احتضنت العاصمة التركية أنقرة قبل أيام قليلة فعاليات الدورة الخامسة والعشرين من مهرجان “فلاينغ بروم” الدولي لسينما المرأة، والذي استمرَّ على مدار 10 أيام من 26 مايو/ أيار وحتى 5 يونيو/ حزيران 2022، بمشاركة كوكبة متميزة من نجوم السينما النسائية في تركيا والعالم.
المهرجان الذي يعدّ إحدى أبرز الفعاليات المتخصصة في السينما النسائية في العالم، شهد عرض أكثر من 60 فيلمًا نسائيًّا من مختلف الدول، ويحاول إلقاء الضوء على تراث المرأة في العالم وتعزيز دورها في تنمية المستقبل بحسب مديرة المهرجان، نيل كورال، فيما أعربت الفنانة التركية توركان شوراي عن سعادتها بتحقيق “حلم تمكين النساء من التعبير عن أنفسهن من خلال الثقافة والفن، والذي دام 25 عامًا”.
وسيطرت الفنانات التركيات على جوائز المهرجان، حيث مُنحت جائزة الشرف للفنانة شريف سيزر المعروفة عربيًّا بـ”الرقيق سيزر”، أما المنتجة آنا ماريا أصلان أوغل فقد مُنحت جائزة النجاح برفقة الممثلتَين نشه يولاتش وعائشة شاملي أوغلو، فيما حصلت نازلي بولوم على جائزة الساحرة الشابة.
وتسلِّطُ مثل هذه الفعاليات الضوء على دور المرأة المحوري في نهضة السينما التركية، والتي تحولت إلى واحدة من أبرز أدوات القوة الناعمة للدولة التركية في العقود الأخيرة، حيث منحتها المرأة دفعة قوية ساهمت في انتشارها لا سيما على المستوى العربي، حتى باتت المرأة التركية نموذج الاقتداء لدى كثير من نساء العرب، فضلًا عن الصورة المشرقة للدولة والبيئة والحياة التركية، والتي لعبت -عبر نافذة السينما النسائية تحديدًا- دورًا كبيرًا في الترويج للأتراك في بعض المناطق التي كان من الصعب اختراقها على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
من التحريم إلى الإبداع
بعيدًا عن الصورة المضيئة التي تظهر عليها السينما التركية في الوقت الحالي، فقد مرّت هذه الصناعة بمحطات قاسية لا سيما في التعامل مع المرأة كعنصر أساسي في بنائها، حتى وصلت إلى منصات التتويج في كبرى مهرجانات العالم السينمائية من “كان” إلى “الدب الذهبي” وغيرهما من الفعاليات التي فرضت فيها السينما التركية نفسها كأحد أباطرة هذه الصناعة.
في البداية كان العمل في السينما محرَّمًا على المرأة التركية المسلمة، في مجتمع محافظ كان ينظر إلى مهنة التمثيل نظرة دونية لا تتناسب وأخلاقيات الإسلام، لذا كان المجال حكرًا على فتيات الأقليات غير المسلمة، مثل الأرمن والروس البيض، حسبما أشار الكاتب التركي مسعود كارا، بل في بعض الأحيان كان يضطر الرجال تمثيل أدوار المرأة.
وكان من أبرز الفنانات اللواتي شاركن في أفلام تركية ما قبل الجمهورية روزالي بينليان ولوسي أفوشياك، حيث شاركتا في فيلم “زواج همت آغا” الذي تمَّ تصويره عام 1916، وإليزا بينميسيان التي لعبت دور البطولة في فيلم Pençe المنتَج عام 1917، ثم آنا مارييفيتش بطلة فيلم Istanbul’da Bir Disasterı Ask للمخرج محسن إرتوغرول.
كانت الصورة النمطية للمرأة في السينما في تلك الفترة متأرجحة بين ثنائية الخير والشر، وهو ما يعكس حالة التموج السياسي والاجتماعي المشهودة في البلاد تلك الفترة، كما هو الحال في فيلم “في ليلة ماطرة” للمخرج أوغوز غوزن الذي أُنتج عام 1910 ويعدّ أول فيلم نسائي بالمفهوم الحديث، حيث كانت البطولة المطلقة نسائية بامتياز لفتاتَين، إحداهما تترك طفلها من أجل السفر للغناء والأخرى تعمل في نادٍ ليلي ثم تترك عملها بعدما عثرت على الطفل الذي تركته والدته.
بعد ذلك انصبَّ اهتمام السينما التركية بصفة عامة ومعها النسائية بطبيعة الحال على البُعد الوثائقي لمجريات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فظهر فيلم “انهيار النصب الروسي في آياستوفونوس” مع بدايات الحرب، ويعتبره المؤرخون أول فيلم سينمائي تركي، كذلك فيلم “زواج همت آغا”.
وبعد انتهاء الحرب بأقل من عامَين، شهد الفن النسائي التركي حدثًا مفصليًّا، حين ارتقت الفنانة التركية عفيفة جالي خشبة المسرح كأول ممثلة تركية مسلمة تدخل مجال المسرح الذي كان بوابة لها للاحتراف السينمائي فيما بعد.
