ترجمة وتحرير: نون بوست
قد تزيد الجدالات والمخاوف الناشئة عن وجود اللاجئين السوريين من خطر العنصرية، لذا؛ فإن دراسات التكيف مهمة، وبالنظر إلى معدلات العودة وإعادة التوطين في العالم والوضع في سوريا، يبدو أنه من الممكن لفئةٍ قليلةٍ جدًّا فقط من السوريين الموجودين في تركيا أن يغادروا تركيا.
عندما يأتي أكثر من 4 ملايين شخص إلى بلد ما في وقت قصير جدًّا؛ من الطبيعي أن يتوتر المجتمع، لذا يجب أن تُؤخذ مخاوف المجتمع التركي على محمل الجد، وإذا قللنا من شأن هذه المخاوف وتجاهلناها، سيُفْسَح المجال أمام الخطابات العنصرية التي يلقيها القادة الشعبويون.
ظهرت قضية المهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين في المشهد الرئيسي السياسي من جهة والاجتماعي من جهة أخرى في الآونة الأخيرة في تركيا، كما أن النقاشات القاسية التي تشكلت حول خطاب “العودة” تزيد من حدة الاستقطاب الموجودة بالفعل في المجتمع.
وحول هذا الأمر تحدثنا مع الأستاذ الدكتور مراد أردوغان، مدير مركز أبحاث الهجرة المدنية “موغام” في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة، وهو أيضًا منفذ أعمال في مركز الدراسات التركية التطبيقية “كاتس”.
هناك انزعاج ونقاشات كثيرة فيما يخص اللاجئين السوريين والمهاجرين الأفغان في تركيا. وفي الأيام الأخيرة؛ دخلت جميع الأحزاب السياسية في جدال عنيف حول ترحيل أو إعادة اللاجئين والمهاجرين إلى أوطانهم. وقبل الخوض في ديناميات هذه الجدالات، أود أن أسألكم عن الوضع العام فيما يتعلق باللاجئين والمهاجرين في تركيا؛ هل يمكنكم التقاط صورة عامة للوضع في تركيا؟
بدأ السوريون في القدوم إلى تركيا عام 2011. في ذلك الوقت؛ كان هناك 58 ألف لاجئ في تركيا، وفي وقت لاحق ومع “سياسة الباب المفتوح” التي انتهجتها تركيا تجاه السوريين، بدأ هذا العدد في الزيادة بسرعة كبيرة. وفي الواقع، لم يكن هناك الكثير من الزوار في عام 2011، حيث قدم 14 ألف شخص فقط، ولكن في عام 2012 بدأت الأعداد في التضاعف، حتى أن وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو كان قد صرح في يوليو/ تموز سنة 2012 قائلًا:: “لدينا حد استيعاب يصل لـ 100 ألف شخص، وأصبح العدد الآن 67 ألفًا، فحتى هذا كثير جدًا، وإذا وصل العدد لأكثر من 100 ألف، فلن يكون أمامنا خيار سوى أن ننشئ مناطق آمنة هناك، لأن حدوث شيءٍ كهذا قد يشكل خطرًا جسيمًا علينا”.
في الواقع؛ كان المقصود في هذا الخطاب، الأوروبيون أو القوى العالمية الأخرى، فقد كان على الأسد أن يرحل؛ وتم وضع هذا الحد من أجل تحفيز الأوروبيين في هذا الصدد، ولكن مع مرور الوقت تم تجاوز هذا الحد بسرعة.
نحن نتكلم الآن عن 4 ملايين لاجئ؛ ولقد كانت هناك أخطاء في إدارة العملية من البداية وحتى النهاية فيما يتعلق باللاجئين، وكان السبب الأساسي لذلك هو أن الحكومات التركية آنذاك – وحتى اليوم – كانت تصب تركيزها على الأسد وليس اللاجئين. بعبارة أخرى؛ كان هناك عبور بشري إلى تركيا، لكن هذه الحادثة اعتُبرت ثانوية، وقيل إن “مكان الحل الحقيقي هو دمشق” وبالتالي كان يُعتقد أنه إذا غادرت الإدارة الموجودة في دمشق، فإن المشكلة ستُحل من تلقاء نفسها.
شكَّل خلافنا مع إيران بشأن سوريا سببًا في عدم سيطرة إيران على من يريد العبور إلى تركيا من جهة أخرى؛ لقد طبقنا سياسة الباب المفتوح للسوريين، لكننا أدركنا ذات يوم أن هناك حوالي مليون أجنبي آخر غير سوري في بلدنا.
في البداية؛ تم التعامل مع الموضوع كـ “إدارة طوارئ”، تحت قيادة “آفاد” التابعة لوزارة إدارة الكوارث والطوارئ؛ أي أنه تم تطبيق إدارة كوارث؛ فأقيمت الخيم، وبدأ الأمر بمخيم واحد، ثم ارتفع العدد ليصل إلى 26 مخيمًا، كانت سعتها 250 ألفًا. وعلى الرغم من أن هذه سعةٌ كبيرة، إلا أنها لم تعد كافية في عام 2013، فقد حدث بعد ذلك تطورٌ إستراتيجي مهمٌ جدًا؛ حيث دخل تنظيم الدولة على الخط وتغيرت كل الأولويات.
لقد كان لتورط تنظيم الدولة تأثير على قضية اللاجئين من نواحٍ عدة، فأولًا: تحول الوسط إلى جو من العنف، وحاول الذين تمكنوا من الفرار الهروب، وثانيًا: انهار التحالف الدولي برمته في ذلك الوقت، والذي كان قد قال إن على الأسد أن يترك موقعه في سوريا؛ أصبح يقول إن الأولوية هي منع تنظيم الدولة. وعلى إثر ذلك؛ بدأوا يقولون: “ليس من الصواب إستراتيجيًّا الآن إضعاف الأسد والضغط عليه”، ومع اختفاء الأولويات؛ شعر الأسد بأهميته أكثر، وثالثًا: تدخلت روسيا، وفي غضون ذلك، كان هناك أحداث طيران، ما أدى إلى تقليص قدرة عملياتنا العسكرية هناك.
وتدخلت الولايات المتحدة الأمريكية؛ وبذريعة أنها ستقدم المساعدة بالسلاح للأكراد الذين يقاتلون ضد تنظيم الدولة، قدمت – بالرغم من معارضة تركيا – قدرةً عسكرية ودعمًا بالذخيرة للتنظيمات الكردية هناك.
وبالمحصلة؛ هذا ما حدث في سوريا: في الأعوام 2011 و2012 و2013، لم يكن هناك أحدٌ ضدنا سوى الأسد، ولكن في وقت لاحق؛ تدخلت قوى دولية أخرى. فعلى أية حال؛ لم يكن تغيير النظام في سوريا أمرًا مرغوبًا كثيرًا بالنسبة لإيران وروسيا، فبالنسبة لهذه البلدان؛ كان نظام البعث ذا قيمة كبيرة؛ حيث كان من الممكن أن يرحل الأسد، لكن كان من الممكن أيضًا أن يحل محله شقيقه أو عمه.
وكانت سوريا مهمةً للغاية بالنسبة لروسيا وإيران من حيث بنية النظام خاصتها، وكانت حقيقة أن تركيا تحاول تصميم إدارةٍ هناك تعتمد في غالبها على المسلمين السنة، واحدةً من القضايا التي أزعجت إيران وروسيا بشكل كبير، ولهذا تحولت سوريا فجأة إلى ساحة صراع للقوى العالمية والإقليمية، ما أدى إلى تضاعف عدد السوريين الذين لجأوا إلى دول الجوار؛ تركيا ولبنان والأردن، لكن معظمهم قدموا إلى تركيا التي لها حدود برية يبلغ طولها 911 كيلو مترًا مع سوريا، والتي قامت بتنفيذ سياسة الباب المفتوح التي ليس فيها شروط ولا محددات لقبول اللاجئين.
وهكذا أصبحت لدينا مشكلة أخرى؛ فعندما فُتِحت الأبواب أمام القادمين من سوريا إلى تركيا، بدأ الجميع بالدخول من هذا الباب اعتبارًا من عام 2013، ولم يعد بالإمكان السيطرة على الوضع، واهتز أمن حدودنا وأصبح العبور أسهل من جهة، وشكَّل خلافنا مع إيران بشأن سوريا سببًا في عدم سيطرة إيران على من يريد العبور إلى تركيا من جهة أخرى؛ لقد طبقنا سياسة الباب المفتوح للسوريين، لكننا أدركنا ذات يوم أن هناك حوالي مليون أجنبي آخر غير سوري في بلدنا.
ربطت الحكومة هذه العملية بسلطة الأسد بشكلٍ أكبر من اللازم
في غضون ذلك، كيف تم التغاضي عن دخول الأجانب الآخرين؟
كان من السهل جدًا تفويت ذلك، فهناك بيئة فوضوية، والأسوأ من ذلك؛ هو أننا لسنا جيدين في ضبط حدودنا مع الدول المجاورة أو أن تلك الدول لا تستطيع حماية حدودها معنا، فلا يمكن حماية الحدود من جانب واحد فالتعاون مطلوب، وهذا ما لم يحدث.
