أثارت حادثة تفجير مطعم “ليلى” في وسط بغداد في الأيام الماضية الجدلَ حول الدور الذي تلعبه شبكات الابتزاز في العراق، وهي شبكات مكوَّنة من تحالف يجمع جماعات مسلحة والجريمة المنظَّمة وعناصر فاسدة في الأجهزة الأمنية.
ورغم وقوع العديد من الحوادث التي طالت ممتلكات المواطنين، إلا أن هذا الحادث حظيَ باهتمام بالغ، كونه سلّط الضوء بصورة كبيرة على نشاطات هذه الشبكات، وتأثيرها الكبير في الواقع الأمني والاستثماري والتجاري، خصوصًا أنها أصبحت تنشط بصورة كبيرة في بغداد والمحافظات الأخرى.
ففي الوقت الذي أعلنَ فيه صاحب المطعم أن عملية التفجير جاءت بفعل فاعل، نفى بالمقابل مدير العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية، اللواء سعد معن، هذه الرواية، وأكّد على أن الانفجار كان عرضيًّا، وليس جنائيًّا أو إرهابيًّا.
وفي مقابلات أُجريت مع العديد من الأشخاص الذين رفضوا الكشف عن أسمائهم، بعضهم من مالكي المطاعم والمتاجر، أشاروا إلى أن هذه الشبكات تمارس دورًا مهمًّا في فرض إتاوات مالية على أصحاب المتاجر والمطاعم المعروفة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أنهم يفرضون نِسَبًا مالية على رجال الأعمال أو المستثمرين الذين يحاولون القيام بمشاريع خدمية في بغداد.
ورغم علم السلطات الأمنية بنشاطات هذه الشبكات، إلا أنها عادةً ما تتجنّب الصدام معها، كون بعض هذه الشبكات محسوبة على فصائل مسلحة معروفة، أو أنها ترتبط بصورة غير مباشرة بشخصيات سياسية نافذة.
وفي هذا السياق أيضًا، تحدّث العديد من تجّار المواد الغذائية والاستهلاكية في سوق الشورجة عن أنهم مجبرون عادةً على التعامُل مع تجّار محدَّدين في عمليات استيراد البضائع، والتي يأتي أغلبها من إيران، حيث يواجه التجّار الرافضون لذلك تحديات خطيرة، تتراوح ما بين حرق المتاجر التابعة أو التصفية الجسدية.
وأضاف بعض التجّار أن الأمر لا يقتصر على شبكات الابتزاز، وإنما يشمل عناصر فاسدة في الأجهزة الأمنية، الذين يقومون بدورهم في عملية فرض إتاوات مالية على شحنات نقل البضائع الداخلة إلى بغداد، والتي تتراوح ما بين 500 إلى 700 دولار للشاحنة الواحدة، حسب طبيعة البضائع ونوعيتها.
وجرّاء هذا يواجه التجّار أوضاعًا صعبة في كيفية تأمين بضائع بأسعار مناسبة للمواطنين، إلى جانب تلف الكثير منها عند بوابات بغداد ومداخلها، في حال رفض التاجر دفع الإتاوة المفروضة عليه، وهو ما جعلهم يترددون في اللجوء إلى الأجهزة الأمنية، كونها أحد الأطراف المشاركة في هذه المشكلة.
تشمل عمليات الابتزاز مصادرة البيوت والعمارات السكنية التي تقع ضمن المنطقة التي تسيطر عليها فصائل مسلحة بعينها
وترتبط في هذا الإطار التحديات التي يواجهها أصحاب محلات بيع المشروبات الروحية في بغداد، إذ شهدت بغداد ما يقارب الـ 16 عملية تفجير للمحلات والمتاجر التي تنشط في عمليات بيع المشروبات الكحولية منذ بداية العام الماضي، وتحديدًا في مناطق الأندلس والكرادة والسيدية والأعظمية وباب المعظم، إذ أشار بعض أصحاب هذه المحلات إلى أنهم مجبَرون على تقاسُم جزء من الأرباح المالية مع بعض شبكات الابتزاز، كما أن هناك جانبًا آخر يتمثّل بإجبارهم على استيراد المشروبات الروحية من جهات محددة، ومنعهم من التعامُل مع جهات أخرى.
كما قال أحد أصحاب هذه المتاجر -رفض الكشف عن اسمه- إن بعض الجماعات المسلحة المسيطرة على المناطق التي تتواجد فيها متاجرهم، تجبرهم على دفع مبالغ مالية شهرية مقابل توفير الحماية لهم، وتشمل هذه الحماية أيضًا النوادي الليلية، حيث إن هناك نظامًا ماليًّا واحدًا يشمل جميع المتاجر والنوادي، وتكون مرتبطة باللجنة الاقتصادية التابعة لفصيل مسلح بعينه، ومن يمتنع عن الالتزام بهذا النظام يكون مصيره إما القتل وإما غلق المشروع وإما تفجيره حتى.