ثم توالى الحضور النسائي التركي في أروقة السينما تباعًا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، إذ شهد ذاك العقد الحضور الأكبر للمرأة كضلع أساسي في منظومة السينما والمسرح والدراما بصفة عامة، فكان ذلك الوقت إيذانًا لظهور أول ملكة جمال في تركيا، فريدة توفيق، ومعها مغنية الأوبرا الشهيرة سميحة بيركسوي، ثم عصمت سيري بطلة أول فيلم شبّاك في البلاد، وهو فيلم “بريد أنقرة”، تلتها النجمة جاهيدة سونكو التي ناطحت بشهرتها نجمات هوليوود في ذلك الوقت، وعلى رأسهن غريتا غاربو وأنغريد بيرغمان ومارلين ديتريش.
المربّع الذهبي
منذ قيام الجمهورية عام 1923 فرضت إسطنبول نفسها كإحدى عواصم السينما العالمية، وعلى مدار 100 عام تقريبًا حقّقت خلالها السينما التركية مئات الأفلام المتنوعة التي نافست بها في شتى المحافل الدولية، وكان للمرأة دور محوري في التتويج بعشرات الجوائز، إما بصورة فردية كأفضل أدوار التمثيل وإما عن العمل الجماعي ككُلّ.
ورغم الزخم الكبير للفنانات التركيات في الأعمال السينمائية والدرامية، إلا أن هناك 4 فنانات على وجه التحديد مثّلن “المربّع الذهبي” للعصر الماسي للسينما التركية، وكنّ الواجهة الأبرز لتلك الصناعة في الداخل والخارج، تتقدّمهن تركان شوراي الملقّبة بـ”سلطانة السينما التركية”.
ولدت شوراي في إسطنبول في 28 يونيو/ حزيران 1945، وعرفتها السينما من خلال فيلم “أحببت فتاة في القرية” عام 1960، حيث لم تتجاوز الـ 15 من عمرها، وبلغ عدد الأفلام التي شاركت بها طيلة حياتها 222 عملًا، فضلًا عن البرنامج التلفزيوني الذي قدمته عام 2011.
كما حصلت على عشرات الجوائز كأفضل ممثلة، أبرزها في مهرجان “البرتقال الذهبي” للأفلام في أنطاليا عام 1964 عن دورها في فيلم “الحياة هي الألم”، وفي المهرجان نفسه عام 1968 عن دورها في فيلم “النصف الموثق”، ثم المهرجان الخامس لـ”الشرنقة الذهبية” للأفلام في أضنة عام 1972 عن فيلم “السجينة”، وفي العام نفسه جائزة مهرجان “الفراشة الذهبية” السينمائي الأول كأفضل ممثلة، وآخر الجوائز التي حصلت عليها كانت عام 2013، وهي جائزة الإنجاز المتميز للسينما التركية من مؤسسة “الحياة بلا عوائق”، وجائزة الفخر من المهرجان التركي الحادي عشر للأفلام .
ثم تأتي الفنانة فيليز أكين، أسطورة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد استمدّت شهرتها كونها تشبه فنانات الغرب بشكل لا يمكن التفرقة بينها وبينهنّ، واكتسبت احترام الشارع التركي والغربي بصفة عامة، إذ كانت معظم أعمالها تدور في فلك الرومانسية العذراء والسينما النظيفة.
كانت المرأة حاضرة بقوة في تلك المسيرة التي بلغت أوجها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي العصر الذهبي للسينما التركية كما يشير المؤرخون
ولدت أكين في أنقرة في يناير/ كانون الثاني 1943، ودخلت الحياة السينمائية في سنّ الـ 19 من خلال فيلم Akasyalar Açarken عام 1962، ويتجاوز نتاجها الفني خلال فترة حضورها السينمائي من عام 1962 وحتى اعتزالها عام 1975 حوالي 114 فيلمًا، نجحت من خلالها في حفر اسمها في ذاكرة الأتراك كأسطورة حتى اليوم، رغم غيابها عن الساحة منذ أكثر من 47 عامًا.
وعلى خطّ الريادة والأناقة السينمائية تأتي الأيقونة الجديدة للتمثيل في تركيا، توبا بويوكوستون، صاحبة الحضور الطاغي والشعبية الجارفة لا سيما خلال العقد الأخير، نظرًا إلى الأدوار الجيّدة التي قدّمَت من خلالها نفسها للشارع التركي والعالمي على حدّ سواء، حتى تحولت إلى علامة فارقة في تاريخ السينما التركية.
ولدت توبا في إسطنبول في 5 يوليو/ تموز 1982، وتخرجت من جامعة معمار سنان للفنون الجميلة، ثم بدأت العمل في مجال الإعلانات ومنه إلى التمثيل بعد لقائها بتومريس جيرتلي أوغلو، وتميّزت أكثر في المجال الدرامي بدايةً من أوّل أعمالها “سلطان مقامي” وصولًا إلى “سنوات الضياع” و”بائعة الورد”، لكنها قدّمت عشرات الأعمال السينمائية المتميزة التي وضعتها في مكانة مرموقة بين سلطانات السينما التركية.
