ابتداءً من المزرعة ووصولًا إلى مائدة الطعام، يواجه المجتمع الدولي تحديات متنامية في موضوع القضاء على الجوع وسوء التغذية، ورغم أن بعض مناطق العالم غنية أكثر من غيرها من حيث المناخ والتربة والمياه والجغرافيا، إلا أن هناك الكثير من الطعام للجميع.. فلماذا إذًا يشكّل انعدام الأمن الغذائي مشكلة لكثير من الناس في العديد من البلدان؟
ما هو الأمن الغذائي؟
الأمن الغذائي هو مقياس قدرة الفرد على الوصول إلى الغذاء المغذّي والكافي من حيث الكمية، تحدِّد بعض تعريفات الأمن الغذائي أن الطعام يجب أن يلبّي أيضًا تفضيلات الفرد الغذائية واحتياجاته الغذائية لأنماط حياة نشطة وصحية.
ويُعتبر الأمن الغذائي عنصرًا مهمًّا يدخل في كل سياسات الدول الداخلية والخارجية تقريبًا، كون غيابه يمنع الدولة من تحقيق برامجها في التنمية والتصنيع والتطوير التكنولوجي، حيث ما فائدة امتلاك شعب للسلاح والتكنولوجيا بينما يتضوّر جوعًا؟
هناك معايير رئيسية في قياس وصول أي دولة لتحقيق أمنها الغذائي، وهي:
1. تقدير السعرات الحرارية للفرد.
2. دخل وإنفاق الأسرة.
3. قياس المدخول الغذائي للفرد.
4. قياس الطول والوزن وتكوين الجسم للفرد.
5. تقارير عن تجربة الفرد في الأمن الغذائي.
الاكتفاء الذاتي: الطريق إلى الأمن الغذائي
يُعتبر تحقيق الاكتفاء الذاتي في توفير الأغذية الطريق الأقصر لأي بلد من أجل تحقيق أمنه الغذائي، بحيث يضمن استقلاله السياسي والاقتصادي عند الوصول لهذه النقطة، فيتحرّر بذلك معه قراره الاقتصادي والسياسي على حد سواء، وهو المدرسة التي تذهب إليها منظمة الأغذية والزراعة العالمية “الفاو”، باعتباره العنصر الكفيل بتحقيق معايير الأمن الغذائي مجتمعةً.
لكن متى يحقق البلد اكتفاءً ذاتيًّا؟ يمكن احتساب قدرة البلد على تحقيق الاكتفاء الذاتي بمقدار ما يمكن توفيره من أغذية، بغضّ النظر عن الطريقة التي يتمّ توفير الغذاء، سواء من الإنتاج المحلي أو من خلال التجارة.
وفي هذا الصدد، يتمّ احتساب عدد السعرات الحرارية المتوفرة لكل فرد، وليس بارتباط الاكتفاء بسلعة واحدة بعينها، حيث يتمّ قياس هذه المعطيات من خلال نسبة ما يستهلكه الشعب إلى ما توفره الحكومة من أغذية، وهي النسبة التي تُسمّى “نسبة الاكتفاء الذاتي”.
أدوات الاكتفاء الذاتي
أولًا: الإنتاج الزراعي
هناك علاقة متبادلة مهمة بين الزراعة والأمن الغذائي، حيث يشمل القطاع الزراعي الأراضي الزراعية التي يتمّ زراعتها بالغلّات والحبوب الأساسية، مثل الحنطة والشعير والرزّ إضافة إلى الخضروات والفواكه، فضلًا عن قطاعات تربية المواشي والدواجن وإنتاج البيض وغيرها من قطاعات التربية الحيوانية، تلحق بها كافة المصانع والمرافق التي تحوّل المواد الخام إلى منتجات غذائية جاهزة للمستهلك في الأسواق، ويدخل في ذلك أيضًا جزء من قطاعات نقل هذه المواد من مرافق الإنتاج والحقول وصولًا إلى الأسواق.
يمكن القول إن الحالة المثالية هي أن يكون القطاع الزراعي قادرًا على تلبية جميع المتطلبات الداخلية وتوفير فائض لتصديره وتوفير العملة الصعبة، لكن الحقيقة تكمن في أن القطاع الزراعي محكوم بعوامل تجعل سياسة كل دولة متكيّفة معه لا العكس.