ونتيجة لذلك كان الأفغان والباكستانيون والإيرانيون قادرين على القدوم مع السوريين بسهولة بالغة، وقد انعكس هذا الوضع كذلك على تدفق اللاجئين من تركيا إلى أوروبا بين عامي 2014 و2016؛ حيث لم يكن السوريون يمثلون إلا نصف عدد اللاجئين القادمين في ذلك الوقت والبالغ عددهم 1.2 مليون لاجئ، في حين كان الباقون الذين استخدموا تركيا كمحطة عبور، من غير السوريين، فكنتَ – كلاجئ – تأتي وتدخل تركيا، ثم تمر من خلالها إن أمكن، وحتى لو لم تستطع الذهاب، سيكون بإمكانك العيش فيها.
لذا؛ كان أكبر خطأ ارتكبته الحكومة منذ البداية هو ربط هذه العملية بحكم الأسد أكثر من اللازم؛ حيث كان يُعتقد أنه إذا غادر الأسد أو إذا سقط، فسيعود اللاجئون أيضًا. ومن ناحية أخرى؛ استخدمت الحكومة قبول اللاجئين في البلاد كأهم أداة للدبلوماسية العامة؛ فبينما كان العالم يرفض اللاجئين، اعتقدنا أننا اكتسبنا مكانة مرموقة كمضيف من خلال تطبيقنا لسياسة الباب المفتوح.
لقد استند الخطاب في ذلك في الغالب، على الخطاب الإسلامي وخطاب “الأنصار والمهاجرين”، وكان يقال: “نحن فتحنا أذرعنا بينما رفض الغرب والأوروبيون ذلك، فهذه التقاليد التي نشأنا عليها”. لكن؛ كانت هناك مشاكل في خطاب “الأنصار والمهاجرين” الذي كنا نؤكد عليه ونُفاخر به بصفته أمرٌ يستوجبه الإسلام:
– فباستثناء دول الجوار؛ لم تقم أي دولة إسلامية غنية مثل المملكة العربية السعودية وقطر بإيفاء متطلبات هذا الخطاب، وتُرك الأمر لنا فقط للدفاع عن قيم الإسلام.
– بدأ لاجئونا المسلمون يسعون وراء مستقبلهم ليس في العالم الإسلامي، بل في أوروبا حتى “الموت”.
لقد نفذنا الخطة الأكثر تحررًا في العالم لتوطين اللاجئين، ربما كان يُعتقد أن الخطاب الديني يمكن أن يكون مناسبًا لتسهيل قبول اللاجئين السوريين من قبل المجتمع..
تمامًا؛ فلم يكن من السهل تقديم أي مبررات أخرى في ذلك الوقت، ولهذا تتمثل المشكلة الرئيسية في أن الحكومة لم تقم بحساب مخاطر هذا التحرك البشري غير المنضبط، واستهانت به إلى حد كبير.
ولقد ارتكبنا خطأً فادحًا ثانيًا: رغم أن سياسة الباب المفتوح صحيحة؛ حيث إن هناك حرب، والناس يفرون من الحرب، ومثل أي بلد متحضر عليك أن تفتح حدودك سواءً لأسباب دينية أو قانونية، مثلما فتحت دول أخرى حدودها اليوم عند فرار الأوكرانيين، ولكن إذا كنت لا تريد بقاء السوريون في تركيا لفترة طويلة، كان عليك أن تبقيهم في المنطقة الحدودية وكان يجب عليط بذل جهود خاصة لتهدئة الوضع في سوريا في أسرع وقت ممكن، ولكن فاتنا هذا القطار؛ فعندما امتلأت المخيمات، كان علينا أن نغضَّ الطرف عن انتشار السوريين داخل البلاد، وعندما حل عام 2017، بدأ السوريون بالاستقرار حيثما أرادوا.
لقد نفذنا الخطة الأكثر تحررًا في العالم في مسألة توطين اللاجئين، ولكن كان الأوان قد فات في عام 2017، حتى أننا لم نتمكن من إكمال التسجيل حتى ذلك العام، الأمر الذي لا يزال أيضًا يعاني من المشاكل؛ حيث قلنا بعدها: “لا تغادر بعد الآن مدينتك التي تم تسجيلك فيها”، لكن بعد فوات الأوان أيضًا.
فلو قيل منذ البداية إن عدد السكان الأجانب في المقاطعة الواحدة لا يمكن أن يتجاوز الـ 5 بالمئة من إجمالي السكان في تلك المقاطعة، ولو تم التسجيل على هذا النحو، لكان هناك توزيعًا معقولًا.
تقول إنه بعد سياسة الباب المفتوح، فإن الانكسار الثاني الذي سيؤثر على نقاشات الهجرة اليوم، هو السماح للاجئين بالتفرق في جميع أنحاء البلاد بدلًا من إبقائهم على الحدود..
أجل. على سبيل المثال؛ عندما يصل اللاجئون إلى ألمانيا أو دول أخرى، يتم توزيعهم ضمن إطار حصة معينة تحددها الدولة، ويتم الحلول أمام انعزالهم وتقوقعهم، وتصبح إدارة العملية أسهل.
في الحالة الطبيعية؛ نحن أيضًا قمنا بذلك حتى عام 2011، من خلال تطبيق يسمى بـ “المدن التابعة”، لكننا لم نستطع فعل الشيء ذاته للسوريين. علاوةً على ذلك، فقد استقر السوريون أينما أرادوا الذهاب بمحض إرادتهم، فقد ذهبوا إلى أماكن يمكنهم فيها العثور على عمل، أو ذهبوا إلى أقاربهم، وبطبيعة الحال، نشأ هناك حالة “تكتل”، والذي يمكن أن نسميه أيضًا بالتقوقع، جعلتهم يشعرون بالرضا لأنهم اجتمعوا مع أناسهم، لكن هذه كانت المشكلة الرئيسية التي عقدت إدارة العملية؛ فبعد مرور عشر سنوات، بدأت ما تسمى بسياسة “التناثر”، لكن الأوان كان قد فات، فلو قيل منذ البداية إن عدد السكان الأجانب في المقاطعة الواحدة لا يمكن أن يتجاوز الـ 5 بالمئة من إجمالي السكان في تلك المقاطعة، ولو تم التسجيل على هذا النحو، لكان هناك توزيعًا معقولًا.
ترى تركيا العملية منذ البداية على أنها مؤقتة
أرادت تركيا منذ البداية أن تنظر إلى هذه العملية على أنها مؤقتة، ولا زالت اليوم ترى الأمر على هذا النحو، وقد عكسته أيضًا على المجتمع بهذا الشكل، فقد كان التوقع الذي نشأ لدى المجتمع في تركيا بشأن السوريين هو أن “هؤلاء الناس سيعودون إلى ديارهم غدًا”، ومن المدهش أن المجتمع التركي لم يصدر صوتًا ولم يصبح مسيّسًا لفترة طويلة كهذه. وأنا أعزو ذلك – على الرغم من المضايقات التي تحدث في تركيا – إلى القبول الاجتماعي الكبير، وإن كان هشًا؛ حيث بدأ حديثًا تسييس الموضوع، لأن المجتمع التركي أدرك أنهم لن يعودوا… بدأ المجتمع الآن ينظر إلى السوريين على أنهم تهديد، وليسوا ضحايا أو مظلومين.
حتى وقت قريب، لم تكن هناك مقاومة جدية للقضية السورية في تركيا، سواء من حيث اللغة السياسية والسياسات، أو من حيث التصور الاجتماعي، فقد تم استخدام لغة إيجابية في مواضيع مثل السياسة والإدارات المحلية ووسائل الإعلام واللاجئين وعلاقة المجتمع باللاجئين. ولكن هناك شعورٌ ولغةٌ أكثر سلبية قد انتشرت اليوم؛ فكيف حدث هذا التحول؟ وما هي الديناميكيات الأساسية التي مكنت من ذلك؟ وهل قامت السياسة بتوجيه المجتمع؟ أم أن المجتمع غير رأيه وشعر بأنه أداة فقام بجذب السياسة إلى هذا النحو؟ وهل أدى الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين إلى هذه النتيجة؟ باختصار، كيف نشأت اللغة والمشاعر السلبية اليوم؟
إن حركة الهجرة في العالم بالمتوسط الطبيعي، هي حركات تتم تحت السيطرة؛ حيث تستقبل كندا 350 ألف مهاجر سنويًا، لكنها تختارهم، وتقتضي الخطط بأخذ هؤلاء الأشخاص من مختلف الأعراق والمناطق والأديان، وتوزيعهم وفقًا للحاجة في أجزاء مختلفة من البلد وتتم إدارة العملية على هذا النحو. ولكن على الرغم من ذلك، هناك دائمًا شعور في هذه المجتمعات بعدم الارتياح إزاء أولئك الذين يأتون لاحقًا، حتى أن هناك أحزابًا يتم إنشاؤها نتيجة القلق الذي شُعر به إزاء الأتراك الذين يعيشون في ألمانيا منذ 60 عامًا.
لم يعبر المجتمع عن عدم ارتياحه، لأنه أولاً اعتقد أنهم سيذهبون على أي حال، وثانياً؛ لم يستطع إدراك خطورة الأمر، كما أن هذه القضايا لم تناقش بشكل صريح.
