تسود حالة من التفاؤل داخل الأوساط المعنية بسوق الغذاء العالمي إثر كشف ملامح المبادرة التركية لحل أزمة القمح الأوكراني من خلال إخراج السفن الأوكرانية المحملة بالحبوب من ميناء مدينة أوديسا على البحر الأسود، وتصديرها إلى المناطق الأكثر تأثرًا بالأزمة، حسبما كشفت صحيفة The Guardian البريطانية.
وكان وزير الدفاع الأوكراني السابق، أندريه زاغورودنيوك، قد اقترح أن ترسل تركيا وبريطانيا سفنًا لفرض حرية الملاحة البحرية في شمال غرب البحر الأسود، على شاكلة “مناطق حظر الطيران العسكري”، في محاولة لفك هذا الحظر الذي فرضته الحرب من جانب، وتصدير الحبوب الأوكرانية للعالم من جانب آخر.
المبادرة التركية رغم أنها لم تزل في إطار الطرح والنقاش، يتوقع أن تكون على جدول أعمال وزيري الخارجية والدفاع الروسيين، سيرغي لافروف وسيرغي شويغو، خلال زيارتهما لأنقرة أمس واليوم، كخطوة أولية نحو تقليل تداعيات الحرب قدر الإمكان بعد تصاعد التحذيرات الدولية من مخاطر الجوع التي تتعرض لها بعض الشعوب بسبب وقف الإمدادات الغذائية الروسية الأوكرانية التي تشكل أكثر من ثلث احتياجات العالم من السلع الغذائية الإستراتيجية (القمح والذرة).
مبادرة إيجابية
المبادرة تتمحور بحسب وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، حول الضغط لإعادة فتح الموانئ الخاضعة للحصار الروسي في البحر الأسود، من أجل تسهيل نقل القمح والحبوب من أوكرانيا إلى جميع أنحاء العالم عبر ممر آمن للسفن، ويشير الوزير إلى أن حكومة بلاده أحرزت تقدمًا مع الأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا في هذا المسار.
فيما أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أنه سيبحث مع الجانب الروسي تأمين الجانبين لأمن الممر المخطط فتحه لسفن الشحن، لتصدير المنتجات الروسية والأوكرانية، وأن بلاده تبذل قصارى جهدها للانتهاء من تلك المهمة حال الموافقة عليها رسميًا في أسرع وقت قبل تفاقم الأزمة الغذائية.
المبادرة لاقت ترحيبًا دوليًا كبيرًا، سواء من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، كما جاء على لسان المتحدث باسمه، ستيفان دوجاريك، أم من قادة الدول الأوروبية وفي المقدمة منهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ثمن الدور الذي تلعبه تركيا في تصدير الحبوب من أوكرانيا.
وكانت الألغام الموجودة في المياه الأوكرانية (التي وضعتها الحكومة الأوكرانية لمنع عبور السفن الروسية) أبرز التحفظات التي ساقها الجانب الروسي لإتمام المبادرة، إلا أن كييف وافقت على إزالتها مبدأيًا بعد عرض تركيا المساعدة في إزالتها، لكنها في الوقت ذاته أبدت قلقها من استهداف تلك الموانئ من الروس حال تطهيرها من الألغام.
فقدان الثقة.. أبرز التحديات
رغم ما تحمله المبادرة من نقاط إيجابية كثيرة، وما لاقته من ترحيب دولي وموافقة أولية من طرفي النزاع، هناك فقدان ثقة بين جميع الأضلاع تهدد التقدم المحرز في مسار تنفيذها، البداية كانت مع السجال الدائر بين أوروبا وروسيا بشأن المسؤولية عن تفاقم الأزمة الغذائية.
ففي الوقت الذي اتهم فيه رئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميشيل، (في اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك 6/6/2022) روسيا باستخدام الإمدادات الغذائية كـ”صاروخ خفي ضد الدول النامية”، وأنها سرقت حبوبًا من الأراضي الأوكرانية، واصفا هذا السلوك بـ”الجبان” و”الدعاية النقية والبسيطة”، ما دفع السفير الروسي لدى الأمم المتحدة ، فاسيلي نيبينزيا، إلى الانسحاب من الاجتماع، تؤكد موسكو أنها ليست سببًا في الأزمة وليس لديها مانع من تصدير الحبوب الأوكرانية للخارج.
