تحولت العشوائيات في البلاد العربية خلال العقود السبع الماضية إلى ظاهرة تلفت أنظار القاصي والداني، فالأمر لا يحتاج إلى جهد أو مشقة للتيقن من تفشي هذا الوباء الذي أصبح سمة رئيسية، لا للمناطق النائية والحدودية البعيدة فحسب، بل في عمق الحواضر وفي خواصر العواصم العربية الرئيسية.
النمو الحضاري المتسارع وغير الممنهج الذي شهدته المنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أفرز حزمة من المشكلات الديموغرافية المتزامنة مع واقع اقتصادي واجتماعي وأمني مترهل، كان من نتائجه المباشرة ظهور حزم من المناطق المأهولة بالسكان التي تفتقد للحد الأدنى من آدمية الحياة.
تشير التقديرات الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن هناك أكثر من 1.8 مليار شخص يعيشون في مناطق عشوائية ومساكن غير لائقة تفتقد للخدمات الأساسية مثل المياه وخدمات الصرف الصحي والكهرباء، كما أن معظمهم يواجهون تهديدًا بالإجلاء القسري والتشرد.
عربيًّا.. الوضع لا يقل مأساوية، فالملايين يعيشون في الهوامش، بيئات تفتقد لأبجديات البقاء على قيد الحياة، وإن كانت تتباين أسماؤها من دولة لأخرى: “إسكان العشش” كما هو في مصر، و”السكن غير اللائق” في المغرب، وفي الجزائر “البناء القصديري” وفي العراق “حواسم”، وفي اليمن “بيوت عشوائية”، لكنها تشترك في المضمون والمعنى، أنعاش موت على أجهزة التنفس الصناعي.
تعريفات متعددة
لم يستقر الخبراء على وضع تعريف واحد للعشوائيات، فقد تباينت المفاهيم وفق الزاوية التي استندت إليها الجهة المعرفة في تقديم مفهومها الخاص لهذا المصطلح بحسب رؤيتها الخاصة، فوفق الأمم المتحدة فإن العشوائيات هي تلك “المناطق المتهالكة والقديمة الواقعة داخل المدينة أو مستعمرات واضعي اليد التي تحتل أطراف المدن خارج المخطط العمراني وتعاني من عدم الاعتراف بها مثل الأكواخ والعشش”.
فيما يشير آخرون إلى أن المناطق العشوائية تطلق على التجمعات البشرية التي تتكون على أطراف المدينة بلا تخطيط أو نظام، وغالبًا ما تفتقر للخدمات الأساسية (كهرباء – مياه – صحة)، وقد أنشئت تلك التجمعات في غياب القانون وبعيدًا عن أي منهجية خططية أو شرعية.
وهنا يفرق الباحثون بين بعض الأنواع التي تندرج تحت عنوان “العشوائيات” الكبير من حيث الشكل وإن كان المضمون مختلفًا، كأن يتم التمييز بين السكن المخالف للقوانين والتجمعات السكنية الكبيرة التي تظهر كنتيجة لكوارث طبيعية أو سياسية أو غيرها من الأسباب الطارئة، كذلك التفرقة بين النمو الطبيعي والنمو العشوائي للمدينة.
الحق في السكن اللائق
تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 في مادته (25)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعام 1966 في مادته (11.1) الاعتراف رسميًا بالسكن اللائق كعنصر أساسي من عناصر الحق في مستوى معيشي مناسب.
ويُلزم هذا الاعتراف الدول الموقعة على تلك الاتفاقيات بضرورة توفير السكن اللائق لمواطنيها، وذلك من خلال إعلانات أو خطط عمل أو وثائق ختامية لمؤتمرات دولية، كما أكدت لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أن الحق في السكن اللائق لا ينبغي أن يفسر تفسيرًا ضيقًا، بل ينبغي النظر إليه على أنه الحق في العيش في مكان معيّن بأمان وسلام وكرامة.
ويرد توضيح لخصائص الحق في السكن اللائق أساسًا في تعليقَي اللجنة العامين رقم 4 (1991) بشأن الحق في السكن اللائق ورقم 7 (1997) بشأن عمليات الإخلاء القسري.
ويشمل الحق في السكن اللائق وفق المواثيق الدولية عددًا من الحريات منها:
– حماية الفرد من عمليات الإخلاء القسري ومن تدمير وهدم مسكنه تعسفًا.
