“أعيشُ في خيمة “جهنم” صيفًا، وفوق ذلك أكثر من 55 يومًا من دون مياه…”، بهذه الكلمات يعبّر أبو بشار (اسم مستعار) عمّا آلَ إليه المخيم الذي يسكن فيه ضمن تجمُّع مخيمات الكمونة قرب مدينة سرمدا شمال إدلب، والذي يضمُّ 11 مخيمًا، حيث يشهد أزمة مياه منذ منتصف شهر رمضان الفائت، بعد انتهاء عقد المنظمة الداعمة لقطاع المياه والمسؤولة عن مياه آبار وتشغيل مضخّاتها وإيصالها إلى التجمع.
أبو بشار هو ربّ أسرة مكوَّنة من 6 أفراد، ومهجَّر من مناطق ريف حلب الجنوبي ويقطن في التجمع منذ سنتَين ونصف، يقول لـ”نون بوست” إن “هناك بئرًا جوفيًّا وشبكة مياه منظَّمة ضمن التجمع، إضافة إلى وجود مولّدة قادرة على التشغيل، إلا أن ما ينقصها هو الجهة التي تتبنّى تشغيلها إما بمادة المازوت وإما بالطاقة الشمسية”، لافتًا أن منظمة “منبر الشام” كانت تشغّل 12 ساعة يوميًّا، حيث ساعتَين لكلّ مخيم تكفيان لتعبئة 10 براميل.
الاعتماد على توفير المياه لأسرة أبو بشار من الصهاريج الجوالة أنهكَ الأب العاطل عن العمل، والذي يعتمد على الوجبة الشهرية الغذائية فقط، ويضيف قائلًا: “هناك منهل ماء قريب يبيع البرميل الواحد بـ 4 ليرات تركية عبر صهاريج متنقلة، ولكن هذا مكلف جدًّا بالنسبة إليّ وإلى الأسر التي لا يعمل أفرادها، أو الأسر ذات الدخل المحدود”.
ويطالب أبو بشار عبر موقع “نون بوست” الجهات المسؤولة بحلٍّ جذريٍّ يعيد تشغيل البئر الموجود، وضخّ المياه للقاطنين، إضافة إلى حلِّ مشكلة الصرف الصحي الذي أنهكَ قاطني التجمع بالروائح المزعجة.
تفاقمت أزمة المياه في مناطق شمال غرب سوريا، وسبّبت عجزًا لآلاف الأسر في الأحياء السكنية والمخيمات في توفيرها مع ارتفاع درجات الحرارة، وخاصة في المخيمات التي تشهد توقف معظم المنظمات عن دعم مشاريع المياه المقدَّمة إليهم.
مخاطر صحية تهدد 15 ألف مهجَّر
فريق “منسقو استجابة سوريا” كان قد حذّر من احتمالية انتشار الأمراض الجلدية بسبب استخدام المياه الملوثة، خاصة أنه 85% من إجمالي المخيمات العشوائية في الشمال السوري تعاني من تأمين احتياجاتها اليومية للمياه النظيفة، في حين أن 55% من المخيمات المنتظمة تعاني نقصًا في تأمين المياه.
وأشار الفريق عبر البيان الذي نشره أواخر الشهر الفائت على معرّفاته الرسمية، أن المخيمات المحرومة من الحصول على المياه المعقمة والنظيفة تصل إلى 590 مخيمًا، لافتًا إلى احتمالية زيادة الأعداد.
وذكر الفريق أن من 42% من المخيمات المذكورة تعاني من انعدام المياه منذ أكثر من 5 سنوات، و37% من المخيمات تعاني منذ سنتَين، و21% تعاني منذ 6 أشهر من أزمة المياه.
في حديثه مع “نون بوست”، يؤكّد زكوان محمد نور الدين، مدير مخيمات “بسمة أمل” الواقع ضمن تجمع مخيمات الكمونة والذي يضمّ 15 ألف مهجر، على معاناة التجمع من ظروف مأساوية بعد انقطاع المياه منتصف شهر رمضان، الشهر الذي يكون فيه الناس في أشدّ الحاجة إلى المياه، بعد أن انتهى عقد منظمة “منبر الشام” المسؤولة عن دعم المخيم بمياه الشرب.