إن إدارة شؤون اللاجئين القادمين من الحدود هي عملية أكثر صعوبة من ذلك بكثير؛ ففجأة – وبعيدًا عن تخطيطك تمامًا – يأتي ملايين الأشخاص إلى بلدك ويتحركون ويستقرون وفقًا لأهوائهم. ودعونا لا ننسى أن هناك حساسيةً تجاه العرب في البلاد، تاريخيًّا وثقافيًّا، ودعونا لا ننسى أيضًا أن هذه الحركة الإنسانية هي حدث سياسي بقدر ما هي حدث إنساني.
حزب العدالة والتنمية لديه سياسة، وهذه السياسة يقبلها 50 بالمئة من المجتمع بقيادة أردوغان، في حين يرفضها الـ 50 بالمئة الآخرين منذ البداية، فلم يكن المجتمع التركي بأكمله سعيدًا أبدًا بمجيء هؤلاء الأشخاص. في الواقع، دعني أذكّرك بأن هناك مظاهرات مؤيدة للأسد كانت قد جرت في مدينة هاتاي عام 2012، فهناك أيضًا تصور آخر في تلك المناطق. حتى أنه في عام 2012 لم يكن الأكراد كذلك مرتاحين حتى كوباني (عين العرب)؛ حيث كان اعتقاد كل من الأكراد والعلويين “أردوغان يجلب العرب السنة ويجعلنا أكثر ندرة”، فلم يعبر المجتمع عن عدم ارتياحه، لأنه أولاً اعتقد أنهم سيذهبون على أي حال، وثانياً؛ لم يستطع إدراك خطورة الأمر، كما أن هذه القضايا لم تناقش بشكل صريح.
في الدراسات الأمنية، هناك موضوع يسمى التوريق، وهو يعني بعبارة أخرى، أن يتم تصوير المهاجرين على أنهم مشكلة أمنية وإفساح المجال أمام السياسيين الشعبويين، ونحن نرى هذا في جميع أنحاء العالم؛ فلقد فعل ترامب ذلك أيضًا، كما عُمل بذلك أثناء انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، ويتم العمل به هنا أيضًا، وفي كل مكان. لكن لا يمكن لهذه العملية أن تحدث فقط من أعلى إلى أسفل، وإنما أيضًا من أسفل إلى أعلى، أو بعبارةٍ أخرى؛ لا يتعلق الأمر فقط بخلق الإدراك، في بعض الأحيان يجلب الشعب مخاوفه مباشرة إلى السياسة، وهذا يحدث بشكل أكبر في تركيا الآن.
لم يتم فعل أي شيء لإزالة مخاوف المجتمع
كيف تم التوريق في تركيا؟ هناك بعض الشخصيات السياسية الذين يقولون شيئًا ما ويجعلون المجتمع قلقًا، لكن دعونا لا ننسى أن المجتمع مستعد لذلك أيضًا. لأنه لم يتم فعل أي شيء تقريبًا لأخذ مخاوف المجتمع على محمل الجد والتخفيف منها، وقد أدت الخطابات العاطفية وإدارة العمليات المفتقرة إلى الشفافية، إلى زيادة قلق المجتمع.
علاوة على ذلك، 99 بالمئة من السوريين لا يعيشون في مخيمات، بل يعيشون وسط المجتمع التركي، ولم يتم تطوير إستراتيجية تواصل من شأنها أن تقنع المجتمع. فما عدا أنهم إخواننا في الدين وأنهم سوف يرحلون قريبًا؛ لم يحدث شيء.
عندما تحدثت إلى نائب رئيس البلدية في مدينة أورفة، قال: “إنهم يستخفوننا، هناك 500 ألف سوري في أورفة المسكينة، يقولون لنا أنصار أنصار، لكن الأنصار لديهم أيضًا قوة تحمل، الأنصار لم تعد تقوى على التحمل”؛ لكن جماعتنا لم ترغب بأخذ هذا بالحسبان.
أصدرت الدنمارك مؤخراً بياناً قالت فيه: “سوف نتبع سياسة صفر لاجئين لأننا لا نستطيع التخطيط ولأن هذا يخرب نسيجنا الاجتماعي”، وقالوا جملة أخرى: “عندما يُخرب اللاجئون سلامنا، يظهر متطرفون يمينيون وفاشيون ويقومون بجمع الأصوات. ولمنع ذلك، سوف نذهب في اتجاه مختلف فيما يخص سياسة اللاجئين”.
كان ينبغي أن يكون لدينا أيضًا قلق تلك البلدان. في الواقع؛ إن الحركات السياسية اليمينية المتطرفة والفاشية والعنصرية ليست بالشيء المثير للدهشة. انظروا إلى أحداث 6-7 أيلول/ سبتمبر وما حلَّ بالأكراد والعلويين… فنحن في مجتمع حدث فيه ذلك. وعندما يأتي 4 ملايين شخص، لا يمكن للمجتمع أن يواصل حياته وكأن شيئًا لم يحدثن فلقد رأى المجتمع التركي أن هؤلاء الناس لم يذهبوا، وبدأ الفاعلون السياسيون في إثارة هذه القضية. وأن يقوم الفاعلون السياسيون بإثارة القضية، أمرٌ مفهومٌ للغاية.
السياسة – وبالأخص لدينا ـ هي صراع على السلطة حتى الموت؛ حيث أنت تميل نحو تعجيز الطرف الآخر، وعندما تدرك أن لهذا قبول في المجتمع، فإنك ترفع سقف الطموح، فأنت تفعل هذا باسم الشعب والوطن، لكنك لا تقلق أبدًا بشأن عدد الألغام التي زرعتها في مستقبل البلد وسلامته.
في الوقت الحالي؛ حصلت المعارضة على أهم “عجز” منذ 20 عامًا؛ إنه عجز يمكنك بسهولة من تجاوز الحكومة والحصول على استجابة من المجتمع. تمامًا مثلما رأينا في أوروبا؛ يخرج في البداية حزب أو زعيم ويقول أشياء متناقضة للغاية، ينظر إليه الجميع أولًا من بعيد، وعندما يرى استجابةً لذلك في المجتمع، يقوم بتوجيه الأحزاب الكبيرة إلى هناك بنقرة واحدة أسفل ما قاله، وتجده يقول شيئًا مختلفًا تمامًا، لكن تأثيره يغطي جمهورًا أكبر بكثير.
الدراما الحقيقية لحزب العدالة والتنمية، والتي نشهدها في الأبحاث أيضًا، هي أنه ينظر إلى هذه المسألة على أنها ليست مشكلة فقط من قبل المعارضة، وإنما أيضًا من قبل أعضاء حزب العدالة والتنمية؛ حيث يشعر كل من أعضاء حزب العدالة والتنمية وأنصار حزب الحركة القومية بعدم الارتياح لهذا التوجه، لكن قيادة أردوغان تبقي الأمر عند مستوى معين، لكنه – أي أردوغان – صار يرى الآن أيضًا خطورة المسألة من منظور أعضاء حزبه، فبينما قال أردوغان قبل شهر “لن نرسلهم”؛ شعر في خطاباته اللاحقة بالحاجة إلى قول “عودة مشرفة” وما إلى ذلك.
في الواقع؛ ليس هناك فرق بين ما قاله أردوغان وما قاله حزب الشعب الجمهوري حول “إرسالهم بالطبل والزمر”، فنحن نرى بوضوح أن أردوغان والحكومة يشعران أيضًا بهذا الضغط.
حسنًا إذًا؛ كيف يمكن إدارة هذه المسألة في الأيام القادمة إذا ما قارناها بالأمثلة العالمية؟ نحن نتحدث عن تجمع كبير، هل هناك طريقة لإعادة ما يقرب من 4 ملايين سوري؟
شهدت تركيا أكبر تنقل بشري شهده العالم على الإطلاق؛ حيث لا توجد أمثلة كثيرة على ذلك. وفي عام 2015، شق سوريون ولاجئون آخرون طريقهم إلى أوروبا؛ حيث غادر حوالي 1.2 مليون شخص، فقامت القيامة هناك، فلقد ذهبوا إلى أغنى منطقة في العالم؛ إلى الأماكن التي لديها القدرة والتي باستطاعتها إدارة المسألة، وعلاوةً على ذلك؛ ذهبوا إلى الأماكن التي تحتاج إلى موارد بشرية.
يستقبل الاتحاد الأوروبي ما لا يقل عن مليوني مهاجر سنويًا، لكنه يقول للاجئ “قف عندك”، لأنه لا يمكنك اختيار اللاجئ، بينما يمكنك اختيار المهاجر؛ بينما عندنا نعتبر أنه مدعاة للفخر أن نكون الدولة التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم، ولكن علينا التفكير بذلك؛ حيث تعد الإمارات العربية المتحدة الدولة التي تستقبل أكبر عدد من المهاجرين في العالم تبعًا لعدد سكانها، لكن انظر إلى عدد اللاجئين هناك؛ تقريبًا صفر، فبينما يشكل قبول المهاجرين خطرًا في الأساس، فإنه من الضروري عدم الاستهانة بالتدفق الجماعي للاجئين.
تتمحور سياسات الهجرة بشكل أساسي حول الأمن
جميع البلدان التي تستقطب المهاجرين، لا تأخذ أبدًا أشخاصًا من منطقة واحدة أو عرق واحد أو دين واحد، خاصة أنهم يقومون بخلطهم منذ البداية حتى يتمكنوا من كسر عملية التقوقع التي قد تنشأ في المستقبل، أي أنهم منذ البداية بدؤوا بمنحى أمني.