– حق الفرد في عدم التعرض للتدخل التعسفي في مسكنه وحياته الخاصة وشؤون أسرته.
– حق الفرد في اختيار محل إقامته وفي تحديد مكان عيشه.
– حق الفرد في حرية التنقل.
ومن الاستحقاقات التي وفرتها تلك القوانين حماية للأفراد ولتحقيق الطمأنينة لهم عبر عدد من الضمانات: ضمان الحيازة، فلا يكون السكن لائقًا إذا كان القاطنون فيه لا يتمتّعون بدرجة من ضمان الحيازة توفر لهم الحماية القانونية من عمليات الإجلاء القسري والمضايقات وغيرها من التهديدات، كذلك الحصول على السكن اللائق على قدم المساواة ومن دون تمييز، والمشاركة في صنع القرارات المتصلة بالسكن على الصعيدين الوطني والمجتمعي.
ولأجل ذلك أنشأت لجنة حقوق الإنسان السابقة “ولاية المقرر الخاص المعني بالحق في السكن اللائق” في العام 2000 (بموجب القرار رقم 2000/9)، فيما قام مجلس حقوق الإنسان بآخر تجديد لها في العام 2020 بموجب القرار رقم 43/14، للإشراف على مدى التزام الدول بتوفير هذا الحق.
نصف منطقتنا عشوائيات
تعد المنطقة العربية واحدة من أكثر بقاع العالم احتضانًا للعشوائيات، ففي 2014 أكدت دراسة مصرية أن نحو 54% من الدول العربية مناطق عشوائية، فيما طالبت بتأسيس وزارة تسمى “التنمية الحضرية” في مختلف البلدان العربية، هدفها الرئيسي البحث عن حقوق سكان هذه المناطق الذين يتجاوز عددهم عشرات الملايين في معظم دول المنطقة.
الدراسات العمرانية التي تؤرخ للعمارة والتطور الحضري والبنائي للعرب، وأبرزها تلك الصادرة عن “المعهد العربي لإنماء المدن” تشير إلى أن العشوائيات في الدول العربية بدأت أول الأمر على أطراف المدن ذات الكثافة السكانية العالية كالقاهرة ودمشق والدار البيضاء، ثم امتدت بعد ذلك إلى الدول النفطية الخليجية.
وفي بحث للأستاذ بكلية التخطيط العمراني، جامعة القاهرة، محمد يوسف، تحت عنوان “العشوائيات والتجارب العربية والعالمية” كشف أن نحو 60% من العشوائيات في المجتمع العربي توجد على أطراف المدن و30% توجد خارج النطاق العمراني، وتوجد 8% وسط العاصمة، فضلًا عن أن 70% من تلك العشوائيات شيدت بطريقة فردية و22% شيدت بطريقة جماعية.
أسباب الظاهرة
واستعرض خبير التطوير العمراني بجامعة القاهرة من خلال بحثه أبرز الأسباب وراء انتشار العشوائيات في المنطقة العربية على رأسها الانفجار السكاني الكبير الذي يفوق الوحدات السكانية الموجودة، بجانب الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر والنزوح الكبير الذي بدأ في الانتشار خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
هذا بخلاف ارتفاع أسعار الأراضي داخل المدن وكذلك ارتفاع أسعار مواد البناء التي جعلت من بناء وحدة سكنية مسألة شاقة لا يقدر عليها السواد الأعظم من قاطني البلدان العربية، في ظل انخفاض الدخل الذي قابله انخفاض القيمة الإيجارية، ما جعل الكثيرون يقبلون على الإيجارات، فضلًا عن توافق نمط معيشة وسلوك القادمين من الأرياف مع طبيعة الحياة في المناطق العشوائية، الأمر الذي زاد من رقعتها الرأسية والأفقية.
وتذهب العديد من الدراسات في تفسيرها لنمو العشوائيات المتزايد إلى عدم تنفيذ القوانين الخاصة بالمباني، كونها أبرز الأسباب وراء تفشي تلك الظاهرة، في مقابل تقاعس الأجهزة الحكومية المعنية عن تنفيذ القانون بحسم، والتراجع الواضح في معدلات الاهتمام بالتنمية الإقليمية التي تهدف إلى إعادة توزيع سكان البلاد والخروج من الوادي الضيق إلى مجتمعات جديدة تستقطب تيارات الهجرة.
