نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، عجزت الأطراف الليبية عن إنجاز الانتخابات المبرمجة حينها لأسباب كثيرة منها تعنُّت مجلس النواب الذي أقر قوانين تنظِّم الانتخابات دون الرجوع للمجلس الأعلى للدولة وسمح بترشُّح مرشحين مطلوبين للعدالة، ومنها عجز حكومة الدبيبة عن الإيفاء ببعض التزاماتها في هذا الخصوص.
عقب ذلك اختار البرلمان المنعقد في طبرق وزير الداخلية في حكومة فايز السراج، فتحي باشاغا، رئيسًا جديدًا للحكومة، في صفقة بين حفتر وباشاغا وعقيلة صالح لإبعاد الدبيبة عن الحكم، الأمر الذي رفضه رئيس حكومة الوحدة الوطنية، مصرًا على عدم تسليم السلطة إلا لحكومة تأتي وفق برلمان جديد منتخب.
هذا الانسداد السياسي، دفع البعثة الأممية إلى طرح مبادرة لفتح مسار جديد وإنقاذ المسار السياسي من الانهيار، وجدت تفاعلًا كبيرًا من العديد من القوى في الداخل والخارج، إلا أن مجلس النواب اختار تجاهلها رغم الضغط الدولي والتلويح بعصا العقوبات وهو ما أسقط المبادرة.
بعد ذلك سجلت ليبيا بعض المحاولات من باشاغا لدخول العاصمة طرابلس بالقوة إلا أنه عجز عن ذلك، وفي آخر مرة خرج بعد تدخل “اللواء 444 قتال” لمنع انجرار العاصمة في الحرب والدماء.
ركود سياسي
بعد هذه التطورات المتسارعة عرفت ليبيا ركودًا سياسيًا، إذ لم تحقق أي تقدم من الناحية السياسية، فكل رئيس حكومة بقي في منطقته، فقد اختار باشاغا مدينة سرت الساحلية لقيادة حكومته، فيما بقي الدبيبة في طرابلس.
حتى البعثة الأممية لم يعد يُسمع لها صوت، وإن كان فصوت خافت، في ظل الصراع الروسي الأمريكي الذي ازداد حدة في الأشهر الأخيرة، إذ تتمسك واشنطن باستمرار الأمريكية ستيفاني وليامز في قيادة البعثة الأممية، فيما تسعى موسكو لتغييرها وتعيين مبعوث إفريقي، متماهية في ذلك مع مطالب الاتحاد الإفريقي في هذا الخصوص، كما تحظى بتأييد الصين التي تملك مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن.
يعمل مختلف الفاعلين السياسيين على المحافظة على القدر الأدنى من النفوذ والمواءمة بين تقسيم الدوائر السياسية ومناطق وجود الثروات
في ظل هذا الانسداد السياسي لا يُعرف إلى الآن موعد إجراء الانتخابات وهل ستُجرى أصلًا أم لا ولا تُعرف القوانين التي ستجري على ضوئها، فكل طرف له تصوره للمرحلة المقبلة بين من يدعو للانتخابات وفق قاعدة دستورية جديدة ومن يدعو إلى مرحلة انتقالية جديدة ولا بوادر اتفاق بينهم.
يظهر الانسداد السياسي أيضًا في تواصل الصراع داخل الوزارات والمؤسسات السيادية على غرار البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وعدم القدرة على توحيد هذه المؤسسات إلى الآن رغم ضرورة الإسراع في ذلك.
لا تتوقف مؤشرات الانسداد السياسي هنا، فمنذ فترة لم يجلس الفرقاء الليبيون على طاولة الحوار، فكل طرف منكفئ على نفسه لا يسعى للتوافق مع الآخر وإيجاد حل للأزمات التي تشهدها البلاد منذ فترة نتيجة الانقسام الحاد الذي تعرفه.
اخر معاقل الثورة اهم من دبيبة وباشاغا
يلي ضياع الدوله وتشتيتها من وراهمرساله لكل من يقولون انهم مع الثورة احمو مؤسسات العاصمه#طرابلس بخطر لا مصراته لا غيرها من باقي المدن
مؤسسات الدولة لو يسقطو بيد باشاغا او حفتر ضاعت #ليبيا وضاعت الثوره
ورجعنا لحكم العسكر ?#فريق_مجاهدون— Omar Al-Mukhtar’s granddaughter???? (@OmarAlMakhtar86) May 24, 2022
كما عجز مجلس الدولة، أول أمس الإثنين، للمرة الخامس خلال شهرين عن عقد اجتماع بسبب استمرار مقاطعة الداعمين للحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، لجلسات المجلس، اعتراضًا على ما يقولون إنه تراجع من رئاسته عن دعمها للتوافق بين مجلسي الدولة والنواب بطبرق (شرق) الناتج عن مخرجات لجنة خريطة الطريق المشتركة.
تسليم بالأمر الواقع
انطلاقًا من هذه التطورات، يبدو أن الأطراف الليبية المتنازعة سلّمت بالأمر الواقع إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، فباشاغا اختار العمل من مدينة سرت، وخصص أول اجتماع لحكومته “لمناقشة تهيئة عدد من المقار الإدارية اللازمة لضمان عمل باقي الوزارات والمؤسسات الحكومية بالشكل الأمثل”.