روسيا: لا نرفض عبور السفن المحملة بالقمح الأوكراني لكن شريطة أن يتم فحصها أولًا قبل المرور للتأكد من أنها لا تحمل أي أسلحة
الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنيسكي، عبر عن مخاوفه هو الآخر من المبادرة التركية رغم دعمه لها، ففي مقابلة له مع صحيفة فاينانشيال تايمز، أكد أنه سيحتاج إلى تأكيدات بأن السفن الروسية لن يُسمح لها باستخدام الممرات الآمنة الخاصة بشحنات القمح، بجانب تأكيدات عدم الاستهداف بعد إزالة الألغام من المياه الأوكرانية.
وعلى الجانب الروسي، وضع الكرملين شروطًا خاصة للموافقة على المبادرة التركية، بحسب تصريحات المتحدث باسمه، دميتري بيسكوف، الذي قال خلال لقاء عقده مع الصحفيين أمس الثلاثاء 7 يونيو/حزيران 2022 إن بلاده لا ترفض عبور السفن المحملة بالقمح الأوكراني لكن شريطة أن يتم فحصها أولًا قبل المرور للتأكد من أنها لا تحمل أي أسلحة، وسيكون المرور تحت الحراسة الروسية بدءًا من دخول الموانئ مرورًا بتحميل الحبوب ثم الذهاب إلى المياه الدولية، فيما أكد وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، أن موانئ بيرديانسك وماريوبول الخاضعة للسيطرة الروسية بدأت استئناف عملها فعليًا بعد إزالة جزء كبير من الألغام، وأنها استقبلت سفن الشحن الأولى.
القمح الأوكراني قيد الاعتقال
بحسب الغارديان فإن التقديرات تذهب إلى أن هناك أكثر من 20 مليون طن من الحبوب عالقة في صوامع أوكرانيا حول أوديسا بسبب حصار السفن الروسية للميناء، مع الوضع في الاعتبار أن نحو 98% من إمدادات الحبوب التي تصدرها كييف تتدفق من تلك الموانئ.
وفي السياق ذاته كشف النائب الأول لوزير السياسة الزراعية والغذاء في أوكرانيا، تاراس فيسوتسكي، أن بلاده فقدت بسبب الحرب ثلثي قدرتها على التصدير، إذ لم تعد قادرة حاليًّا إلا على تصدير مليوني طن من الحبوب كحد أقصى شهريًا فقط، مقارنة بـ6 ملايين طن قبل فبراير/شباط الماضي.
وتواجه أوكرانيا معضلة أخرى تتعلق بتكدس الحبوب في المخازن منذ بداية الحرب بعدما وقفت عمليات التصدير، كما أن المزارعين خلال الأشهر المقبلة سيبدأون في حصد المحاصيل الجديدة، ويتوقع أن تنتج البلاد نحو 30 مليون طن من القمح والذرة هذا العام، ما سيؤدي إلى زيادة كميات الحبوب المخزنة، الأمر الذي يدفع نحو البحث عن مصادر عاجلة لتصديرها للخارج.
وبعد حصار القوات الروسية للموانئ، لم يعد هناك إلا الطرق البرية لتصدير تلك الكميات، غير أن الطرق هناك تعاني من تراجع واضح في مستوى بنيتها التحتية، هذا بخلاف ما تسببت فيه الهجمات الروسية من تدمير معظمها، الأمر الذي يحتاج إلى وقت طويل لإعادة تأهيلها وهي المغامرة التي ربما لا يكتب لها النجاح في ظل استمرار الحرب.
هل هناك طرق بديلة؟
المأزق الذي فرضه خضوع الموانئ الأوكرانية لقبضة الروس دفع البعض إلى البحث عن طرق بديلة حال تعثرت المبادرة التركية التي تعتمد في الأساس على تلك الموانئ، وهناك بعض النوافذ والمسارات التي يمكن نقل الحبوب الأوكرانية من خلالها، استعرض “عربي بوست” في تقرير مطول له أبرز 3 منها.
المسار الأول يتعلق بميناء “كونستانتا” الروماني، وهو أحد الموانئ المطلة على البحر الأسود ناحية رومانيا المجاورة لأوكرانيا، وتبلغ كمية الحبوب المنقولة عبر هذا الميناء 27 مليون طن متري سنويًا، لكن هناك مشكلة تواجه الاستعانة به تتعلق بازدحامه معظم أوقات العام هذا بجانب المسافة الطويلة التي يستلزم قطعها من مخازن الحبوب في أوكرانيا وصولًا إليه، التي ربما تكون عرضة للاستهداف الروسي.