ومن الأسباب الواضحة التي أقرتها الأبحاث التي تطرقت لتلك المسألة: الفساد الإداري، الذي يعد الباب الكبير لانتشار المناطق العشوائية التي تتسع رقعتها على مرأى ومسمع من أجهزة الدولة التنفيذية وأذرعها المحلية دون أن تحرك ساكنًا، وهو ما شجع الأفراد على التمادي فيها دون رادع أو أي اعتبارات أخرى.
تداعيات
تُفرز العشوائيات موجات متلاطمة من المشكلات على المسارات كافة، اجتماعية وصحية واقتصادية، فضلًا عن المشكلة الأمنية التي يعتبرها البعض الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمعات فيما وصفها خبراء بأنها “قنابل موقوتة” في إشارة إلى المناطق العشوائية برمتها.
المنتدى الإستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية (دراية)، وهو مؤسسة مستقلة معنية بدراسات النمو والتنمية، استعرض في دراسة حديثة له عن “التجربة المصرية في القضاء على العشوائيات” أبرز الأزمات الناجمة عن انتشار تلك المناطق منها: انتشار قيم وعادات سلبية داخل المناطق العشوائية تختلف عما هو سائد في المجتمع، انخفاض المستوى التعليمي وارتفاع نسبة الأمية التي بلغت في بعض الدول 29%، فضلًا عن تدني نسب التعليم المتوسط والجامعي حيث – لم تتعد 20% فقط في بعض البلدان -.
هذا بجانب تسرب الأطفال من التعليم وزيادة نسبة عمالة الأطفال والتحاقهم بأعمال غير ملائمة، انتشار ظاهرة الزواج المبكر، انتشار الفقر، ارتفاع نسبة الجريمة نتيجة لارتفاع معدلات البطالة، تفشي مختلف صور الانحراف والتطرف الديني والأخلاقي والاجتماعي، إضافة إلى انتشار المشاكل النفسية والحقد الطبقى لسكان تلك المناطق على المجتمع.
أما المشكلات الصحية فتنحصر في عدم توافر المستشفيات والمراكز الطبية بالعدد الكافى وانخفاض القدرة الاستيعابية لها سواء من ناحية الإمكانات المادية والأسرة والأجهزة أم من ناحية الإمكانات البشرية المتمثلة في الأطباء والممرضين، كذلك انتشار الكثير من الأمراض خاصة الصدرية وأمراض الإسهال والتيفود والالتهاب الكبدي الوبائي وشلل الأطفال وأمراض معوية مثل الإسكارس نتيجة عدم توافر المياه النقية والصرف الصحي.
وعلى المستوى الاقتصادي فتتقلص الرقعة الزراعية جراء الزحف العمراني العشوائي عليها، وينتشر العمل ذو الإنتاجية المنخفضة والعائد الضعيف، مع زيادة الضغط على شبكات المرافق والبنية الأساسية والطرق والمواصلات، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة بأشكالها المختلفة.
وتشير دراسات أصدرها المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة إلى أن انتشار العشوائيات يتسبب في إحداث خلل اجتماعي ونفسي وأمني في المجتمعات، كما يساعد على تفشي مسارات الانحراف المختلفة ويغذي انتشار الجريمة بشكل متسارع، هذا بجانب ما يحمله من مخاطر على النسيج المجتمعي ربما تهدد تماسكه مستقبلًا.
وتعكس التقارير الصادرة عن وزارات الداخلية في البلدان العربية سنويًا انتشار معدلات الجريمة في المناطق العشوائية مقارنة بغيرها، فضلًا عن انتقال تلك العدوى للمناطق الحضرية والمدن التي تصنف على أنها “آمنة” بشكل كافٍ، وهو ما حذر منه أساتذة وخبراء علم الاجتماع على مدار السنوات الماضية، وكان نقطة الانطلاق الأولى نحو إعادة النظر في ظاهرة العشوائيات وضرورة وضع خطة ممنهجة للقضاء عليها في أقل وقت ممكن ومحاولة تحجيم تداعياتها السلبية.