من المستحيل بالنسبة لنا القيام بعملية السيطرة هذه على اللاجئين، ومن الصعب جدًّا معاينة أمثلة أخرى لهذا الوضع الذي تواجهه تركيا، فنحن نعلم أن هناك فارين من مجزرة حلبجة في التسعينيات تجمعوا عند الحدود التركية. ولكن في ذلك الوقت، تم إبقاء الناس على الحدود، وبعدها عادوا عندما تم التوصل إلى حل في العراق، ولو كانوا انتشروا في تركيا حينها، لما عادوا هم أيضًا.
لدينا خبرة كافية في الترحيل؛ حيث إن أكثر من 90 في المئة من أولئك الذين ينتقلون من بلد إلى آخر في العالم، وتكون البلد التي يذهبون إليها أفضل من البلد التي ينتمون إليها، يبقون هناك، كما أن معدل العودة وفقًا للأمم المتحدة هو 3 بالمئة، وبالأخص إذا بقي أحدهم هناك بضع سنوات، وكان قد أسس حياةً جديدة، وإذا كانت الدولة التي سيعود إليها في حالة فوضى، ولم يستطع رؤية المستقبل فيها؛ فإنه يبقى.
دعونا نقارن بين سوريا وأفغانستان؛ فلا أحد يستطيع أن يصدق أن السلام والازدهار سيتحققان في سوريا في السنوات العشر المقبلة.، وإذا قال الأسد: “هيا اتفقنا، هيا فليأتوا لن أفعل شيئًا، أقسم بالله” وحلف على القرآن، فكم من السوريين سيصدقون ذلك؟ ومن سيتحمل تكلفة تصديق ذلك؟
وبالمثل؛ قالت أمريكا: “إنني أنسحب من أفغانستان”، وانسحبت وغادرت، وتركت الناس هناك وحدهم في مواجهة طالبان الأفغانية، وسيكون الأمر نفسه بالنسبة للأسد، فعندما يبدأ الأسد في الاضطهاد، أزعم بأن المؤسسات الدولية لن تحرك ساكنًا، وسيتم نشر العديد من رسائل الإدانة، وسيقولون: “حسنًا أيها الأسد، أحكم سيطرتك عليهم، يكفي ألا يأتوا”.
هذه الفترة؛ هي فترة يكون فيها الطغاة سعداء، واللاجؤون ليسوا أغبياء ؛ فهم يرون ذلك، وبمعنى آخر؛ إن العودة الطوعية ليست على أجندة السوريين في ظل الظروف الحالية، والسلام وحده لا يكفي، فهناك أيضا البنية التحتية والمستشفيات والمدارس، كما أن هناك عداوات وقلاقل بين أطراف المجتمع نتيجة الحرب التي دامت عشر سنوات؛ ولكننا هنا نقلل من شأن تلك الأمور.
تراجع القبول الاجتماعي الهش في تركيا
دعونا نأتي إلى الجزء الخاص بتركيا؛ مرت 11 سنة، وُلد أكثر من 750.000 طفل؛ وفي الوقت الحالي، يذهب 760 ألف طفل سوري إلى المدارس التركية ويتعلمون اللغة التركية، وكل طفل يتعلم اللغة التركية، يجعل لعائلته قدمًا ثابتة في تركيا، كما أن هناك 50 ألف شاب سوري يدرسون في الجامعات، بينما يعمل حوالي مليون سوري في تركيا، وبشكلٍ ما – بوضع رد فعل المجتمع جانبًا – فإنهم لا يواجهون مشاكل خطيرة.
وهذا ما عنيته بقبول اجتماعي عال؛ فلا يجد أي مجتمع – بشكل مفاجئ – ملايين اللاجئين الذين يتجاوز عددهم 5 بالمئة من سكانه وينظر إلى ذلك على أنه عملية طبيعية، بل إن الحكومات تسقط والصراعات تحدث نتيجة لذلك.
والمجتمع التركي لا يحبهم، ولا يريدهم، ويريد لهم أن يرحلوا، كما أنه لا يريد بأي حال من الأحوال مستقبلًا مشتركًا معهم، لكن الحياة المشتركة التي استمرت لمدة 10 سنوات تشير إلى حقيقة أخرى؛ فعلى الرغم من أنهم لا يحبونهم ولا يريدون ذلك، إلا أنهم يعيشون من أجل السلام النسبي، حتى أن نسبة 40 بالمئة من المجتمع يقدم الدعم المادي للسوريين ولا يهاجمهم، وهذا مهم أيضًا.
لذلك؛ دائمًا ما أقول أنه على الرغم من كل شيء، فإن القبول الاجتماعي في تركيا مرتفع جدًا بطريقة لا يمكن مقارنتها بأي دولة أخرى (على سبيل المثال، انظر إلى الدول العربية نفسها مثل لبنان أو الأردن أو انظر إلى الدول الغربية)، ولكن هذا القبول في تراجع الآن.
أصبح التغير في المجتمع التركي واضحًا جدًا بعد عام 2017، أي بعد أن ظهرت أمارات عدم رحيل اللاجئين، وعندما صاروا يقابلون السوريين في كل مكان؛ إنهم ينظرون إلى السوريين الآن ليس على أنهم “ضحايا أو مضطهدين” وإنما كتهديد، وهذا التوجه يزداد ضراوة. لذلك، نحن بحاجة إلى تطوير مرونة المجتمع التركي. والطريق لذلك، يمر من خلال أخذ مخاوف المجتمع على محمل الجد.
هناك ثلاثة حلول دائمة للاجئين، أكدت عليها الأمم المتحدة أيضًا:
الأول؛ العودة الطوعية إلى الوطن في حال تحسنت الظروف في بلادهم واختفت الحاجة إلى الحماية الدولية، لكن لا يمكن تعريض أحد للخطر هنا. حاليًا؛ تُوصف سوريا وأفغانستان على أنهما دولتان لا تتوافر فيهما شروط العودة الطوعية. وفي هذا الصدد، فإن “مبدأ عدم الترحيل القسري” مهم للغاية، فلم يقتصر الأمر على المدافعين عن حقوق اللاجئين وعلى المحامين فحسب، بل قال السيد دولت باهتشلي مؤخرًا: “هناك التزام دولي، لا يمكننا إرسالهم وفقًا لأهوائنا”.
الثاني؛ إعادة التوطين في بلد (ثالث) آخر، وقد قلَّت نسب حدوث ذلك في جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي، ولا يتجاوز متوسط عدد الأشخاص الذين أعيد توطينهم في بلدان أخرى سنويًا الـ 100 ألف من أصل 82 مليون لاجئ، فعندما تقول بلد ما “إنني لا أقبل اللاجئين” لا يمكنك الضغط عليها، فعندما جاء ترامب إلى أمريكا، كانت حتى ذلك الحين تستقبل حوالي 150 ألف شخص سنويًا، فقال: “سأخفض هذا العدد”، ولم يكتف بتخفيضه فحسب؛ بل أوقفه، لم تستطع أي مؤسسة أن تضغط على ترامب أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وتستقبل كندا 25 ألف شخص سنويًا، فإذا قالت “لا أريد”، فليس هناك ما يمكن فعله، لذلك لا وجود لعصا القانون الدولي. وبالتالي؛ فإن إعادة التوطين في بلد ثالث يكاد يكون مستحيلاً، وأصبح هذا الاحتمال رمزيًا، وانخفض إلى نسبة 1 في المئة.
وكان قد أخبرنا الاتحاد الأوروبي في عام 2016 أنهم سيأخذون 72 ألفًا سنويًا منَّا، وإذا فكرت في الأمر، فإن هذا العدد لا يشكل 2 في المئة من الإجمالي، وحتى هذا العدد لم يأخذوه. وحتى لو فعلوا؛ فسيكون ذلك عديم الفائدة نظرًا لحجم الكتلة الكبيرة الأساسية، وبالنهاية لم يستقبل الاتحاد الأوروبي سوى 30 ألف لاجئ من تركيا في السنوات الخمس الماضية.
جهود الاندماج ليست من أجل الوافدين، بل من أجل سلام المجتمع
يبقى الخيار الثالث: الاستثمار في جهود الاندماج لتمكينهم من العيش بكرامة في البلد الذي يعيشون فيه، وضمن المجتمع، ولقد قلت منذ عام 2015: “قضية السوريين في تركيا لم تعد مشكلة مؤقتة، بل دائمة. أقول أن السوريين في تركيا لن يعودوا إلى بلادهم، يجب النظر إلى هذه الحقيقة واتخاذ السياسات وفقاً لذلك”، وأنا لا أقول “ابقوا هنا”، وأتمنى أن يتمكنوا من العودة إلى بلدهم غدًا، لكني أقدم اقتراحي بصفتي أكاديمي خبير في هذا الموضوع، وأتلقى انتقادات كثيرة؛ فعندما أقول اندماج، يقولون أنت تريدهم أن يبقوا هنا، ولكننا بحاجة إلى ذلك من أجل سلامنا المستقبلي في هذا البلد، وهناك أيضًا عبارة “لنحول الأزمة إلى فرصة”، وأنا أقول ذلك بوضوح: دعونا نحول هذه الأزمة إلى فرصة، دعونا نرى كيف يمكننا تجاوزها بأقل الأضرار الممكنة، فالموضوع جاد وصعب وخطير، وهذا هو بالضبط سبب الحاجة إلى سياسات الاندماج؛ يعتقد الناس أننا إذا لم نقم بالاندماج، فسوف يذهبون إلى بلدهم أو إلى بلد ثالث، أوروبا أو ألمانيا. لكن هذا لم يعد ممكنًا، لقد حاولنا فتح الأبواب في شباط / فبراير عام 2020، فهل حصلنا على نتيجة؟ لسوء الحظ، لم يعد هناك الكثير من الخيارات المتبقية. حتى لو غادرت مجموعة ما، سيستمر الملايين من اللاجئين في العيش في هذا البلد، وإذا لم نضع سياسة تأخذ هذا في الاعتبار، فسوف نواجه مخاطر أكبر.