أما المسار الثاني فيتمثل في السكك الحديدية، إذ عرضت كل من بولندا وليتوانيا موانئها لنقل الحبوب الأوكرانية من خلال شحنها عبر السكك الحديدية من المخازن الأوكرانية لتصل إلى موانئ البلطيق في هاتين الدولتين، لكن المعضلة هنا تتمثل في اختلاف مقاييس ومعايير اتساع القضبان الحديدية والمسافة بينهما بين ليتوانيا وروسيا ودول السوفييت القديمة من جانب ودول أوروبا من جانب آخر، فالأول يستخدم مقياسًا أوسع نسبيًا من الثاني، ما يعني ضرورة تغيير الهياكل السفلية لعربات السكك أو تغيير القضبان نفسها، وهو أمر شاق ومكلف ويحتاج إلى وقت.
تحبس الدول التي تعاني من أزمات غذائية طاحنة جراء تلك الحرب، وعلى رأسها إفريقيا، أنفاسها ترقبًا لنجاح المبادرة التركية وإطلاق سراح القمح الأوكراني، إذ تنظر إليها على أنها “قشة” الإنقاذ في مواجهة الجوع
فيما يأتي المسار الثالث عبر بيلاروسيا، حيث تنقل الحبوب من أوكرانيا إلى بحر البلطيق بدلًا من البحر الأسود، وهناك ميزة ترجح هذا الطريق كون مقياس قضبان قطارات بيلاروسيا يتطابق مع المقياس الأوكراني، حسبما نقل موقع euractiv عن مصادر دبلوماسية.
لكن الأزمة هنا تقع في فرض الغرب عقوبات على بيلاروسيا بوصفها الحليف المقرب لموسكو، وكان الرئيس الروسي قد اقترح قبل فترة أن أفضل حل لإعادة شحن القمح الأوكراني للعالم هو رفع العقوبات عن حليفه الذي يعد الطريق الأقصر والأسهل لعبور الشحنات مقارنة بالطرق البديلة الأخرى.
سوق الغذاء يتنفس الصعداء
المحاولات التركية لتمرير مبادرتها والموافقة الأولية الروسية الأوكرانية رغم فقدان الثقة والتحديات التي تواجه مسار نقل القمح الأوكراني للخارج أحدث حالة من الارتياح لدى الجميع، إذ تنفس سوق الغذاء العالمي الصعداء بعد توتر دام لأكثر من 3 أشهر من فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم، بسحب الخبير الاقتصادي المصري، مصطفى عبد السلام.
ويعتبر الخبير الاقتصادي في مقال له أن المؤشرات الراهنة والتصريحات الإيجابية لأطراف الأزمة تعكس حالة إيجابية رغم كل تلك التحديات، منوهًا أن روسيا رغم رفعها أسعار توريد القمح 15 دولارًا لتصل إلى 425 دولارًا للطن، بسبب زيادة الإقبال عليه، “لكن إمدادات الغذاء النشطة من موانئ روسيا المطلة على البحر الأسود هي بمثابة خبر سار لأسواق الأغذية في العالم”.
وعلى المستوى العربي فهناك أخبار إيجابية كذلك في مسار الأمن الغذائي من القمح، ففي مصر نجحت الحكومة في توريد 3.6 ملايين طن من القمح المحلي منذ بداية موسم الحصاد، بما يكفيها لنحو ستة أشهر على الأقل، فضلًا عن بدء استيراد أولى شحنات القمح الهندي.
وفي تونس انطلق موسم الحصاد وسط توقعات بأن يتجاوز الإنتاج هذا العام 1.9 مليون طن مقارنة بنحو 1.6 مليون طن الموسم الماضي، وفي الجزائر كذلك حيث انطلق الحصاد وسط تفاؤل الفلاحين بأن يكون أكثر إنتاجية عن العام الماضي، بسبب ارتفاع المساحات المسقية بالأمطار الغزيرة.
غير أن تلك الأجواء لا يمكنها أن تستمر دون العمل على تعزيزها بتأمين الاحتياجات لأطول فترة ممكنة تحسبًا لأي تطورات ميدانية على صعيد الحرب يطيل أمدها، في ظل تراجع المخزون العالمي من الحبوب، واستمرار تداعيات الغزو على الإمدادات الروسية الأوكرانية، فضلًا عن تفاقم أزمة الجفاف لدى أباطرة الدول المنتجة للقمح وعلى رأسها الهند والولايات المتحدة.
وفي الأخير.. تحبس الدول التي تعاني من أزمات غذائية طاحنة جراء تلك الحرب، وعلى رأسها إفريقيا، أنفاسها ترقبًا لنجاح المبادرة التركية وإطلاق سراح القمح الأوكراني، إذ تنظر إليها على أنها “قشة” الإنقاذ في مواجهة الجوع، كما أشارت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، التي ربطت بين تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على القمح ومؤشر الجوع العالمي، قائلة: “الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا”.