مصر.. 45 مليون يقطنون العشوائيات
تتصدر مصر قائمة الدول العربية الأكثر احتضانًا للعشوائيات، التي تبلغ مساحتها نحو 160.8 ألف فدان تمثل 38.6% من الكتلة العمرانية لمدن الجمهورية (37.6% مناطق غير مخططة، 1% مناطق غير آمنة)، تتصدرها محافظة الإسكندرية بـ20.1 ألف فدان تمثل 12.5%، تليها محافظة القاهرة 19.4 ألف فدان تمثل 12%، ثم محافظة الجيزة 15.5 ألف فدان تمثل 9.6% من إجمالى مساحة المناطق العشوائية.
وتحتل المرتبة الـ65 عالميًا من بين 134 دولة في مؤشر أكثر دول العالم أمانًا في 2021، كما حققت المركز الـ8 عربيًا والـ69 عالميًا في مؤشر أفضل الدول في جودة الحياة 2021، ورغم التقدم الذي أحرزته في الترتيب العالمي خلال العامين الماضيين، فإن الأوضاع لا تزال سيئة إلى حد كبير.
وتتباين التقديرات بشأن عدد سكان العشوائيات في المحروسة، ما بين 40 – 60 مليون مواطن، فيما أكدت وزيرة التطوير الحضاري والعشوائيات سابقًا، ليلى إسكندر، في تصريح لها عام 2014، أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن هناك 45 مليون مصري يعيشون في العشوائيات.
وتنتشر العشوائيات في 226 مدينة مصرية من إجمالي 234 مدينة، ما يعني أن هناك 8 مدن فقط خالية من المناطق العشوائية في محافظات: السويس والشرقية وكفر الشيخ والجيزة، وتنقسم العشوائيات في مصر إلى قسمين: غير مخططة وغير آمنة.
تبلغ مساحة المناطق العشوائية غير المخططة 156.3 ألف فدان تمثل 97.2% من إجمالي مساحة المناطق العشوائية بحسب إحصاء 2016، تتصدرها المحافظات الثلاثة الكبرى: الإسكندرية 12.8% والقاهرة 11.8% ثم الجيزة 9.8%، فيما يبلغ إجمالي عدد المناطق العشوائية غير الآمنة 351 منطقة، يشغلون نحو 4.5 ألف فدان، وتمثل 2.8% من إجمالي مساحة المناطق العشوائية، يتصدرها الرباعي (القاهرة والإسماعيلية وجنوب سيناء والدقهلية) الذي يستحوذ على 55.4% من إجمالي مساحة المناطق العشوائية غير الآمنة على مستوى الجمهورية.
أما المناطق العشوائية غير الآمنة فتنقسم إلى مستويات حسب درجة الخطورة، فيبلغ عدد المناطق ذات الخطورة من الدرجة الأولى 251 منطقة تمثل 71.5% من إجمالي عدد المناطق العشوائية غير الآمنة، تليها المناطق ذات درجة الخطورة الثالثة بعدد 59 منطقة بنسبة 16.8%، وتمثل مناطق درجتي الخطورة الأولى والرابعة 11.7% من إجمالي المناطق العشوائية غير الآمنة.
العشوائيات في مصر لا تنحصر في المساكن وفقط، فهناك كذلك أسواق عشوائية ويتجاوز عددها 1099 سوقًا تحتوي على 305.6 ألف وحدة، حسب تقديرات 2015، تتصدرها محافظة القاهرة بعدد 134 سوقًا عشوائيًا تليها محافظتي الإسكندرية والجيزة بعدد 83 سوقًا عشوائيًا لكل منهما، في حين تأتي محافظات مطروح وجنوب سيناء والوادي الجديد فى المراتب الأخيرة بعدد 12، 7، 2 سوق عشوائي، فيما تخلو محافظتا البحر الأحمر وشمال سيناء فقط من أي أسواق عشوائية.
المغرب.. 5 ملايين بأحياء الصفيح
عرف المغرب العشوائيات بعد الاستقلال منتصف ستينيات القرن الماضي، تسارعت وتيرة تمددها الأفقي بداية من الثمانينات لتصل اليوم إلى مستويات قياسية تهدد حياة الملايين من أبناء المملكة، رغم الجهود التي تبذلها الرباط لتقليم أظافر هذه الظاهرة التي استطاعت إجهاض معظم محاولات المعالجة على مدار السنوات الماضية.
ووفق تقديرات المجلس الأعلى للحسابات فإن هناك أكثر من 900 ألف أسرة مغربية بما يصل إجماليها إلى 5 ملايين نسمة يعيشون في مناطق عشوائية أو كما يطلقون عليها “أحياء الصفيح”، وتشكل تلك النسبة اكثر من 30% من سكان الحضر، وبطبيعة الحال ترتفع في الأرياف والمناطق النائية.