أما الدبيبة فيواصل عمله على رأس الحكومة من طرابلس، ويواصل مشاوراته لإقرار إنجاز انتخابات تشريعية في أقرب وقت، كما يعمل على التقرب من جهات عديدة لضمان تواصل دعمها له في صراعه على السلطة مع باقي الأطراف.
من جهته يواصل المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي – سفير طرابلس في اليونان سابقًا – اجتماعاته الصورية التي لم يُسمع عنها أي نتيجة تذكر منذ فبراير/شباط 2021، وهو ما أفقد المجلس أهميته ودوره في حل الأزمة الليبية المتفاقمة.
يأمل الليبيون في انفراج سريع ووضع حد للجمود السياسي الحاصل، فهو لبّ الأزمة وبانفراجه تنفرج باقي الأزمات
بدوره يسعى كل من حفتر وعقيلة صالح، للحفاظ على نفوذهما في شرق البلاد وبعض من جنوبها، بعد أن تيقنا صعوبة الوصول إلى غرب البلاد بعد فشل حليفهما باشاغا في دخول العاصمة بقوة السلاح في شهر مايو/أيار الماضي.
وبخصوص خالد المشري الذي يرأس مجلس الدولة، فهو يعمل أيضًا على الحفاظ على منصبه في المجلس ونفوذه في غرب البلاد بعد أن تداعى قليلًا عقب تأكيد انفتاحه ونيته التحالف مع باشاغا وصالح وحفتر لإبعاد الدبيبة عن الحكم.
يظهر هذا الأمر، أن مختلف الفاعلين السياسيين في ليبيا يعملون على المحافظة على القدر الأدنى من النفوذ والمواءمة بين تقسيم الدوائر السياسية ومناطق وجود الثروات الباطنية للاستفادة منها قدر المستطاع قبل أن يمسك بالبلاد برلمان وحكومة منتخبان مباشرة من الشعب.
تأخر الوصول لحل
التسليم بالأمر الواقع من شأنه أن يبعد ليبيا لفترة عن الحرب والاقتتال الداخلي، فكل طرف لا يريد التهور والمخاطرة بخسارة نفوذه وامتيازاته في ظل توازن موازين القوى بين مختلف الأطراف المتدخلة في الأزمة الليبية.
يعلم كل طرف أن الإقدام على استعمال السلاح في هذه الفترة إعلان مباشر عن نهاية مساره السياسي، فحتى الجماعات المسلحة المنتشرة في كل مكان ترفض خوض حرب جديدة في هذا الوضع الراهن، خاصة أن ليبيا لا تحتمل حربًا أخرى.
صحيح أن التسليم بالأمر الواقع يبعد شبح الاقتتال عن الليبيين، لكنه يؤخر الوصول إلى حل أيضًا، إذ لا توجد اجتماعات ولا لقاءات بين مختلف الأطراف، فكل طرف منكفئ على نفسه ولا يريد الجلوس مع الآخر حتى لا يضطر لتقديم تنازلات تفقده بعض الامتيازات.
شركة الكهرباء تطالب المواطنين بتجنب استخدام سخان الاستحمام الكهربائي لرفع العبء عن الشبكة..
هنا يبرز سؤال مهم .. أين ملايين ومليارات الدولارات التي تأتي من عوائد النفط لتحسين الواقع الكهربائي؟ في جيب #الدبيبة أم #باشاغا؟#ليبيا— muna (@muna_munamu) June 8, 2022
هذا الوضع، يوحي بأن احتمالات إجراء انتخابات نزيهة وسلمية في الفترة المقبل تتضاءل شيئًا فشيئًا، فالانتخابات لن تخدم أي طرف موجود في السلطة الآن، فأغلب الليبيين سئموا وجود هؤلاء الساسة على رأس الدولة.
ويأمل الليبيون في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في أقرب وقت ممكن لاختيار ممثليهم في الدولة، للقطع مع الانقسام الحاصل في بلادهم والوصول إلى سلام دائم، فالذهاب مباشرة إلى الشعب لانتخاب رئيس يمثّل الليبيين وبرلمان جديد، من شأنه تجاوز جميع التناقضات القانونية وبناء هيكل مؤسَّسي واحد يمكن أن تتعامل معه الجهات الفاعلة الإقليمية والمجتمع الدولي.
يتنزل الانسداد السياسي الحاصل في ليبيا في مصلحة الفرقاء السياسيين، فكل طرف محافظ على امتيازاته إلا أنه ليس من مصلحة الليبيين في شيء بقاء الوضع على ما هو عليه، فالوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي يزداد تأزمًا يومًا بعد يوم ومشاكل الليبيين تزداد سوءًا.
رغم كل ذلك، يأمل الليبيون في انفراج سريع ووضع حد للجمود السياسي الحاصل فهو لبّ الأزمة وبانفراجه تنفرج باقي الأزمات، وهذا الأمر لن يكون إلا بالحوار وتغليب المصلحة العليا للبلاد بعيدًا عن المصالح الشخصية الضيقة ومصالح الدول والأطراف الأجنبية التي لا تريد خيرًا لليبيا.