يشير نور الدين إلى أنه منذ ذلك اليوم وساكنو المخيم يشترون المياه من الصهاريج الجوالة، كل أسرة على قدر احتياجها، بسبب الوضع المعيشي المأساوي الذي يحيط بقاطني المخيم، والذي يضمّ أرامل وعائلات فقيرة، إذ وصل سعر البرميل الواحد إلى 4 ليرات تركية، في الوقت الذي تحتاج فيه العائلة 5 براميل كل يومَين كحدٍّ أدنى.
ونبّه نور الدين أن نقص المياه باتَ يؤثِّر على النظافة الشخصية لقاطني التجمع والنظافة البيئية، إضافة إلى تخوُّف الأهالي من انتشار الأوبئة والأمراض وسوء التغذية بين الأطفال والإسهال المائي الحاد، لأن كثيرًا من الأهالي يلجأون إلى المياه غير الصحية وغير المدعومة بمادة الكلور.
ولم تقف معاناة قاطني التجمع عند أزمة المياه فقط، بل شملت أنابيب الصرف الصحي بسبب عدم تنظيفها بالمياه المستخدمة، ما أدّى إلى انتشار الحشرات والجراثيم بشكل سريع نتيجة الحرارة العالية والمستنقعات المنتشرة، حسب نور الدين.
بالمقابل أكّد فريق “منسقو استجابة سوريا” سابقًا أن 78% من المخيمات تعاني من انعدام الصرف الصحي، كما أن العديد من المخيمات فيها دورة مياه واحدة لكل 65 شخصًا، في حين أن إنفاق العائلات النازحة يبلغ ما نسبته 20% من إجمالي دخلها على المياه شتاءً، وترتفع النسبة إلى 33% صيفًا.
إدلب المدينة تكتفي مائيًّا.. ودعوات لاستثمار الينابيع
في مدينة إدلب تصل المياه إلى أحيائها السكنية عبر الشبكات الرئيسية، وتُعتبر نوعية المياه مقبولة وتُستخدَم في الشرب والغسيل، فيما بات الكثير من الأهالي يلجأون إلى تركيب أجهزة تحلية منزلية لتنقية المياه وتحسين جودتها، حسب استطاعة كل أسرة.
يؤكد محمد جمال ديبان، المدير العام للمؤسسة العامة لمياه الشرب في إدلب التابعة لحكومة الإنقاذ، أن “وضع مدينة إدلب المائي جيد جدًّا، بسبب تخديم الآبار بمحطات تشغيلية، وأن الطاقة الإنتاجية للمدينة تقدَّر بـ 12 ألف متر مكعب يوميًّا، إضافة إلى العمل المستمر من الكوادر المختصة لملاحقة الأعطال الفنية في المحطات والشبكات وإصلاحها، ونشر صهاريج بأسعار مخفَّضة قياسًا بباقي الأسعار لتخفيف العبء عن الأهالي”.
ويرى ديبان أن “المياه متوفرة في عدة ينابيع، منها عين الزرقة وعين عارة والعدوسية، إلا أنها تفتقر إلى استثمار مياهها لخدمة الأهالي”، وعلّل ديبان ذلك بأن المنظمات تتناول الجانب الأسهل عبر استثمار الآبار فقط لتغطية مناطق متفرقة ومخيمات، مشيرًا أنه في حال تفعيل محطات للينابيع سيحلّ ذلك 70% من أزمة المياه، وبالنسبة إلى قاطني المناطق الجبلية أو البعيدة فيمكن توفير المياه لها عبر الآبار الجوفية والنقل.
ولفت ديبان إلى أن “نبع عين الزرقة يمكن أن يخدِّم مدنًا كبرى محيطة بإدلب المدينة، مثل أريحا ومعرة مصرين وكفر تخاريم وأرمناز وسلقين، فيما يخدِّم العدوسية 15 قرية، ونبع عين عارة 10 قرى، وقد قامت إحدى المنظمات بإدارة عين عارة والاستفادة من مياهه لكن بالحد الأدنى لأنه بحاجة إلى دعم أكبر، كتوفير مولدة احتياطية لتشغيل فترة زمنية أكبر، وتخديم قرى ومناطق أبعد”.
وختم ديبان حديثه بأن “المحطات بحاجة إلى إعادة تأهيل إنشائي وتجهيزات ميكانيكية وكهربائية، فعين الزرقة يحتاج من 3 إلى 4 ملايين دولار، وهذا صعب علينا كمؤسسة، في حين أن بقية الينابيع تكلفتها أقل، كما أن استثمار هذه الينابيع يحافظ على المياه الجوفية، خاصة أن استهلاك المياه في المدن أقل منه في القرى حيث يبلغ 40-45 ليترًا للفرد الواحد يوميًّا، فيما يصل الاستهلاك اليومي للفرد الواحد في القرى إلى 60-65 ليترًا يوميًّا”.