وتسمى الأحياء الصفيحية في المملكة بأسماء عدة أبرزها “دواوير” أو “براريك” أو “كاريانات”، وتعد العاصمة الرباط أكبر مدن المغرب احتضانًا للعشوائيات، إذ يصل عدد البرك بها 36 ألف براكة (سكن عشوائي)، تليها مدينة الصخيرات (شمالًا) بقرابة 20 ألف براكة حسب بيانات وزارة الإسكان.
وتتخذ وحدات السكن العشوائية في البلاد صورًا عدة، على رأسها أحياء الصفيح والقصدير على هوامش المدن التي يعيش بها قرابة 13% من سكان المناطق الحضرية، يليها السكن غير القانوني وهو السمة الأبرز لمن لا يستطيعون الحصول على سكن قانوني، ثم السكن المتقادم في المدن التاريخية القديمة، ومن بعده السكن القروي الهامشي، ثم تجمعات الخيام (المدن الشرقية)، بجانب أنواع أخرى كالأكواخ وجراجات السيارات.
ينص الدستور المغربي في فصله الحادي والثلاثين على حق المواطنين في تملك سكان لائق، ضمن الحقوق التي ينبغي أن تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين منها.
وعليه تبنت المملكة في 2004 بعد تفجيرات 16 مايو/أيار 2003 بالدار البيضاء، برنامجًا لمحاربة العشوائيات تحت عنوان “مدن بدون صفيح”، يهدف إلى تحسين ظروف سكن ما يزيد على 1.8 مليون شخص في 85 مدينة، والقضاء نهائيًا على دور الصفيح بحلول 2020، لكنه البرنامج الذي لم يحقق الهدف منه بحسب وزير الإسكان المغربي.
اللافت أن الحكومة لم تفشل فقط في معالجة العشوائيات وتقليل مساحتها، بل على العكس من ذلك شهدت المملكة خلال السنوات الماضية تزايدًا في عدد أحياء الصفيح حيث تم تسجيل 150 ألف سكن صفيحي جديد في المدن المغربية بحسب المعلومات التي ناقشها البرلمان قبل عامين لمحاسبة الحكومة على فشلها في التعاطي مع تلك الأزمة.
ويرى رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، عبد الإله الخضري، أن أسباب تفشي العشوائيات في بلاده متنوعة، معددًا إياها في تصريحات سابقة له بأنها خيوط متشابكة ومركبة “يختلط فيها القصور التصوري بتراكم الأخطاء السياسية والتخطيطية، وبالفساد الإداري وإكراهات الحاجة الملحة في السكن بالنظر إلى النمو الديمغرافي المتنامي، فضلًا عن الهجرة القروية نحو الهوامش الحضرية”.
ويحمّل الخضري صانع القرار مسؤولية هذا الفشل الذريع في معالجة تلك المعضلة التي تلتهم موارد الدولة وتقوض خططها التنموية مضيفًا “المواطن مغلوب على أمره، وحقه في السكن مكفول بمنطوق الدستور، لكن قوانين حماية وتفعيل هذا الحق على أرض الواقع ضعيفة الأثر والفعالية”.
نصف أحياء سوريا عشوائيات
تعد سوريا واحدة من الخمس الكبار عربيًا من حيث عدد العشوائيات وما تمثله نسبة إلى مساحة البلاد الإجمالية، حيث تشير أرقام المكتب المركزي للإحصاء في البلاد أن المناطق العشوائية تمثل نحو 50% من إجمالي مساحة سوريا، يقطنها ما بين 15-18% من إجمالي عدد السكان.
وتتأرجح العشوائيات بين المناطق النائية والعواصم الكبيرة، فالأمر لم يعد مقتصرًا على المحافظات الحدودية أو الريفية كما هو معهود في السابق، فالوضعية السورية مختلفة إلى حد كبير، إذ تزداد رقعة العشوائيات في المدن الرئيسية عن نظيرتها في بعض المحافظات النائية، فتمثل 30% من مساحة دمشق، وفي بعض التقديرات أكثر من ذلك، يسكنها 45% من سكانها، كما تمثل 35% في حلب وما بين 35 – 40% في حمص.