هناك عدة عوامل تحدد الغلّات التي يتمّ زراعتها في كل دولة: صلاحية التربة والخصوبة، درجات الحرارة، توفُّر المياه، نسبة الاستهلاك المحلي من أي سلعة، توفُّر اليد العاملة والسياسات المحلية الداعمة للزراعة.
يشير تقرير للأمم المتحدة أن هناك 66 دولة حول العالم غير قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من قطاعها الزراعي، بسبب القيود الطبيعية أو الموقع الجغرافي أو مشكلة الموارد المائية، وتُعتبر السعودية مثالًا صارخًا عن كيفية تحكم الموارد الطبيعية بالقطاع الزراعي والأمن الغذائي.
فبعد عقود من مشاريع الاكتفاء الذاتي لزراعة المحاصيل الرئيسية، وجدت الحكومة أنها بدأت تستنفد المياه الجوفية الثمينة التي يصعب تجديدها، وهكذا عمدت الاستثمار الزراعي في الخارج، من خلال شراء أراضٍ زراعية في أمريكا وإثيوبيا وأوروبا، واستغلال منتجاتها لاستيرادها إلى المملكة من جديد.
هناك دول أخرى تعاني من تراجع اليد العاملة في الزراعة بسبب التوجُّه نحو المدن الصناعية للحصول على فرص عمل أفضل مثل سويسرا، حيث وفقًا للمركز السويسري للدراسات انخفض عدد المزارعين السويسريين إلى ما يزيد قليلًا عن 55 ألفًا و200 مزارع بعد أن كان 125 ألفًا و300 مزارع قبل 40 عامًا.
تراجعَ إجمالي اليد العاملة في المجال الزراعي وفقًا للمكتب الفدرالي للإحصاء ليستقرَّ في حدود 159 ألف عامل، كما تراجعت الأراضي الزراعية لتصل إلى مساحة تقارب 1.05 مليون هكتار، أي نحو 14% من الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد فقط.
هناك حالات أخرى أكثر تطرُّفًا في انخفاض الإنتاج الزراعي قياسًا بالاستهلاك المحلي، حيث تضطر معظم الدول الأفريقية النامية استيراد حاجتها من الغذاء من الدول الأوروبية المنتجة -تحديدًا روسيا وأوكرانيا-.
ومنذ الستينيات ازدادت الحاجة في أفريقيا لمزيد من الأغذية بسبب التحولات الديموغرافية، وازدياد الصراعات والحروب، وازدياد نسب السكان، والسياسات المحلية الفاشلة في استغلال الأراضي الزراعية المتاحة.
ليست الدول الأفريقية فحسب من يستورد الغذاء بالطبع، فكل الدول الأخرى، حتى المنتجة منها للغذاء، تستورد حاجتها المتبقية من الغذاء للوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق معايير الأمن الغذائي، فما هو دور الاستيراد والتصدير في هذا المجال؟
ثانيًا: التجارة والقوانين والأمن الغذائي
بحسب تصنيف الأمم المتحدة لحساب الاكتفاء الذاتي بناءً على السعرات الحرارية المنتجة، يقع 62% من بلدان العالم ضمن الدول التي تحقق اكتفاءً ذاتيًّا بنسبة تفوق الـ 90%، مع ذلك لا يزال هناك الكثير من البلدان ذات النسب المنخفضة، وحتى تلك البلدان ذات النسب المرتفعة لا تزال بحاجة استيراد العديد من المواد الأخرى لسدّ النقص.
هنا تبرز أهمية التجارة الدولية الإقليمية في الوصول للاكتفاء الذاتي بين البلدان، ويظهر عندها عاملان مهمّان في تحقيق هذا الهدف: قوانين التجارة الدولية والمحلية، والسياسات الاقتصادية للبلدان.
منذ عام 1996 ساهمت قوانين التجارة العالمية في تحقيق زيادة بنسبة 270% في التجارة العالمية في المنتجات الغذائية والزراعية، ولا يخلو النظام التجاري العالمي من المشاكل، كما أن بعض البلدان لا تلتزم دائمًا بالقواعد والقوانين.
وعلاوة على ذلك، هناك ثغرات هامة فيما يتعلق بضبط قيود التصدير، فضلًا عن العوائق التجارية، ففي عام 2017 بلغت قيمة العوائق التجارية 330 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، بالتالي ما أدّى إلى تفاقم هذه المشكلة.