ولا يتوقف الأمر على الجانب التجاري والاقتصادي فحسب، بل تشمل عمليات الابتزاز مصادرة البيوت والعمارات السكنية التي تقع ضمن المنطقة التي تسيطر عليها فصائل مسلحة بعينها، وتحديدًا في مناطق زيونة والبلديات وشارع فلسطين والمنصور والصالحية، حيث تعرّض العديد من ملّاك هذه العقارات إلى الطرد أو التصفية، بعد رفضهم ترك منازلهم أو التنازل عنها لصالح فصيل معيّن، مقابل مبالغ مالية قليلة لا تساوي قيمة العقار الأصلية.
ويمتدُّ الأمر ليشمل أصحاب المولات الكبيرة في بغداد، حيث يُجبَر أصحاب هذه المولات، وتحديدًا غير المرتبطة بالشخصيات السياسية النافذة، على دفع مبالغ مالية شهرية لعناصر هذه الشبكات، والأمر نفسه يسري على كراجات إيقاف السيارات، وشركات البناء والمقاولات، ومراكز التجميل والفنادق.
كما امتدّت ظاهرة الابتزاز وفرض الإتاوة إلى الأزقة والطرق الجانبية المحاذية للأسواق والمناطق القريبة من المؤسسات الحكومية، لفرض إتاوات على المواطنين مقابل السماح لهم بالوقوف ولو لدقائق معدودة في الشوارع الفرعية.
وتستعين هذه الجهات بالرشوة ونفوذ المسؤولين الحكوميين والأمنيين لتكبيل القانون، الأمر الذي يضطر المواطن للرضوخ لتلك الشبكات لتجنُّب شرّها الذي قد يعرضهم لمعارك غير متكافئة، أو غرامة مالية يفرضها متواطئون في أجهزة الدولة الأمنية.
إذ تبلغ تكلفة ركن السيارة 5 آلاف دينار، ويُجبَر صاحب السيارة على الدفع حتى لو كان مكان الموقف رصيفًا أو ساحة عامة مخصَّصة للوقوف مجانًا في الأصل، ولا تملك الجهات التي تدير هذه المواقف أي ترخيص قانوني أو إداري لأخذ أموال من المواطنين.
ويقول مواطنون إن غالبية الأشخاص الذين يسيطرون على هذه المواقف ويديرونها مسنودون من قبل موظفين حكوميين كبار، ويحظون بحمايتهم التي تحوّلت إلى أشبه بحصانة تجعل أي مسؤول أمني أو موظف في أمانة بغداد يتجنّب محاسبتهم.
فشل حكومي
بدأت معضلة انتشار ظاهرة فرض الإتاوات وشبكات الابتزاز في بغداد بالتفاقُم بعد الغزو الأمريكي عام 2003، إذ ساهمَ الانفلات الأمني الذي شهده العراق بعد الغزو، فضلًا عن ضعف الجهود الرسمية من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، في اتّساع هذه الشبكات ووصولها إلى حدود غير مسبوقة. وتُعتبر بغداد من أكثر المحافظات التي تشهدُ انتشارًا لهذه الظاهرة.
ومن الأسباب الأخرى التي ساهمت في تصاعدها ضعف الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية العراقية في مواجهة هذه الشبكات وكبح جماحها. وفضلًا عمّا تقدّم، ساهمت عوامل أخرى في ازدهار الشبكات أيضًا، ومنها تخوُّف الأجهزة الأمنية واختراق الجهود الاستخباراتية، إلى جانب قيام الجهات التي تقف خلف هذه الظاهرة، وتحديدًا الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بتهديد وترهيب أجهزة الأمن، سواءً التي تختصّ بملف المنافذ الحدودية أو التي تلاحقُ شبكات الابتزاز في بغداد، في مؤشر خطير على تصاعُد نفوذها في بغداد.
أدّى ضعف سيطرة الحكومة العراقية، وهيمنة الفصائل المسلحة، وفساد ورشوة بعض العناصر الأمنية، إلى تسهيل عمل هذه الشبكات
ترافقَ تعاظُم دور شبكات الابتزاز في بغداد أيضًا مع ظواهر أخرى ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بها، وساهمت بدور رئيسي في توسُّع نشاطها داخل بغداد، والتي يأتي في مقدمتها انتشار الفصائل المسلحة، وعدم تفكيك العلاقة الزبائنية التي نشأت خلال الفترة الماضية بين جماعات السلاح وشبكات الابتزاز في بغداد.