وعرفت سوريا العشوائيات منذ خمسينيات القرن الماضي، منذ بدايات التهجير الداخلي للسكان الناجم عن الصراعات (تهجير العرب السوريين من الجولان عام 1967، وكذلك النازحين عقب الحرب مع “إسرائيل” عام 1973، الهجرة الفلسطينية بين عامي 1948 و1967، وهجرة اللبنانيين بين 1984 و2006، والعراقيين بين أعوام 1990 و2008)، ومع التوسع السكاني زادت مساحات المناطق السكانية التي تفتقر للخدمات والمرافق الأساسية، وتشير إحصاءات برنامج الأمم المتحدة إلى زيادة المناطق العشوائية في البلاد بنسبة 220% خلال الفترة من 1994 وحتى 2010.
الأمر ازداد سوءًا بعد 2011، فقد أدى القمع الوحشي الذي انتهجه نظام بشار الأسد ضد الثورة إلى تفاقم ظاهرة العشوائيات، فالممارسات العنصرية التي يمارسها الجيش النظامي السوري بحق المدنيين والمعارضين للأسد أسفرت عن نزوح أعداد كبيرة منهم إلى المحافظات الحدودية النائية، حيث شكلوا تجمعات سكنية تفتقد للحد الأدنى من أسس الحياة الكريمة ودشنوا كيانات عقارية غير قانونية هربًا من ويلات الحرب ونيران الأسد، فضلًا بالطبع عن المخيمات التي يمكن إحصاء المئات منها.
ورغم صدور المرسوم التشريعي الصادر في 2012 الذي يقضي “بإزالة الأبنية المخالفة مهما كان موقعها ونوعها، وفرض غرامة مالية وعقوبة بالسجن تصل إلى سنة على كل من تثبت مسؤوليته عن المخالفة” فإن ذلك لم يمنع من التمدد العشوائي على المستويين الرأسي والأفقي حتى في مناطق سيطرة الأسد، في ظل غياب سلطة القانون وسيادة الرشى والمحسوبيات واستشراء الفساد على كل المستويات.
التقديرات كانت تشير إلى أن سكان العشوائيات قبل 2011 كانوا يمثلون نحو 30-40% من إجمالي عدد السكان، وهو ما يمكن الاستناد إليه في قراءة المشهد حاليًّا وزيادة تلك النسبة بصورة كبيرة في ظل الاضطراب السياسي والأمني والاقتصادي الذي تحياه البلاد، وهو ما دفع، محرّر المجموعة والمدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي، نديم حوري، إلى الإشارة إلى أن “أي نقاش عن إعادة الإعمار بحاجة إلى أن يأخذ بعين الاعتبار واقع العشوائيات في سوريا، حيث كان يعيش معظم النازحين”، مضيفًا “إحدى أبرز النتائج التي توصلنا إليها هي أن الحكومة السورية وجدت في واقع العشوائيات الهائل المحيط بالمدن السورية – الذي سبق نشوب الصراع – ثغرةً يمكنها من خلالها تعزيز مصالح بعض حلفائها على حساب حقوق السكان المحليين”.
الدراسات التي تطرقت إلى بحث ملف العشوائيات ضمن مبادرة “الإصلاح العربي” التي انطلقت عام 2021 كشفت عن بعض التحديات التي تواجه حل تلك المعضلة أبرزها: “عدم تسجيل كل الأراضي بشكلٍ أصولي في السجل العقاري”، فهناك مساحات ما زالت غير محددة ومحررة، بما يعني أنه ليس لها رقم، ومن ثم فهي أرض بلا هوية.
هذا بجانب أن معظم المناطق التي تقطنها المعارضة تدخل ضمن حزم المناطق العشوائية، حيث لا تسجيل للوحدات ولا بيانات خاصة بها، كما أن ملكية الكثير منها غير قانوني، وهو ما يعمق الأزمة التي تفتقر في أصلها إلى الجانب المعلوماتي الذي يمثل أحد أضلاع تشخيص الداء تمهيدًا لوضع علاج مناسب له.
في حي مساكن برزة (شمال دمشق) يكشف الناشط السوري مراد مارديني في حديث صحفي له واقع النازحين هناك وتفشي سرطان العشوائيات، لافتًا إلى أن نزوح أعداد كبيرة من السكان من مناطق الاشتباكات خاصة تلك المتاخمة كبرزة والقابون وحي تشرين، عمق من الأزمة، هذا بجانب غلاء إيجارات العقارات النظامية التي تبدأ من ستين ألف ليرة سورية (نحو 120 دولارًا) لمنزل مؤلف من غرفتين، وترتفع مع ازدياد مساحة المنزل، ما دفع الكثير من النازحين إلى الميل نحو المساكن العشوائية الأقل كلفة.
