبة أن “الأوان قد حان لعودة كل مهجر في سوريا لأرضه بعيدًا عن كل الميليشيات الأجنبية ونظام الأسد الذي عمل على تسليم البلاد للغريب”.
ويردف حدبة “عدد الأهالي الذين نزحوا من المدينة إبان سيطرة القوات الكردية عليها يقدّر بـ250 ألفًا”، ويؤكد أن هذه الميليشيات تستخدم المدينة اليوم لقصف المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية وفصائل المعارضة السورية المحاذية لها، وهو ما سيدفع تركيا للسيطرة عليها عاجلًا أو آجلًا أو فرض اتفاق على المنطقة بالطرق السياسية.
الأهمية
في لقاء سابق مع “نون بوست” قال الصحفي السوري زين العابدين العكيدي: “اسم تل رفعت يتصدر دومًا مع كل تهديد تركي بشنّ عملية عسكرية ضد “قسد”، لكن وكما يبدو جليًّا فإن المنطقة تحظى بوضع خاص مع منبج وهو ما يمنع تركيا من السيطرة عليها، حيث تُشرف روسيا على تل رفعت رغم وجود عناصر من وحدات PYD، وخضعت المدينة لاتّفاق روسي تركي سابق، وغالبًا ستكون خارج الحسابات التركية”.
بحسب حدبة: “كما أن داعش لا تمثل المسلمين أبدًا فإن هذه التنظيمات الإرهابية لا تمثل الأكراد أو النسيج الكردي”
ويذهب الصحفي السوري إلى أن المدينة “تحظى باهتمام روسي منقطع النظير، فهي تطلُّ على مطار منغ العسكري الخاضع للوجود الروسي ووحدات PYD، إضافة إلى كونها تشكّل معبرًا مهمًّا بين منطقتَي عفرين وريف حلب الشمالي، وتعتبر السيطرة على تل رفعت المطلب الأهم لـ200 ألف سوري من سكانها من الذين تهجّروا بعد سيطرة وحدات PYD والروس والنظام عليها.
مردفًا “يوجد في تل رفعت اليوم كذلك قوات الحرس الثوري الإيراني، ما يجعلها خارج حسابات تركيا، رغم التهديدات التركية المتواصلة”، ويستبعد العكيدي أن تكون تل رفعت “هدفًا لتركيا مستقبلًا في حال حصلت عملية عسكرية تركية، لأن المدينة مهمة للروس جدًّا”.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد ذكر في أكثر من مرة عزم بلاده على السيطرة على عدّة مناطق جديدة في سوريا أهمها مدينة تل رفعت، وقال أردوغان: “تركيا بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة بشأن قرارها إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كيلومترًا شمالي سوريا، وتطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من الإرهابيين”.
نريد العودة
وفي حال سيطرت تركيا على المدينة فإنها ستحقق عدة أهداف من أهمها تأمين هذه المنطقة من خطر وجود حزب العمال الكردستاني العدو الأبرز لتركيا، بالإضافة إلى توسيع المنطقة الجغرافية لإقامة المنطقة الآمنة التي تحاول تركيا من خلالها تنفيذ خطتها الرامية إلى إعادة مليون لاجئ سوري من أراضيها إلى بلادهم، خاصة أن أكثر من 200 ألف من سكان المدينة يقيمون إما في تركيا وإما في مخيمات مناطق سورية تحت السيطرة التركية.
وهو ما يذكره لنا شفيق محمد مهندس من أهالي تل رفعت، ويقول: “إننا خلال كل عملية تقوم بها القوات التركية أو قوات الجيش السوري الوطني نتفاءل خيرًا بأن يعيدوا تحرير مدينتنا لكي نعود إليها”.
وخلال حديثه لـ”نون بوست يقول محمد: “أبي ينتظر السيطرة على المدينة فقط من أجل أن يموت فيها”، ويشير المهندس محمد إلى أن “الحياة خارج البلاد صعبة ومهما استطاع أن يتأقلم على المعيشة في الخارج تظل تل رفعت أجمل خاصة إذا خرج منها الغرباء والدخلاء عليها، ونتمنى أن تصدق تركيا هذه المرة لكي نعود ونجلس في ديارنا”، ويختتم المهندس حديثه قائلًا: “إذا عدت إلى تل رفعت فلن أخرج منها مرة أخرى ولو عادت المعارك والقصف لأنني وعائلتي عانيت كثيرًا”.
تأكيدًا لما تكلم به المهندس شفيق محمد، يقول جهاد حدبة: “الكثير من أهالي المدينة يتأملون بالعملية العسكرية التي ستطلقها تركيا خيرًا”، مضيفًا “مهما تبدّل الزمان فإن الحق سيرجع لأصحابه وتل رفعت حق لنا نحن سكانها الأصليين وليس الروس أو النظام أو تنظيمات الأكراد الإرهابية”.
مشيرًا إلى أنهم لم يشعروا بالفرق يومًا من الأيام بينهم وبين المكون الكردي وهذا الأمر” مستمر إلى الآن، لكن هذه التنظيمات تحاول إثارة الفرقة والشقاق بين أطياف الشعب السوري”، وبحسب حدبة: “كما أن داعش لا تمثل المسلمين أبدًا فإن هذه التنظيمات الإرهابية لا تمثل الأكراد أو النسيج الكردي”.