عادَ التوتر إلى منطقة الحدود بين لبنان وشمال فلسطين المحتلة حيث يجثم الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد دخول السفينة الإسرائيلية إلى حقل “كاريش” الواقع ضمن المناطق المتنازع عليها، أو الواقع جزء منه ضمن الأراضي اللبنانية وفقًا لخط الحدود رقم 29 الذي أعلنه لبنان على أنه خط الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، في وقت لا تعترف حكومة الاحتلال الإسرائيلي بهذا الخط، وتعتبر أنَّ حقل “كاريش” يقع بكامله ضمن المناطق التابعة لها، وهو بالمناسبة حقل كشفت الدراسات أنه غني بالغاز.
وقد تخطّت سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه “ENERGEAN POWER” حقل “كاريش” بـ 5 كيلومترات داخل المنطقة التي يعتبرها لبنان تابعة له ومن حقوقه، وهو ما أرخى بثقله على الأجواء في المنطقة وأنذر بانزلاق الأمور إلى مواجهة محدودة أو حرب مفتوحة، في ضوء تطوُّر الموقف من الأطراف المعنيّة.
الخط 29 وأسباب الخلاف
تعود أسباب الخلاف بين لبنان و”إسرائيل” إلى أكثر من عقد ونصف من الزمن، إذ إن جذور هذه الأزمة تعود إلى عام 2007 عندما تمَّ الاتفاق على المناطق البحرية الخالصة بين لبنان وقبرص، ثم لاحقًا اكتشف لبنان أن هناك خطأ في الحدود البحرية وفق الاتفاقات مع قبرص، ما أدّى إلى تعديل في الحدود في المناطق الحدودية المحاذية لفلسطين المحتلة عبر خط جديد عُرف لاحقًا بالخط 23.
وقد منحَ هذا الخط مزيدًا من المنطقة البحرية للبنان تساوي تقريبًا حوالي 860 كيلومترًا، إلا أن “إسرائيل” لم تعترف بهذا الخط، وظلّت متمسّكة بما هو قائم من اتفاقات بين لبنان وقبرص، وهنا دخلَ الأمريكي على خط الوساطة بين لبنان وكيان الاحتلال الإسرائيلي، مقترحًا عبر وسيطه فريدريك هوف تقسيم المنطقة التي باتت محل نزاع بموجب الخط 23 بين الفريقَين، بحيث تكون حصة لبنان بموجب هذا التقسيم حوالي 500 كيلومتر، وبقية المنطقة لكيان الاحتلال، إلا أن لبنان رفض هذا المقترح وظلَّ متمسّكًا بكامل هذه المنطقة، أي حتى حدود الخط 23.
لاحقًا قامت مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني بمسح دقيق للشاطئ اللبناني، خاصة في منطقة رأس الناقورة، مستخدمة الأجهزة الأكثر تطورًا، وأثبتت أن الخط 29 هو خط الحدود (خط يعطي لبنان مساحة إضافية تقدَّر بحوالي 1430 كيلومترًا)، غير أن لبنان لم يَقُم بتثبيت هذا الخط لدى الأمم المتحدة، بل اكتفى برسالة فقط بعثَ بها رئيس الجمهورية ميشال عون في مطلع فبراير/ شباط 2022 إلى الأمين العام للأمم المتحدة بهذا الخصوص.
وبالتالي ظلَّ الخط عالقًا، وبنظر الإسرائيلي لا أساس له، ومن هنا تصرّفَ في إدخال سفينة الحفر والإنتاج إلى حقل “كاريش” كما لو أنّ هذه المنطقة خالصة له وليس للبنان أي حقّ أو علاقة بها، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن المفاوضات غير المباشرة التي يجريها الجيش اللبناني برعاية الأمم المتحدة في المقرّ العام للقوات الدولية في جنوب لبنان (بلدة الناقورة)، يركّز فيها الضباط اللبنانيون على الخط 29 على أنّه خط الحدود مع “إسرائيل”.
الموقف اللبناني الحالي
فور إعلان “إسرائيل” عن إدخال السفينة إلى حقل “كاريش” والشروع في الحفر ومن ثم الإنتاج، أعلنَ المسؤولون في لبنان أنَّ هذا التصرُّف بمثابة اعتداء على لبنان، حيث قال كلّ من رئيس الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي إن إدخال السفينة إلى حقل “كاريش” اعتداء واستفزاز وافتعال لأزمة جديدة في ظلّ استمرار مفاوضات ترسيم الحدود برعاية أمريكية، وطالبا لاحقًا بعودة الوسيط الأمريكي الحالي، آموس هوكشتاين، إلى بيروت بهدف الشروع في مفاوضات حول هذا الملف.