وعزا الناشط السوري انتشار هذه الظاهرة إلى الفوضى والانفلات الأمني الذي تشهده العاصمة دمشق مع غياب سلطة القانون، “مما سمح لمالكي الأراضي ببناء منازل أو إضافة طوابق جديدة”، رغم ما تمثله تلك المخالفات من مخاطر كبيرة على حياة عشرات الآلاف من ضحاياها، هذا في دمشق العاصمة، فكيف يكون الوضع في الريف والمناطق الحدودية.
العراق.. 4000 عشوائية
لا يختلف الوضع في العراق عن نظيره في الدول العربية المجاورة، فالعشوائيات ربما تكون الظاهرة الوحيدة التي تحافظ على ثبات خطواتها التقدمية، يقابل ذلك تراجع حاد في معظم مسارات الدولة من سياسة واقتصاد وأمن فضلًا عن التداعيات السلبية للعوامل المناخية والبيئية والمستجدات الدولية والإقليمية التي زادت من أوجاع المشهد.
وقد كشفت وزارة التخطيط العراقية على لسان المتحدث باسمها عبد الزهرة الهنداوي، في تصريحات لوكالة الأنباء العراقية الرسمية، أن عدد المناطق العشوائية في البلاد في أحدث إحصاء لها تجاوز 4 آلاف منطقة منتشرة في المحافظات كافة، يقطنها نحو 3.3 مليون شخص.
التصريحات أشارت إلى تصدر العاصمة بغداد قائمة المدن الأكثر عشوائية، إذ تمتلك 522 ألف وحدة سكنية تصنف بأنها عشوائية، هذا بخلاف أعداد أخرى من الوحدات لا يشملها الإحصاء، الأمر الذي يشير إلى وضعية أكثر سوءًا في المحافظات البعيدة خاصة تلك التي كانت تعاني من اضطرابات أمنية وسياسية خلال العقد الأخير.
الباحث العراقي رعد هشام، أرجع انتشار العشوائيات في بلاده إلى عدة عوامل على رأسها هجرة أبناء القرى والريف والمناطق النائية إلى المدن، ما سبب ضغطًا على الخدمات والمرافق فضلًا عن محدودية الوحدات الملائمة مقارنة بالأعداد النازحة، ما دفع كثيرًا منها إلى اللجوء للمناطق غير القانونية التي تفتقد إلى الخدمات العامة.
هذا بخلاف العوامل البيئية الخاصة بتأثير ظواهر الجفاف والتصحر والشح المائي، بجانب فساد الطبقة السياسية الحاكمة على مدار عقدين من الزمن الذي أفشل جهودها في معالجة تلك المعضلة التي زادت من معدلات الجرائم والتفكك الأسري والمجتمعي وانتشار الأمراض المجتمعية في البلاد.
وقد حمّل الباحث السلطات العراقية الحاليّة والسابقة وزر هذا الواقع المتردي، حيث الافتقار إلى البرامج التنموية العاجلة والمدروسة، لتخرج كل المخططات السابقة صفر النتائج، وتُهدر المليارات المخصصة للتطوير في مظاهر بذخ وفساد ووعود انتخابية لا تفارق شعاراتها.
وقد تبنت الحكومة مؤخرًا ممثلة في وزارة التخطيط قانون “تسوية السكن” لمعالجة العشوائيات، الذي يعتمد على محورين أساسيين: الأول الحد من انتشار العشوائيات والثاني وضع مجموعة من الآليات والإجراءات وفقًا لطبيعة كل عشوائية، ومن المقرر أن تقوم الوزارة بمسح اقتصادي واجتماعي شامل للعشوائيات، بغية الوقوف على طبيعة بنائها وتنظيمها، فيما يترقب الشارع العراقي مخرجات هذه الخطة.