جهود الاندماج ليست من أجل الوافدين، بل من أجل سلام المجتمع، فنحن نرسل 770 ألف طفل إلى المدارس الآن، والتكلفة السنوية لهذا هو 1 مليار يورو. لماذا نقوم بهذا؟ لماذا نرسلهم إلى المدرسة، لماذا نتحمل هذه التكاليف؟ لنخرج الأطفال من المدارس، طالما أننا سنرسلهم غدًا إلى بلدهم، ولكن ماذا لو لم نتمكن من إرسالهم؟ سيكون قرار حرمانهم من التعليم كارثة لنا. حاليًا؛ هناك 500 ألف طفل لا يذهبون إلى المدرسة، وهذه كارثة بحد ذاتها. ولنتجاوز ذلك؛ في النهاية عليك أن تستثمر في مستقبلك وسلامك؛ هذه هي المشكلة الرئيسية في تركيا الآن، لكننا لا ندرك ذلك.
تركيا والمجتمع التركي يفكران بالشكل التالي: لقد فعلنا في سوريا أكثر مما فعلته أي دولة أخرى في العالم، وهذا الأمر قد كلفنا اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ لكنها مقاربة ساذجة للغاية، فهل سيقوم السوريون بالدعاء لأجلنا وشكرنا كل يوم… هذا أمر غير معقول.
القومية تتطور لدى السوريين، ولدى الأتراك أيضًا
وكل يوم تزداد شكاوى الشباب السوريين، وحتى الكبار، في تركيا، فنحن نهمل السوريين كثيرًا، وفي الآونة الأخيرة أصبحنا نضغط عليهم؛ ولكن الحقيقة أنه يمكنك أن تضغط على الحكومة، لكن لا فائدة من الضغط على السوريين، فهذا يزيد النزعة القومية بين السوريين، وبين الأتراك أيضًا، وهذه القومية التي تقوم على أساس العنصرية، سوف تغذي العنصرية لدينا، لكننا لا ندرك ذلك.
اسمحوا لي أن أعود إلى السؤال عن مدى فعالية عملية إعادة السوريين؛ الأمم المتحدة وجميع مؤسسات حقوق الإنسان تعرّف الوضع الإنساني في سوريا وأفغانستان على أنهما دولتان غير صالحتان للعودة، ونحن نسيطر على منطقة تشكل 12 في المئة من سوريا ونريد أن نعيدهم إلى هناك، لكن الناس يقولون: “أريد أن أعود إلى المكان الذي جئت منه”، وإضافةً إلى أن المنطقة التي أنشأتها تركيا تبدو منطقة صراع مزمن، فإن لديها سعة محددة أيضًا، فكم عدد الأشخاص الذين يمكن إرسالهم إلى هناك؟
تقول المعارضة: “سنتوصل إلى اتفاق مع الأسد، وسيصدر الأسد العفو ثم سنقوم بإرسالهم، وبعد ذلك سنتابع الوضع الإنساني مع الأمم المتحدة وسنتدخل في حال حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان”؛ إنه نهج ساذج للغاية: فكيف ومن الذي سيتدخل؟ قد ننسى الإبادة الجماعية التي حدثت أمام جنود الأمم المتحدة في البوسنة، لكن اللاجئ الذي هرب من الموت لا ينسى ذلك. من هي الدولة التي ستسمح بالتدخل، وأي ظلم منعته الأمم المتحدة حتى اليوم حتى تتمكن من القيام بذلك الآن؟
لنفترض أن هذه الحكومة أو الحكومة الجديدة قالت، “هذه المسألة قد كبرت بما فيه الكفاية، لنتفق مع الأسد”. حسنًا؛ بعد أن نتفق مع الأسد، ألا يجب أن نعيد المنطقة التي تسيطر عليها تركيا في سوريا؟ عندما ننسحب من تلك المنطقة، ماذا سيكون مصير الأشخاص الذين أرسلناهم إلى هناك؟. ومن حيث القانون الدولي؛ يوجد أساسًا مبدأ يمنع الإعادة القسرية، ولنفترض أننا جازفنا وقررنا إرسالهم؛ لنفكر قليلاً في التفاصيل: كيف ستجمع 4 ملايين شخص من أدرنة وإزمير وجيرسون وترسلهم بالقوة؟ لا توجد طريقة عملية للقيام بذلك، ربما يكون هناك طريقة تمكنك فقط من إرسال المهاجرين غير الشرعيين.
لأن مستقبلنا وديمقراطيتنا وحقوق الإنسان لدينا قد فسدت، وحتى نتجنب الأزمات العنصرية مع السوريين، وحتى نستحق أن نعيش حياة إنسانية كريمة، لا خيار أمامنا سوى العمل بانسجام.
فهناك مهاجرون غير شرعيين في تركيا؛ أفغان وباكستانيين وعراقيين، يأتون إلى تركيا دون الحصول على تصريح للدخول، هم ليسوا لاجئين، بل يأتون لأسباب اقتصادية، ويتم القبض عليهم. حسنًا؛ لقد تم القبض عليهم، وستتم إعادتهم إلى بلدهم كإجراء قانوني، لكن هل حقًّا يمكن إرسالهم؟ على الرغم من أن تركيا بذلت مؤخرًا جهودًا حثيثة في هذا الأمر إلا أن معدل الذين تمكنت من إرسالهم بلغ فقط حوالي 30 بالمئة.
أنت لديك الحق في إرسال المهاجر غير النظامي، لكن فعليًّا لا يمكنك إرساله، هذا بغض النظر عن قضية اللاجئ السوري. وهذا الوضع لا ينطبق علينا فقط؛ بل هو وضع تعيشه أوروبا والولايات المتحدة، فهناك 11 مليون مهاجر غير نظامي في الولايات المتحدة، ومن الصعب جدًّا إعادة شخص بعد أن أصبح داخل حدود الدولة.
لنفترض أن مهاجرًا غير نظامي تم القبض عليه في تركيا، وليس لديه وثائق؛ حيث يُعلِّمُهُم مهربو المهاجرين إنكار وجود أي وثائق شخصية، وعندما تسألهم “من أين أنتم”، لن يذكر اسم دولة أو سيذكر اسم الدولة ليس لديها اتفاق مع تركيا. في البداية؛ عليك إجراء اختبار جيني له، وأخذ بصمات أصابعه لتعرف من أين هو، وسيروي لك الرجل قصة: “لا أعرف إلى أي عشيرة كنت أنتمي، لقد وصلوا إلى السلطة، وبدأوا يستبدون، لذلك فررت”. الآن هل هذا صحيح أم لا؟ ربما يكون الرجل لاجئًا حقًّا، فعليك أن تتحقق من ذلك، وبعد أن تصل إلى النتيجة ستطلب الإذن من البلد الذي جاء منها: “سوف نعيد إرسالهم، فهل تقبلون ذلك؟” وإذا لم تسمح تلك الدولة بذلك لا يمكنك إعادتهم. في تركيا تتم مناقشة هذا الأمر بشكل دائم، ولكن التطبيق مسألة صعبة للغاية، ومؤخرًا أرسلت تركيا عددًا كبيرُا من المهاجرين غير الشرعيين، لكن هذا لم ينفع بشيء؛ حيث إن الخطأ الذي ارتكب في أول 5-6 سنوات يقف أمامنا بشكل واضح.
بعد عام 2011، أصبحت هناك مشاكل خطيرة في أمن حدودنا، ولقد أخبرنا العالم أننا قد فتحنا قلوبنا وحدودنا لمن يأتون إلينا، وماذا حدث بعد ذلك؟ الآن أصبح على عاتقنا بناء أطول جدار حدودي في العالم، وعلى الرغم من النقاشات الجدية في الوقت الحالي، إلا أن تدفق الهجرة غير النظامية مستمر للأسف، السبب الأكثر أهمية لذلك هو عدم وجود جهة تضبط الجانب الآخر من الحدود.