تمويل منخفض.. ومدنيون بانتظار مصيرهم
تحاول المنظمات الإنسانية في ظل الأزمة المائية شمال غرب سوريا الاستجابة للاحتياجات السكانية، وتوفير عدد من مشاريع المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية التي تشكّل نسبة 40% فقط من ميزانيّة الاستجابة الإنسانيّة، وهو أقل من ثلث ما تمَّ إنفاقه عام 2020 على الأنشطة ذاتها، حسب تقرير نشرته منظمة “أطباء بلا حدود” في سبتمبر/ أيلول 2021.
ورغم تلك الجهود، فالأمر مرهون أولًا وأخيرًا بالتمويل الذي لوحظ انخفاضه لدعم المشاريع في الشمال السوري، واستمرار المنظمات من جهة أخرى بدعم المخيمات التي تضمُّ الفئات الأكثر احتياجًا، أو إمكانية تدخُّلها في دعم مخيمات جديدة، وهذا ما يؤكّده أحمد درويش، منسق مشروع المياه والإصحاح بمنظمة Syria Relief، التي تستهدف 125 مخيمًا منظَّمًا وعشوائيًّا وبعدد سكاني يصل إلى 185 ألف.
يشير درويش في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن أزمة المياه تزداد صيفًا لأن استهلاك الفرد أكبر، وبالمقابل إن المنظمات الإنسانية الداعمة لقطاع المياه ملتزمة بالمعايير الدولية التي تخصَّص لحصة الفرد في حالة الطوارئ أقلها 15 ليترًا وأكثرها 35 ليترًا، وبطبيعة الحال يلزم الفرد السوري استهلاك كميات أكبر، حيث يتم تزويده شتاءً بكميات تصل إلى 35 ليترًا، وهي قليلة، فكيف باستهلاكه صيفًا؟
ونوّه درويش أن مشاريع بعض المنظمات مؤقتة (طوارئ)، تمتدُّ بين 6 و10 أشهر أو سنة كحدٍّ أقصى، فسعر المتر المكعب الواحد واصل إلى المستفيد يمكن أن يصل إلى 2.50 دولار، لأن بعض المخيمات العشوائية بعيدة جدًّا عن مصدر المياه الجوفية، أو طريق الوصول إليها مكلف.
ويشكّل هذا الأمر عبئًا ماديًّا باهظًا بالنسبة إلى المنظمة، فيجب أن تكون المخيمات منظَّمة وليست عشوائية، لأن أغلب المخيمات العشوائية يصل عدد أسرها إلى 100 أو 200 أو 300، وتجهيز محطة مياه لهذه المخيمات صعب جدًّا باعتبار أن هذه المخيمات متنقّلة وغير ثابتة، بحسب درويش.
ورأى درويش أنه بالنسبة إلى المخيمات المنظّمة، يمكن إنشاء مصدر مائي لها في مكان آمن بعد المسح الجيولوجي والطبوغرافي للأرض وتجهيز بئر، أما الحل الأنسب لتشغيل لمحطات المياه بشكل مستدام هو الطاقة الشمسية.
وشدّد درويش على أن تنفيذ أي مشروع مرهون بموافقة الجهة المانحة، “فقد حاولنا تخديم مخيم عشوائي بمحطة مياه لكن التكلفة كانت باهظة وعدد المستفيدين قليل، ما أدّى إلى عدم قبول الجهة المانحة للمشروع”، لافتًا أن “العديد من المنظمات أيضًا حاولت تقديم مشاريع للاستفادة من نبع عين الزرقا لضخّ المياه، إلا أنهم اصطدموا بعثرات الكلفة العالية والديمومة وضمان التشغيل”.
وتعدّ أزمة المياه هذا العام أزمة متوقَّعة، إلا أنه ما بين عجز سلطات الأمر الواقع عن إيجاد حلول إسعافية لنشل مئات المخيمات وضعف التمويل المقدَّم للمنظمات الفاعلة، يبقى المدنيون هم الحلقة الأضعف بانتظار حلول تبعد عنهم شبح الأوبئة والأمراض، وتساعدهم في البقاء على قيد الحياة لسنة قادمة تتجدد فيها المعاناة نفسها.