وحصدت عشرات الجوائز عن أدوارها الدرامية والسينمائية أبرزها في مجال الأفلام، مثل جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم “الوردة الصفراء” من مهرجان “بار” التلفزيوني الدولي بجمهورية صربيا والجبل الأسود عام 2005، وجائزة أنجح ممثلة سينمائية عن فيلم “اسأل قلبك” من “نادي الرياضيات الناجح” بجامعة مرمرة عام 2010.
وتكمل شهرزاد السينما التركية، بيرجوزار كوريل، الضلع الرابع لمربّع حسناوات الفن العثماني، إذ فرضت بموهبتها الراقية وقدراتها الفنية التي شهدَ بها النقّاد في الداخل والخارج، حضورَها المؤثر في المشهد السينمائي من خلال العديد من الأعمال المحفورة في ذاكرة الشعب التركي.
ولدت بيرجوزار في إسطنبول في 27 أغسطس/ آب 1982 لأسرة فنية من الطراز الأول، فهي الابنة الثانية للفنانة هوليا دركان وابنة الممثل والمخرج تانجو كورال، بدأت مشوار التمثيل خلال فترة الجامعة حيث ظهرت لأول مرة في مسلسل تلفزيوني اسمه “حياة محطمة” عام 1998، لكن بدايتها السينمائية الحقيقية كانت من خلال فيلم “وادي الذئاب: العراق” عام 2005، وهو العمل الذي حطّمَ الرقم القياسي في حجم الإيرادات في ذلك الوقت.
وقد حصدت العديد من الجوائز أبرزها جائزة Yerel ve Bölgesel Televizyonlar Birliği YBTB لأفضل ممثله لعام 2012، ومن قبلها جائزة “مدرسة الأبراج” لأنجح ممثلة لعام 2008، وجائزة RTGD Radyo Televizyon Gazetecileri Derneğinin لعام 2007.
115 عامًا من الحضور
رغم أن التأسيس الرسمي للسينما التركية يعود إلى عام 1914، حين صوّر الملازم فؤاد أوزكناي انهيار النصب الروسي في آيا صوفيا، بحسب الناقد السينمائي أتيلا دورساي، إلا أن الكثير من النقّاد يقولون إن السينما التركية بدأت قبل ذلك بسنوات، كما أشار الناقد السينمائي إحسان قابيل، والذي أرجع البداية الحقيقية إلى تصوير زيارة السلطان محمد رشاد الخامس مناطق يونانية عام 1911 على يد الأخوَين ماناكي.
وكانت البدايات الأولى للسينما قبل تأسيس الجمهورية ترتكز على أفلام توثيق الحرب العالمية الأولى، ثم بعد الاستقلال تحوّل الوضع تدريجيًّا من غياب الدعم والتمويل إلى الريادة والتفوق، ويشير البعض إلى أن فيلم “باسم القانون” للمخرج لطفي عقاد عام 1952 يُعتبر أول فيلم حركة (أكشن) في السينما التركية.
وكما هو الحال في هوليوود كان في تركيا شارع “يشيل جام” في إسطنبول، والذي تحول إلى مكان تجمُّع مكاتب العاملين في الحقل السينمائي (كتّاب وسيناريست ومنتجين)، ونظرًا إلى احتضان هذا الشارع لأكبر قدر ممكن من الفنانين سُميت السينما التركية بداية الأمر بالسينما اليشيلجامية، وكان لها صداها في كافة البلدان العربية رغم تفوقها السينمائي في ذلك الوقت، وفي المقدمة منها مصر.
وكانت المرأة حاضرة بقوة في تلك المسيرة التي بلغت أوجها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي العصر الذهبي للسينما التركية كما يشير المؤرخون، إذ وصل حجم الإنتاج سنويًّا 225 فيلمًا في العام، بلغ ذروته عام 1972 حين وصل العدد إلى 300 فيلم احتلت بها تركيا وقتها المركز الثالث عالميًّا في إنتاج الأفلام.
وشاركت المرأة الرجل، إن لم تكن قد تفوقت عليه في كثير من المراحل، في تحويل السينما إلى أقوى أدوات القوة الناعمة التركية في العصر الحديث، حيث نجحت أنقرة في توظيف تلك الصناعة لتجميل صورتها خاصة لدى الدول التي استعمرتها في السابق، والتي لا تزال تعاني من تشويه للصورة الذهنية لديها، حيث لعبَ الفن عمومًا دورًا محوريًّا في رسم صورة أكثر إشراقًا للمجتمع التركي بصفة عامة.
وهكذا حقّقت المرأة التركية في مجال صناعة السينما نجاحات على أكثر من مسار، جعلتها لاعبًا محوريًّا في خارطة صنّاع القرار في هذا القطاع الحيوي الذي تعتمد عليه الدولة التركية اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، لتواصل التركيات مسيرتهن الناجحة على كافة المستويات.