أنت تقول إن الاحتمال الأكثر أهمية هو التعامل مع القضية من منظور جديد يشير إلى أن بإمكانهم البقاء هنا مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة. فإلى أي مدى يمكن لتركيا إظهار هذا الفطرة السليمة وتكييف سياساتها وفقًا لذلك، في حين أن المجتمع يقظ للغاية والسياسيون ينظرون إلى مصالحهم؟ وإذا لم يكن هناك خيار آخر، فلماذا يبدي المجتمع رد فعل عدواني بهذا الشكل؟ المعارضة التي نتحدث عنها هي معارضة تفكر في حكومة ما بعد الانتخابات. أي أنها ستواجه عملية التوطين بنفسها. فكيف يمكننا حل هذا التناقض؟
ليس من السهل قبول الواقع السياسي؛ الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، مهندس هذه السياسة ومنفذها، وعندما يرى المجتمع القرار الجديد، القرار الذي لا يريده، سيبدي المقاومة، وهذا حقه الطبيعي، فالمجتمع التركي مجتمع عنصري، لكن لا فائدة من تسمية ذلك، وإذا قللنا من شأن مخاوفه وتجاهلناها؛ فإن هذه النزعة العنصرية ستزداد في المجتمع؛ حيث يبحث الناس عن إجابة لمخاوفهم ولا يستطيعون العثور عليها.
طيلة حياتي لم أقل “دعوا السوريين يبقون في تركيا”، ولن أقول ذلك الآن، لكن للأسف أقول إن نسبة عالية جدًّا من السوريين “ستبقى”، هذه حقيقة وليست رغبة.
ولأن مستقبلنا وديمقراطيتنا وحقوق الإنسان لدينا قد فسدت، وحتى نتجنب الأزمات العنصرية مع السوريين، وحتى نستحق أن نعيش حياة إنسانية كريمة، لا خيار أمامنا سوى العمل بانسجام. كحد أقصى يبدو أن 10 بالمئة من السوريين في تركيا سيغادرون، فكل التجارب التي قمنا بها والأمثلة حول العالم تظهر ذلك؛ ماذا سنفعل مع الباقي؟ علينا أن نقلق بشأنهم، وكيف نقبلهم في المجتمع؟ الاندماج ليس بالمهمة السهلة، ولا يكفي أن تتخذ الدولة سياسة الاندماج، فموقف المجتمع التركي من هذه القضية سيكون حاسمًا للغاية، ولا يمكن أن تتحق جهود الاندماج دون دعم المجتمع.
تجارب الاندماج لها مخاطرها أيضًا، فبالنسبة للأتراك الذين ذهبوا إلى ألمانيا، بدأ الألمان أعمال الاندماج بعد 25 عامًا؛ فقد قالوا: “إذا قمنا بالاندماج، فسوف يبقون هنا” ولم ينفذوا سياسة الاندماج، وبعد 25 عامًا قاموا بإعطاء رشوة للأتراك وقالوا: “لنعطهم المال ليذهبوا”، فغادر 200 ألف تركي فقط، بينما بقي 3 ملايين شخص، وبعد ذلك قالوا: “لم يعد بإمكاننا فعل شيء، يجب العمل على الاندماج”، وحدث تحول في السياسة والتعليم والمجال الاجتماعي، فالأخطاء التي ارتُكبت في ذلك اليوم تظهر اليوم في ألمانيا؛ الألمان أنفسهم يقولون ذلك.
عندما تكون سياسة المواطنة بعيدة عن الشفافية، سيصاب المجتمع بالتوتر
أولاً: مسألة الوضع المؤقت؛ ستقوم الحكومة بالاندماج، لكن السوريين تحت “الحماية المؤقتة”؛ فكيف يمكنك وضع سياسة اندماج لما تصفه بأنه “مؤقت”؟ هذا أمر لا معنى له؛ العمليات تحتاج إلى التعديل.
ثانيًا؛ من أكبر الأخطاء التي ارتكبت في تركيا كانت عملية التجنيس المتعلقة بالسوريين، ومن الصعب شرح ذلك للمجتمع، وأعضاء حزب العدالة والتنمية غير مرتاحين أيضًا، على الأقل مثل أعضاء الأحزاب الآخرين، وهو أمر طبيعي تمامًا، فقد تم فتح مسار المواطنة الاستثنائي في تركيا، فسابقًا كانت الحماية المؤقتة تمنع السوريين في تركيا من التقدم بطلب للحصول على الجنسية، كما أنها تمنع طلبات الحماية الدولية. بعد ذلك؛ منذ عام 2016 أصبحنا نعطي الجنسية لأفراد نختارهم من السوريين؛ فما هي المعايير التي يتم اختيارها على أساسها، ومن الذي يختار، وكم عدد الأشخاص الذين يتم اختيارهم؟ هناك كم هائل من المعلومات المضللة حول هذا الموضوع، ولا تقدم الحكومة شيئًا سوى الأرقام. المواطنة ليست بالمسألة البسيطة، وخاصة في تركيا، وجميع المواطنين الأتراك لهم الحق في معرفة المعايير المتعلقة بالمواطنين الذين سيشاركون في تقرير مصيرهم في المستقبل، ولهذا السبب فإن أكبر قلق للمجتمع التركي بشأن السوريين هو أنهم قد أصبحوا مواطنين.
الطبيعي أن تمنح ما تسميه جنسية استثنائية لما يقرب 1000 إلى 5000 شخص، من جميع أنحاء العالم، لكن إذا قمت بتحويل الجنسية الاستثنائية إلى قاعدة، فنحن نتحدث عن 200 ألف شخص.
السوريون يعملون لكنهم يعملون بشكل غير رسمي، وهذه ليست مشكلتهم فقط، فـ 30 بالمئة من سكان تركيا يعملون بشكل غير قانوني، وبالتالي من الضروري اتخاذ الترتيبات المتعلقة بحقوق العمل.
لنفترض أنه قد تم منحها إلى 200 ألف شخص، عندما يتم منح الجنسية لعدد كبير من الأشخاص بشكل استثنائي لن يعرف الأتراك ولا السوريين معايير ذلك؛ بينما يمكننا تنظيم ذلك بسهولة أكبر؛ حيث سيتمتع السوريون في تركيا بوضع الحماية المؤقتة، وبعد بقائهم لمدة 5 أو 10 سنوات، يتقدمون بطلب للحصول على تصريح للإقامة، وبعد مرور 5 سنوات على استلامه، سيتم فتح مسار المواطنة، إضافةً إلى حصوله على مستوىً معين من التعليم واللغة وما إلى ذلك، وفي هذه الحالة سيرى كل من المجتمعين التركي والسوري مسار العملية. ولكن في الوقت الحالي؛ لا يرى المجتمع التركي ولا السوري كيف تسير عملية التجنيس؛ فإذا كانت سياسة المواطنة بعيدة عن الشفافية، سيصاب المجتمع بالاضطراب، ولهذا يجب أن يُعدَّل ذلك.
بالمناسبة؛ أولئك الذين يعتقدون أن المجنسين سيعطون الأصوات لحزب العدالة والتنمية هم أيضًا مخطئون، فلنفترض أنه قد تم منح الجنسية لعشرة آلاف شخص، مقابل ذلك سيسحب ستة آلاف آخرين أصواتهم؛ حيث يظهر بحثنا أن حزب العدالة والتنمية هذه المرة سيخسر أكثر من 6000 صوت من ناخبيه بسبب ردود الفعل تجاه هذه القضية.
التعليم هو الخطوة الثالثة الأكثر أهمية في عملية الاندماج؛ وقد قامت تركيا بتغيير جذري في عام 2016. فحتى عام 2016، كان الأطفال السوريون يذهبون إلى المدارس التي تقدم التعليم باللغة العربية تحت اسم مركز التعليم المؤقت، وكان المعلمون سوريون أيضًا. في ذلك الوقت؛ عندما زادت قوة الحركات السلفية مثل تنظيم الدولة، بدأ شعبنا يشعر بالقلق، وقالوا: “لن يكون من المنطقي الاستمرار على هذا النحو”. وبدعم من الاتحاد الأوروبي، بدأ تعليم الأطفال في المدارس التركية.
في رأيي، هذه أهم الجهود المبذولة في عملية الاندماج؛ فأكثر من 750 ألف طفل يتلقون تعليمًا تركيًا، لكن هذا وحده لا يكفي، لأن مستوى التعليم العام للسوريين يبدو منخفضًا أيضًا، ويجب العمل على رفعه، ولن يكون من السهل على هذه الطبقة أن تشارك في عمليات الاندماج.
المجال المهم الآخر هو عالم العمل؛ فالسوريون يعملون لكنهم يعملون بشكل غير رسمي، وهذه ليست مشكلتهم فقط، فـ 30 بالمئة من سكان تركيا يعملون بشكل غير قانوني، وبالتالي من الضروري اتخاذ الترتيبات المتعلقة بحقوق العمل.