إذ أشارت الأحداث الأمنية الأخيرة التي شهدتها بغداد إلى قوة هذه العلاقة، وأظهرت حالات ضعف وفساد الأجهزة الأمنية واختراقها من قبل الفصائل المسلحة، إلى جانب تمكُّن الكثير من العناصر التي تعمل ضمن هذه الشبكات من الإفلات من العقاب، سواءً عبر تهريبهم إلى خارج العراق، أو عبر تدخُّل قادة الفصائل المسلحة في عملية الإفراج عنهم.
ولا شك أن غياب المحاسبة الحكومية للميزانيات المالية الكبيرة التي تتمتّع بها الأحزاب النافذة في العراق، جعلها تجدُ في شبكات الابتزاز مدخلًا ماليًّا مهمًّا لدعم نفوذها والفصائل المسلحة المرتبطة بها، وبالإطار الذي مكّن هذه الأحزاب من بناء “اقتصاد موازٍ” لاقتصاد الدولة، وسهّل عليها مواجهة الإجراءات الحكومية التي تهدف لاحتوائها، سواءً الاقتصادية أو المالية أو الإدارية.
إذ تطورت العلاقة التي تربط شبكات الابتزاز ببعض الأحزاب النافذة منذ عام 2003، بحيث تحوّلت من مجرد ظاهرة فردية أو شبكات محدودة، إلى علاقة واسعة النطاق تضمُّ شبكات سياسية وفصائلية وحزبية، وبالإطار الذي جعلَ دور الأجهزة الأمنية محدودًا للغاية في تفكيك هذه الشبكات وأذرعها المعقّدة.
أفرزت ظاهرة التحالف الزبائني التي نشأت بين شبكات الابتزاز والفصائل المسلحة والأحزاب النافذة، تداعيات خطيرة على الواقع الأمني في بغداد، عبر شيوع المظاهر المسلحة وتصاعُد نِسَب اغتيال عناصر أمنية واستخباراتية معنيّة بملاحقة هذه الشبكات في بغداد، فقد أدّى ضعف سيطرة الحكومة العراقية، وهيمنة الفصائل المسلحة، وفساد ورشوة بعض العناصر الأمنية، إلى تسهيل عمل هذه الشبكات، وإن عدم نجاح جهود احتواء هذه الظاهرة جاء ليس بسبب ضعف الإجراءات الحكومية فحسب، وإنما بسبب أن جميع الحكومات السابقة تجنّبت الاصطدام الفعلي معها.
هذا باستثناء الإجراءات الإدارية والأمنية المحدودة التي اعتمدتها حكومة مصطفى الكاظمي في الفترة الماضية، كونها اقتصرت على صغار المبتزّين، وعدم ملاحقة المتورِّطين الرئيسيين فيها، وذلك بفعل شبكة العلاقات الوثيقة التي تمتلكها في الداخل، بحيث أضحت هذه الشبكات محمية من قبل فصائل مسلحة وأحزاب نافذة، ما أدخلَ الشارع العراقي بعدة مشاكل أمنية معقّدة.
تواطُؤ إيراني
ممّا لا شكّ فيه أن إيران لعبت دورًا مهمًّا في تنمية هذه الشبكات، وفرض غطاء أمني عليها، وذلك بحكم ارتباطها بالفصائل المسلحة الموالية لها، ودورها في تخفيف الأعباء المالية عن إيران في دعم وتمويل الفصائل المسلحة، إلى جانب تخفيف ضغط العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، عبر التأثير على سوق العملة وتهريبها إلى إيران.
وجدت إيران في شبكات الابتزاز سلاحًا ذا حدَّين في الداخل العراقي، وتحديدًا بغداد، سواء عبر دورها المالي، أو حتى دورها في إجبار التجّار والمستوردين على التعامُل مع البضائع والمواد الإيرانية الصنع، من أجل قطع الطريق على أي منافسة اقتصادية قد تواجهها إيران في بغداد، حيث تمكّنت إيران عبر هذه الشبكات من السيطرة على الأسواق العراقية، وتحديدًا سوق الشورجة في بغداد، وتكفي الإشارة إلى أن إيران استحوذت على 18.5% من السوق العراقي في مرحلة ما بعد صعود “داعش”، مقارنةً بمرحلة ما قبل “داعش”، حيث فقد كانت النسبة 13% فقط.
وفتح هذا الأمر الباب على مصراعَيه أمام التجّار والشركات والمستثمرين الإيرانيين، عبر الانخراط في مشاريع البنية التحتية في العراق، فمثلًا يستحوذُ مقاولون إيرانيون على النسبة الأكبر من مشروع إنشاء الوحدات السكنية التي تدشّنها بغداد، وبلغ عدد هذه الوحدات السكنية 2 مليون وحدة.