ساعد توسع التجارة العالمية، على الأقل جزئيًّا، على نقل الغذاء من مكان إنتاجه إلى حيث هو مطلوب، ولكن كان لهذا أيضًا جوانب سلبية، وهنا تلعب السياسات المحلية دورًا في عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي.
فقد دفعت تسهيلات قوانين التجارة العالمية العديد من البلدان النامية إلى تغيير كبير في قوانين الاستيراد والتصدير المحلية، كي تزيد تخصّصها في المحاصيل التصديرية على حساب الأغذية الأساسية للاستهلاك المحلي، وأحيانًا دفعَ فشل السياسات الزراعية والتنمية إلى تسهيلات لصالح المنتجات المستوردة -التي تحتاجها البلدان بشدّة-، ما جعلها مستورِدة صافية للغذاء رغم نقاط الضعف التي ينطوي عليها ذلك.
في أفريقيا على سبيل المثال، 90% من واردات القمح في شرق أفريقيا تعتمد على السوق الأوكرانية، والحرب الحالية جعلت ثمن هذه الحبوب في دول تلك المنطقة يتضاعف، ما يجعل الملايين من الناس غير قادرين على توفير الغذاء الضروري.
في بلدان أخرى مثل العراق، تسبّبت السياسات الداخلية الفاشلة في ضرر كبير على القطاع الزراعي لصالح الاستيراد، ورغم أن العراق يوفر في النهاية ما يحتاجه المستهلك، إلا أن الطريقة التي يتزوّد بها بالطعام يجعله معتمدًا بشكل كبير على دول الجوار بسبب التسهيلات الجمركية التي يقدّمها للحصول على المواد الغذائية.
في الوقت نفسه تغيب القوانين التي تشجّع على تنمية القطاع الزراعي، ويغيب معها تشريع قوانين خاصة بالاستيراد والتصدير بما يتلائم مع مصلحة الفلاحين، كما هو حاصل مع قانون الحاصلات الزراعية الأمريكي، الذي يضع قيودًا على بعض المحاصيل -بيعًا وشراءً- لحماية المنتج الداخلي، الأساسي في عملية الاكتفاء الذاتي.
كمحصلة نهائية، يزيد الانكشاف المفرط والاعتماد على الإمدادات الأجنبية في بعض البلدان من المخاطر وتقلب الأسعار، الأمر الذي يضرّ بدوره بالأمن الغذائي في العديد من البلدان في مناطق أخرى من العالم حتى المنتجة منها، إذ سيدفع نحو التركيز على التصدير في البلدان المنتجة، وينشأ نتيجة هذا استقطاب غذائي بتركيز إنتاج محاصيل معيّنة بنسب أعلى ممّا يمكن اعتباره حدًّا طبيعيًّا لتوزيع الإنتاج، ما يترتب عنه عواقب سياسية واقتصادية وإنسانية وخيمة.
ثالثًا: وحدات التخزين.. الصوامع والمخازن
يتمّ إنتاج أكثر من مليارَي طن من الحبوب سنويًّا على مستوى العالم، ثم يتمّ تخزينها خلال مراحل مختلفة من سلسلة توزيعها في وحدات محددة، مثل الأكياس والصوامع والمستودعات والحاويات وحتى في أكوام على الأرض.
لا تتوفر تقديرات دقيقة لخسائر ما بعد الحصاد من الحبوب، ولكنها يمكن أن تختلف من 1 إلى 2% في البلدان المتقدمة، حيث يتمّ تخزين الحبوب في مرافق تدار بشكل جيد، إلى 20-50% في البلدان الأقل تقدمًا، مع سوء إدارة أنظمة التخزين.
تعتبر عملية التخزين أحد العوامل المركّبة في خسارة الأغذية المنتجة، ما يؤثر على القدرة الحقيقية للاستهلاك، وتظهر المشكلة بشكل أكبر في الدول النامية حيث تنقسم لقسمَين: عدم امتلاك أنظمة تخزين جيدة بما يحفظ المحاصيل بعد حصادها، والتركيز أكثر على تنمية قطاع الإنتاج وإهمال قطاع التخزين، ما يسفر عنه هدر كبير للنفقات دون تحقيق نتائج.. كيف؟
لنقُل إن دولةً ما تنتج 50 مليون طن من الحبوب تخسر منها 50% بسبب سوء التخزين، تاركةً 25 مليون طن فقط للاستهلاك؛ الآن من خلال تطوير الصنف وممارسات الزراعة المكثفة، لنفترض أن هذا البلد يضاعف إنتاجه إلى 100 مليون طن، لكنه لا يزال يخسر نصفه ويوفر 50 مليون طن فقط للاستهلاك.