سيكون اللاجئون أحد أهم عناصر الانتخابات في تركيا لمدة تتراوح من 20 إلى 30 عامًا
في البداية تحتاج إلى شرح هذا الوضع للمجتمع التركي بطريقة أكثر شجاعة، والمعارضة المرشحة للسلطة ليس لديها ما تقدمه في هذه القضية سوى مشروع خيالي يحمل العنوان التالي: “سنعيدهم؛ سنصنع السلام مع الأسد، وسيرحلون”. لكن هذه المشكلة خرجت عن السيطرة بطريقة لم يعد بإمكانها أن تعود إلى مسارها الصحيح، لأنها تحولت إلى كعكة مهمة للسياسيين، فقد أصبح بيدهم ورقة تمكنهم من الضغط على الحكومة والحصول على دعم المجتمع، وبشكل أسهل بكثير من الضغط بورقة الاقتصاد والإرهاب والفساد، ويبدو أن السياسيين لن يرفعوا أيديهم عن تلك الكعكة بسهولة، وهذا يجعل الحكومة أكثر قلقًا بشأن أعمال الاندماج التي ينبغي القيام بها، وأنا أعلم أن بلديات حزب العدالة والتنمية تعمل لصالح اللاجئين، لكن لا أحد منهم يمكنه التصريح بذلك، لأنهم يقولون: “إذا قلنا هذا، فسوف نخسر الأصوات”؛ حيث إنهم لا يريدون حتى حضور الاجتماعات على المستوى الرفيع، بل يرسلون مسؤولين صغارًا بدلًا عنهم، لأن ظهورهم سينعكس سلبًا عليهم. وهذا ليس اليوم فقط؛ بل لمدة تتراوح من 20 إلى 30 عامًا؛ ستكون قضية اللاجئين في تركيا أحد أهم عناصر الانتخابات.
هل تُظهر أبحاثك علاقة واضحة بين الاستجابة لقضية اللاجئين والسلوك الانتخابي؟ لأنه في غازي عنتاب أو كيليس، حيث يتركز أكبر عدد من اللاجئين، لم يشهد حزب العدالة والتنمية انخفاضًا ملحوظًا في الأصوات. هل انتقاد الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه القضية في المجتمع يحتم على المعارضة الانخراط في السياسة بدلًا من مناهضة اللاجئين؟ هل يؤيد المناهضون للاجئين التصويت للمعارضة؟ وهل تعتقد أن المعارضة تقوم بشيء صحيح بإبقاء قضية اللاجئين على جدول أعمالها؟
أعتقد أن هذا منطقي. الذين من المرجح أن يشعروا بانزعاج تجاه السوريين هم أولئك الموجودين على الحدود، لكن عند النظر إلى ما حدث في غازي عنتاب، وهاتاي، وأورفا، وكيليس، وإلى الأصوات التي خسرها حزب العدالة والتنمية، نلاحظ أن الحزب قد خسر 7.5 بالمئة من الأصوات في تركيا خلال 10 سنوات، كانت نسبة فقدان الأصوات 8 في المائة في المدن الكبرى، مقابل 5 في المئة في الأماكن التي ذكرتها.
على الرغم من أن قضية اللاجئين تُناقش على نطاق واسع في تركيا، إلا أن تأثيرها السياسي كان محدودًا، لكنني أظن أننا على بعد خطوة واحدة من بقائها محدودة؛ ففي بحثنا الأخير سألنا المشاركين: “ما مدى تأثير السياسات المتعلقة باللاجئين على اختيارك؟” وكانت النتيجة 51 بالمئة، لكن عندما سألناهم عن ذلك العام الماضي كانت النتيجة 38 بالمئة. وإذا غير 5 في المئة، وليس 51 بالمئة، المنافسة بسبب مسألة اللاجئين، فإن الحكومة ستتغير. أي أن المسألة قد أصبحت خطيرة من الناحية السياسية. لذلك؛ فإن الحكومة عالقة في هذه القضية، والمعارضة ذاهبةٌ إلى أبعد من ذلك، لأن هذه القضية قد أصبحت وسيلة للتأثير على ناخبيهم والسعي لإنتاج قومية جديدة في تركيا، وقد بدأت خطابات الأحزاب الصغيرة، التي لن تتمكن من إظهار أي حضور في الانتخابات، تؤثر على الأحزاب المركزية، وهذا سيؤدي حتمًا إلى بقاء القضية لفترة أطول على جدول الأعمال.
السوريون في تركيا يتابعون النقاش عن كثب
لطالما تحدثنا عن القضية من وجهة نظر الأتراك والمجتمع التركي، لديكم أيضًاً دراسات حول ملفات السوريين. ما هي ملاحظاتك حول اندماجهم وتكيفهم في تركيا؟
بدأ السوريون القدوم إلى تركيا في 29 نيسان/أبريل عام 2011، وأنا أعمل في هذا المجال منذ عام 2013، وأجريت بحثًا يحاول فهم كل من السوريين والمجتمع التركي من خلال دراسات منتظمة بعنوان “مقياس السوريين”. لذلك دعني أخبرك باعتباري شخصًا يعمل على هذا الملف منذ سنوات: الاندماج في وضع مزدرٍ للغاية. ما هو الاندماج؟ السوري في تركيا بمن سيقتدي؟ الرجل المحترم في إسطنبول، الكردي في هكاري، أم اللاز في البحر الأسود؟ من سيشبه؟ ما هو المعيار؟ ما هي الشخصية التركية النموذجية؟ المسألة إشكالية للغاية.
وبالتالي فإن كل بلد يقوم بتنفيذ عملية الاندماج الخاصة به، لكن التعريف الأكثر تبسيطًا للاندماج أنه “حياة بدون مشاكل”، و10 سنوات من العيش بدون مشاكل تُعتبر تجربة جيدة، فعادة ما تكون المجتمعات قلقة بشأن بعض الأشياء؛ أولاً: سوف يأخذون فرص العمل، ثانيًا: لا نعلم من هم، ربما يحولون البلد إلى بؤرة للإجرام، وثالثًا: سيكون هناك تدهور في الخدمات العامة المستقبلية، المدارس والمستشفيات، وما إلى ذلك، ورابعًا: سوف تتلاشى هويتنا.
المخاوف الثلاثة الأولى للمجتمع لم تتحقق نوعًا ما؛ فالسوريون يعملون، لكنهم لا يأخذون الفرص من الأتراك، والسوريون يشاركون في الأحداث الإجرامية، لكن ليس بالشكل الذي كان متوقعًا، وسترى شيئًا من تدهور الخدمات العامة في عدد قليل من محافظات الجنوب الشرقي، لكن لا يوجد وضع يؤثر على تركيا بشكل عام. ماذا تبقى؟ بقي فقط المجال الشعبوي، فقدان الهوية، التركيبة السكانية، وما إلى ذلك… وهي المسألة التي تستغلها المعارضة، وهذا ليس مفاجئًا، فلقد حصل ذلك في مختلف بلدان العالم.
اسأل السوريين، “هل تشعر أنك مندمج؟”، فسيجيب أكثر من 90 بالمئة من السوريين في تركيا أنهم اندمجوا مع تركيا، لكن هذا ما يحدث للجماهير المهاجرة على أي حال؛ حيث يمكن أن تسأل تركيًّا في ألمانيا وسيقول: “لقد حققنا اندماجًا بنسبة 100 بالمئة”، وبالمقابل عندما تسأل الألماني سيقول: “لم يحدث ذلك أبدًا”، فالقادم يشعر بالاندماج، لكن صاحب الأرض لا يعتقد ذلك.
أعتقد أن السوريين في تركيا قد تجاوزوا التوقعات، وسرعان ما أصبحوا جزءًا من المجتمع، بل إنهم أصبحوا يشعرون بالأمان والسعادة. لكن الخطابات السياسية الأخيرة بدأت تُزعج السوريين بشكل خطير، فليس لديهم نية للعودة إلى سوريا، لكن فكرة الذهاب إلى البلد الثالث قد تعززت لديهم؛ حيث سألناهم: إذا فتحت تركيا الحدود، هل تذهبون؟ سيقولون: لا، لا مصلحة لنا في ذلك، وبعبارة أخرى يقولون: “إذا أردنا الذهاب، نذهب فقط بطريقة نظامية، لا نخاطر بحياتنا، لدينا حياة هنا، لماذا نفعل ذلك؟”.
ومع ذلك؛ يمكنني أن أرى بوضوح أن السوريين في تركيا يتابعون النقاشات الأخيرة عن كثب وهم متوترون للغاية، فعندما يصعدون إلى الحافلة، يخشون التحدث بالعربية فيما بينهم، ويعتنون بملابسهم وما إلى ذلك. بالطبع؛ قد يكون هناك من لا يفعل ذلك، ولكنهم يسعون جاهدين، ويفكرون في البقاء في هذا البلد. فعلى الرغم من كل الغموض الذي يعيشون فيه؛ ليس لديهم بلد يذهبون إليه، وحتى لو كانوا يريدون الذهاب إلى أوروبا، فلا مكان لهم هناك.
نشأ الانعزال الطبيعي
يُقال أنه مجتمع تركي لكنهم في النهاية تمكنوا من العيش معًا، لكن العائق الأهم هو الانعزال الذي حدث بشكل تلقائي لأن تركيا لم تضع خطة للتعايش منذ البداية؛ حيث دفعت عمليات الانعزال هذه إلى قيام السوريين بتأسيس شبكة تضامن كاملة فيما بينهم، مما ضيَّق العلاقة بينهم وبين المجتمع التركي، فلم يعودوا بحاجته، لديهم أناس منهم، لديهم حلاق، وبقّال، وجزار، وصديق، لذلك نحن بحاجة إلى أن ندرك هذا الانقسام، ونتبنى سياسات تعيق هذا العزل.