وعبر دور هذه الشبكات أيضًا، أصبحت بغداد أحد أهم المصادر المنشِّطة للاقتصاد الإيراني، والمركز الأهم للاستثمارات الإيرانية التي تشمل قطاعات مختلفة فيه، أبرزها قطاع السيارات والحديد والأجهزة الكهربائية والمنزلية، في وقت تتجنّب فيه شركات دول أخرى الدخول باستثمارات فيها، لعدم توفر الأمن الكافي لممارسة نشاطاتها الاستثمارية.
وتُعتبر خطورة عمل الشركات الأجنبية في بغداد على سبيل المثال، فرصة لإيران لتكون البديل لتلك الدول، ما أدّى إلى دخولها مجمل القطاعات الاقتصادية، وتجدُ الشركات الإيرانية الأبواب أمامها مفتوحة لعقد اتفاقيات مباشرة سعيًا للاستثمار فيها.
توجد في بغداد ومحافظات عراقية أخرى، أبرزها النجف وكربلاء والبصرة، أكثر من 850 شركة إيرانية تابعة للحرس الثوري، وقد سُجِّلت أغلبها بأسماء عراقيين موالين لإيران للتغطية على هويتها الحقيقية
وكان لإيران دور بارز في هروب الشركات الاستثمارية الأجنبية من بغداد، إذ تمارسُ الفصائل المسلحة الموالية لها عمليات ابتزاز اقتصادي على الشركات الأجنبية التي تأتي للعمل في بغداد، فقد أدركت شركات كثيرة كانت تسعى لإنجاز مشاريع في الاتصالات والبنى التحتية، أنها ستجازف بسمعتها في حال وافقت على الدخول إلى الساحة العراقية.
إذ يقول عنصر تابع لأحد الفصائل المسلحة -رفضَ الكشف عن اسمه- إن جميع الشركات الأجنبية التي عملت وتعمل في بغداد “تدفع حصصًا للفصائل المسلحة لأجل استمرار أعمالها في العراق”، كما أن “بعض الشركات الأجنبية التي أنجزت مشاريع في بغداد صارت تربطها علاقات مع شخصيات كبيرة في الفصائل المسلحة، تدفع لها مبلغًا ماليًّا، أو نسبة من الأرباح، مقابل عدم تعرضها لمضايقات من قبل فصائل أخرى”.
وهو ما أكّده عنصر فصائلي آخر بالقول إن “عمليات الابتزاز ليست عشوائية بل مخطَّطًا لها من قبل قيادات الفصائل”، وأن “جميع الشركات الأجنبية تتعرض للابتزاز، ولا تستطيع الحكومة العراقية ردع الفصائل أو شبكات الابتزاز، لأنها تعلم قوتها ومن يقفُ وراءها (في إشارة إلى إيران)”، لافتًا النظر إلى أن “الشركات الإيرانية هي الوحيدة التي لا تتعرّض لمثل هذه الأعمال”.
وفي هذا الإطار، توجد في بغداد ومحافظات عراقية أخرى، أبرزها النجف وكربلاء والبصرة، أكثر من 850 شركة إيرانية تابعة للحرس الثوري، وقد سُجِّلت أغلبها بأسماء عراقيين موالين لإيران للتغطية على هويتها الحقيقية، وكسب الشرعية القانونية، وتعمل بصورة محلية تمامًا.
وأبرز هذه الشركات: “إيسكو” و”سايبا إيران خودرو” و”بارسيان سبز” و”سسكو” و”راهيان سازندگي” و”رشيد” و”تاج” و”طريق الحرير” و”توسعة أنبوب سازي باساركاد” و”بيلدر”، هذا إلى جانب شركات ومؤسسات عراقية تعمل في بغداد وتتبع للحرس الثوري، أبرزها: “الكوثر” و”النخيل” و”الحجة” و”بارسيان الخضراء” و”الرافدين” و”التعاون الإقليمي الإسلامي” و”الوسام” وغيرها.
إجمالًا، ساهمت الظروف الأمنية المعقدة التي مرَّ بها العراق في تعاظُم دور شبكات الابتزاز وانتشارها، وما زاد من خطورة هذه المعضلة أنها أصبحت تحظى بغطاء فصائلي وحزبي، وذلك من أجل الحصول على عوائد مالية كبيرة بأقل الجهود والخسائر، لدعم النفوذ السياسي أولًا، والتغلُّب على الإجراءات الحكومية ثانيًا، وبسبب أطماع شخصية تتعلق بتشكيل وتمويل فصائل جديدة ثالثًا، ولتعويض العجز الإيراني في تمويل عمليات الفصائل الكبرى بسبب العقوبات الأمريكية رابعًا.