بالنظر إلى البلد نفسه، لو أنفقَ موارده على الحفاظ على الحبوب المنتجة بحيث يفقد 2% فقط منها، كان يمكن توفير حوالي 48 مليون طن من أصل 50 مليون طن، حيث يستلزم هذا النهج زيادة الإنتاج بمقدار 2 مليون طن فقط، لأن الحبوب المحفوظة تساوي الحبوب المنتجة.
يؤدي هذا النهج من التعامل إلى مزيد من الإنفاق على استيراد الحبوب الأخرى من الخارج، ما يعني سحب الكثير من الموارد من قطاعات أخرى ضمنها الزراعة وتوجيهها نحو شراء الأغذية، بينما تكمن الحلول في امتلاك أنظمة تخزين متقدمة توفّر لها إمكانات إضافية، خاصة في حالة كون البلد مطلًّا على عُقد المواصلات أو الموانئ، بحيث يتحول إلى محطة ثانية للتصدير، ويضمن أولوية الحصول على السلع الأساسية.
أسباب الفشل في تحقيق الأمن الغذائي
هناك عدة عوامل تتسبّب في فشل أي بلد في تحقيق أمنه الغذائي، يأتي على رأسها الفشل السياسي في وضع رؤية ناجحة للوصول إلى توازن كافٍ يحقق نسبة عالية من توفير الأغذية وفق المعايير العالمية المذكورة أعلاه.
تختلفُ أسباب هذا الفشل ما بين عدم الاستقرار السياسي والحروب الأهلية والنزاعات التي تضعف معها سلطات الدولة، وتغيب معها الإرادة السياسية والرؤية لإدارة ملف حيوي بهذه الأهمية، وعند الحديث عن بلد مثل السودان مثلًا، أدّت التقلبات السياسية إلى أزمة حقيقة في بلد كان يُعتبر سلة الغذاء العربي.
فالسودان يملك ما يزيد عن 175 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة، وأكثر من 100 مليون رأس من الماشية، كذلك يضمّ 52 مليون فدان من المساحات الصالحة للرعي، وأكثر من 400 مليار متر مكعب كمعدّل هطول الأمطار سنويًّا.
لكن تقريرًا لبرنامج الغذاء العالمي في السودان يكشف عن وجود 1.2 مليون طفل سوداني في سنّ المدارس الابتدائية، يعانون من انعدام الأمن الغذائي في التغذية المدرسية، كما تكشف دراسات سودانية رسمية أن 20% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة يتمّ زراعتها، من أصل 57% صالحة للزراعة من مساحة السودان.
ليست السياسة وحدها من تلعب هذا الدور، التغييرات المناخية والجفاف أو انعدام الموارد أيضًا، حيث قد تعاني بعض الدول من موقع جغرافي سيّئ فتشهد قلّة في الأمطار أو انعدامًا للأراضي الصالحة للزراعة، فتكون بذلك عرضة للاعتماد على توفير احتياجاتها من الغلّات عن طريق التجارة، ما يستدعي استنزافًا للعملة الصعبة، ووضع سياسة البلاد رهنًا بيد الدول المصدرة للغذاء.
بالمحصلة النهائية، يلعب الأمن الغذائي عاملًا رئيسيًّا في استقرار البلاد سياسيًّا واجتماعيًّا، حيث تشير إحدى الدراسات إلى أن انعدام الأمن الغذائي في سوريا كان أحد الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورة هناك، عقب سياسات حكومية فاشلة في إدارة الموارد المائية والأراضي الصالحة للزراعة شمال وشمال شرق البلاد.
وتشير دراسات أخرى إلى أن قلة الغذاء في المستقبل القريب -نتيجة التغير المناخي- قد تُحدث تغييرات ديموغرافية كبيرة، بعدما يضطر الملايين من سكان جنوب الكرة الأرضية للهجرة إلى شمالها بحثًا عن الطعام والمؤن، وهو ما سيُحدث دويًّا هائلًا وتأثيرًا على ملفات كثيرة، ليس أولها الاقتصاد وليس آخرها تحديات الأمن ومكافحة الجريمة.