تحاول وزارة الداخلية القيام بشيء الآن؛ لكنها قد تأخرت كثيرًا؛ حيث يتحدثون عن سياسة التفريق، فسيحاولون أخذ أكثر من 25 بالمئة من السكان من منطقة ما وينقلونهم إلى أماكن أخرى، وهو أمر صعب للغاية، فأساسًا مسألة جمع الناس من مكان ما هو أمر صعب بحد ذاته، ثم ماذا؟ إلى أين ستأخذهم؟ سوف تتسبب بكارثة حقيقية، فإذا أخذت 5000 شخص من ألتينداغ في أنقرة، وتريد توطينهم في قيصري، أو ملاطية، سوف تقوم القيامة، ولا يمكن للسياسيين تبني هذه المخاطرة كسياسة، وبالتالي فهو أمر مستحيل.
الفترة القادمة ستكون عملية صعبة؛ فعندما ترفع المعارضة توقعات الناخبين، فإن الشعب لن يهتم لقضايا التعليم والاقتصاد وأهداف السياسة الخارجية، وبعد أن يصلوا إلى السلطة، سيقولون لهم فقط: “لقد قلتم أنكم سترسلونهم”، وستكون هذه المسألة أكبر الضغوط التي ستواجهها المعارضة، حتى أنني أخبرت أعضاء حزب الشعب الجمهوري، أنتم تقولون إننا سوف نرسلهم بالطبول والزرنة، لكنكم إذا لم تتمكنوا من إرسالها، فسيقوم الناس بقرع تلك الطبول في وجه حزب الشعب الجمهوري، فليس هناك فائدة من رفع التوقعات بشأن هذه القضية. ونحن نتجاهل شيئًا آخر؛ هذا الخطاب قد تحول إلى إساءة، وجعل تلك الجماهير أكثر انطوائية، وتشعر بمزيد من الاستياء والغضب تجاه المجتمع التركي، لكننا لا ندرك ذلك؛ يجب أن نكون أكثر حساسية تجاه هذا الموضوع.
نحن نبني أطول جدار في العالم حتى لا يأتي اللاجئون
ما هو موقع الأفغان في القضية؟ وهل أصبح الأفغان القشة التي قصمت ظهر البعير في قضية السوريين؟
هذا صحيح؛ بدأ الأفغان في القدوم إلى تركيا منذ عام 2014، لقد بدا أمن حدودنا ضعيفاً، وأصبح من السهل الدخول إلى تركيا، وقد دخلوا بالفعل، وانتشروا بشكل رئيسي في المناطق الريفية، وكانوا يعملون في أعمال مثل الرعي والعمل الزراعي. لكن التعاطف مع الأفغان كان أكبر. قيل إنهم “مثل الأتراك”، كان الأفغان مفضلين على العرب، خصوصًا وأن بعضهم أتراك أساساً. وبالتالي ازداد عدد الأفغان بشكل كبير، رغم أن تركيا لا تمتلك حدود برية مع أفغانستان. بعد ذلك خلق وصول طالبان إلى السلطة المزيد من القلق في المجتمع التركي؛ وعندها بدأ تدفق أعداد كبيرة من الأفغان يظهر في وسائل الإعلام التركية، وفجأة بدأ المجتمع يقول: “هل أصبحت بلدنا مباحة للجميع؟”؛ “لقد أصبح الوضع خارج نطاق السيطرة”.
السوريون يأتون مع عائلاتهم، لكن الأفغان غالبًا ما يأتي شبابهم بشكل فردي، وذلك بسبب الظروف الجغرافية والأموال التي تُمنح للمهربين وصعوبة المرور عبر المعابر الحدودية، يأتي الشاب أولًا، وبطريقة ما يحصل على إقامة قانونية، ثم يجلب زوجته وأطفاله، هذا الأمر أيضًا قد خلق قلقًا حقيقيًّا لدى المجتمع التركي.
إذا انسحبت روسيا، سيختفي الاعتماد التركي على روسيا
كيف تعتقد أن التطورات التي أثارها الغزو الروسي لأوكرانيا تؤثر على وجهة النظر تجاه قضية اللاجئين في العالم وفي تركيا؟ هناك الآلاف والملايين من الأوكرانيين الذين يلجأون إلى الدول المجاورة. وقد ناقش الرأي العام؛ رفض اللاجئين السوريين، مقابل الترحيب باللاجئين الأوكرانيين. كيف يؤثر ذلك على التصور العام للاجئين؟ بالإضافة إلى ذلك، إذا أدى الضغط الدولي الذي تتعرض له روسيا إلى إضعاف نفوذها في سوريا، فهل ستتغير الديناميكيات في سوريا؟ وهل سيكون هناك وضع يفضي إلى عودة اللاجئين؟
حسنًا، هذه العملية لها بُعدان. اسمحوا لي أولًا أن أتحدث عن البعد الدولي، لقد قال خبير ألماني تحدثت إليه اليوم: “وضع روسيا صعب، وربما لن تتمكن من البقاء في سوريا. لن تكون قادرة على تحمل تكلفة سوريا”، لكني لا أعتقد ذلك على الإطلاق، والسبب واضح، فتركيا دولة يمكنها تغيير جميع التوازنات في الأزمة الروسية السورية، وسوريا هي الجزء الأكثر أهمية في سياسة تركيا الروسية، وإذا انسحبت روسيا من سوريا، فستفقد قدرتها في الضغط على تركيا. وسيُرى انتقال تركيا إلى الجبهة المعارضة فورًا، وتكلفة هذا ستكون باهظةً جدًّا على روسيا. أنا لا أعرف كم تكلفهم سوريا الآن. في الواقع؛ ليس لديهم حشود عسكرية كبيرة، هم فقط يدعمون النظام السوري. لكن إذا انسحبت روسيا، فسوف يختفي اعتماد تركيا على روسيا؛ وقيمة هذا الاعتماد قيمة جدًّا لروسيا.
تحاول تركيا حاليًا تحقيق التوازن بين البلدين، لكن لو لم نكن داخل هذا الصراع في سوريا، ولو لم ندخل بعض المناطق في سوريا مع روسيا، ربما كنا سنتصرف بشكل مختلف كثيرًا، لا أتوقع أن ينسحبوا، لكن هذا الحساب يجب أن يؤخذ في الاعتبار من قبل المعارضة.
من الصعب جداً على الحكومة أن تقول: “نحن ننسحب من سوريا، لقد اتفقنا مع الأسد”؛ سيكون هناك 5 ملايين لاجئ مرشحون للهجرة، ولا شك في أنهم سيصبحون عبئًا إضافياً على تركيا. كما أن للانسحاب بُعدٌ كردي ايضًا؛ حيث سيقول القوميون في تركيا: لقد تركتوها لأمريكا ولحزب العمال الكردستاني، وبالتالي فإن الانسحاب من هناك سيكون أكبر مشكلة للحكومة المقبلة.
الآن دعنا نأتي إلى مسألة اللاجئين؛ ليس هناك شك في ذلك؛ لقد ميزوا بشكل خطير بين اللاجئين الأوكرانيين واللاجئين السوريين، فقد اتخذت بولندا موقفًا مثيرًا للاهتمام عندما رفضت الدعم من الاتحاد الأوروبي، وقالت: “هؤلاء إخوتنا، وسنعتني بهم”، ولقد تجاوز عدد الأوكرانيين في بولندا 2.5 مليون، فبولندا لديها ارتباط عاطفي مع أوكرانيا، كلاهما يكره الروس ولديهم مقاربة مفادها أنه إذا سقطت أوكرانيا، ستكون هي التالية. وبالتالي هناك علاقة تربطهم؛ طبعًا بالإضافةً إلى أنهم يملكون عيون زرقاء، ومثقفون، وأوروبيون، علاوةً على كونهم من الشعوب السلافية؛ أحد أكبر المجموعات العرقية واللغوية في أوروبا.
قد يتم تقليص الموارد القادمة إلى تركيا
هذه المسألة مطروحة أيضًا؛ الموارد المخصصة للاجئين في العالم ليست كبيرة جدًا، ولقد وصلت إلينا بعض الموارد حتى الآن؛ حيث بلغ إجمالي الموارد القادمة إلى تركيا ما يقارب 10 إلى 15 مليار يورو، وهناك 4.5 إلى 5 مليارات يورو أخرى قادمة من الاتحاد الأوروبي، وهناك حوالي 1 مليار دولار تأتي من أمريكا، وهناك موارد من أماكن أخرى أيضًا.
الآن أصبح هناك حاجة إلى تقديم الدعم للأوكرانيين أيضًا؛ فحاليًا أوروبا أو أمريكا أو اليابان؛ سيقومون بتوجيه الموارد إلى هناك بالقول: “لقد استقر الوضع في تركيا، أصبح بإمكاننا أن ندعم تركيا بدرجة أقل، لأن الأوكرانيين أكثر حاجة”، وبالتالي الموارد القادمة إلينا ستنخفض، وهذا احتمال كبير جدًّا.
لكن تركيا لديها ميزة واحدة فقط في هذا الصدد؛ سيفكر الأوروبيون: “إذا لم ندعم تركيا، سيأتي السوريون إلينا، وسندفع تكاليف أكبر، ولهذا السبب يتعين علينا دعم تركيا”، وهذه العقلية واضحة تمامًا، وبالتالي لا يمكنهم سحب دعمهم بالكامل عن تركيا، سيستمر الدعم، لكنه سيصبح أكثر محدودية وخاصةً من حيث الدعم المالي.
المصدر: بيرسبيكتيف