من الواضح حتى اللحظة أن الأطراف المعنيّة حريصة على عدم انزلاق الأمور إلى حرب مفتوحة ولا حتى إلى مواجهة محدودة
كما أن رئيس المجلس النيابي، نبيه برّي، الذي رعى عملية الوصول إلى اتفاق إطار قبل نحو عام ونصف من الآن بين لبنان والولايات المتحدة بخصوص ترسيم الحدود البحرية، أكّد على أنّه “ليسَ ممكنًا تجاهل الخطوات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي في حقل “كاريش”، ومن المفترض حضور الوسيط الأميركي آموس هوكشتين إلى بيروت وإبلاغه أن لبنان لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه التجاوزات”.
ومن بين المقترحات التي لوّح بها الرئيس برّي، دعوة الحكومة المستقيلة إلى عقد جلسة وتعديل المرسوم 6433 الذي يعتبر الخط 29 هو خط الحدود وتثبيت ذلك في الأمم المتحدة، وبالطبع إنَّ إجراءً من هذا القبيل يعقّد الموقف والمفاوضات غير المباشرة بوساطة أمريكية، وربما يدفع المنطقة إلى شفير الحرب.
بالنسبة إلى حزب الله، وهو القوة المسلحة خارج إطار الدولة، وقد هدّد مرارًا بأنه لن يسمح لـ”إسرائيل” باستخراج الغاز أو النفط من المناطق المتنازع عليها قبل الاتفاق أو قبل أن يكون لبنان قادرًا على استخراج غازه ونفطه، فقد طالب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب، هاشم صفي الدين، الدولة اللبنانية باعتماد خط للحدود يكون واضحًا بحيث يمكن الدفاع عنه.
قد يكون هذا ربما محاولة من الحزب في هذه المرحلة إلقاء الكرة في ملعب الدولة اللبنانية، بانتظار فرصة أو متغيّرات تسمح بفرض قواعد لعبة جديدة.
احتمالات تفجُّر الوضع
من الواضح حتى اللحظة أن الأطراف المعنيّة حريصة على عدم انزلاق الأمور إلى حرب مفتوحة ولا حتى إلى مواجهة محدودة، وممّا لا شكّ فيه أن “إسرائيل” اختارت اللحظة الإقليمية والدولية المناسبة وأقدمت على هذه الخطوة، متسلّحة بعدم إثبات لبنان ملكيته لهذه المنطقة أمام الأمم المتحدة وأمام الراعي الأمريكي، بالنظر إلى عدم اعتماد الخط 29 أمام الأمم المتحدة.
من ناحية الدولة اللبنانية، فإن القيّمين على القرار لا يملكون الكثير من أسباب القوة التي تخوّلهم فرض شروط معيّنة تلزم الإسرائيلي بعدم تخطّي الخط 29، ولا يملكون القدرة والإمكانية على إجباره على ذلك إلاّ من خلال القوانين الدولية، وهي غالبًا ما تكون لحساب الإسرائيلي، وبالتالي إن هذين الطرفَين لن يأخذا المنطقة إلى مواجهة أو حرب.
تبقى الأنظار مصوّبة ناحية حزب الله، لمعرفة كيف يمكن أن يتطوّر الموقف معه بخصوص هذه القضية السيادية، التي أكّد مرارًا على أنه لن يتهاون فيها على الإطلاق، ربما لا يجد الحزب الآن أن معالجة هذه القضية قد وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي قد يكون هناك مزيد من الوقت للمفاوضات غير المباشرة بهدف احتواء هذا الموقف.
لكن إذا اتجهت الأمور نحو استكمال الحفر والإنتاج وتجاهل الموقف اللبناني، فقد يكون الأمر مفتوحًا على احتمالات أخرى من بينها المواجهة المحدودة التي تعيد رسم منطق وقواعد الاشتباك من جديد، ولا يضمن أيّ طرف أن تتدحرج الأمور بعد ذلك إلى ما هو أعقد وأصعب، ومن هذه اللحظة إلى تلك قد تولد تسويات هي الآن ليست في أي حسبان.