نصف اليمنيين في مساكن آيلة للسقوط
تنمو ظاهرة العشوائيات في اليمن أو كما تسمى “البيوت العشوائية” بشكل هائل منذ خمسينيات القرن الماضي، الأمر الذي يضع حياة الملايين من اليمنيين على المحك خاصة أن تلك الوحدات تفتقر للحد الأدنى من الخدمات، وشريحة كبيرة منها تفتقد للمياه والكهرباء، فضلًا عن الخدمات الصحية.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 50% من مساحة المدن والمحافظات تندرج تحت مسمى العشوائيات، تتصدرها العاصمة صنعاء التي يعيش بها 1.5 مليون نسمة يمثلون نصف سكانها في منازل آيلة للسقوط، وترتفع تلك النسبة في المناطق الأخرى لتصل في بعض الأحيان إلى 90% وربما أكثر.
الدراسات الميدانية التي تعدها الجهات الرسمية والخاصة على حد سواء تذهب إلى أن الجزء الأكبر من سكان المدن اليمنية الرئيسية (صنعاء – عدن – تعز – الحديدة) يعيشون في مساكن قديمة آيلة للسقوط تعود إلى فترة الاحتلال البريطاني، بما فيها المدن الساحلية.
ويحمّل خبير الاستشعار عن بُعد في وزارة الاتصالات اليمنية، سامي محب الدين، التخطيط العشوائي وغياب العقلية القادرة على وضع برامج تنموية جيدة مسؤولية تفاقم الأزمة، وهو ما يقود في النهاية إلى تحويل البلاد إلى منطقة طاردة للاستثمارات، بجانب ما آلت إليه منذ الحرب بين قوات التحالف والحوثيين في 2015 حيث باتت دولة طاردة للسكان بعدما تحول معظمهم إلى نازحين لدى دول أخرى.
خبراء التخطيط يرجعون انتشار العشوائيات حتى داخل المدن الرئيسية إلى تجاهل الدولة للمشكلة برمتها، ومن ثم غابت عن جدول أعمال اهتماماتها، وهو ما تترجمه التوجهات العامة والسياسات التي تتبناها السلطات المتعاقبة التي لا تلتفت بأي شكل من الأشكال إلى هذا الملف رغم ما يحمله من قنابل موقوتة.
ووفقًا للباحثة في المجال البيئي فتحية نجاد، فإن الموازنة العامة لليمن لا تتضمن في أي من بنودها ما يتعلق بتحسين مستوى سكن المواطنين ومعالجة سوء الخدمات في المساكن العشوائية، لافتة في تصريحات لها أن “غياب الاهتمام بالتخطيط، ومعالجة الأحياء العشوائية والمهددة بالسقوط يدل على أن هناك خللًا في خطط التنمية”.
السودان.. شكوك بشأن نوايا الإصلاح
تعود أزمة العشوائيات في السودان إلى أوئل الستينيات، حين ضربت موجة الأمطار الرعدية الخرطوم وتسببت في نزوح عشرات الآلاف بعدما أغرقت منطقة الصحافة ومناطق أخرى، لتتحول العاصمة وهي التي يفترض أن تكون على قمة الهرم التخطيطي العمراني للبلاد إلى بؤرة عشوائية يصعب تفتيتها.
وعلى جنبات العاصمة تنتشر الأكواخ المصنوعة من الخشب ومخلفات المباني، بل وصلت في بعض المناطق إلى قلب الخرطوم التي تستقبل يوميًا بحسب الإحصاءات قرابة 150 أسرة نازحة من الولايات الأخرى هربًا من الوضع المعيشي المتدني والتوترات الأمنية التي تقود موجات النزوح، سواء إلى العاصمة أم خارج البلاد.
بلغت ذروة العشوائية في البلاد عام 1990 حين كان نحو 60% من السكان يسكنون في المناطق العشوائية، لكنها تراجعت خلال السنوات الأخيرة لتصل إلى 20% عام 2000 وصولًا إلى 8% خلال العامين الماضيين، وإن كانت تلك الأرقام محل تشكيك من البعض ممن يرون أن النسبة أكبر من ذلك بكثير وهو ما تؤكده العديد من الشواهد.
وكانت الخرطوم قد وضعت مخططًا عمرانيًا وإستراتيجيًا يفترض الانتهاء منه في 2023 يهدف إلى جعل العاصمة خالية من السكن العشوائي تمامًا، وعليه بدأت في سياسات تفريغ المناطق العشوائية في المنطقة الزراعية بالخرطوم بحري الصبابي (شمال الخرطوم) وما جاورها من المزراعين والعمال بدعوى أن المنطقة زراعية وغير صالحة للسكن وأنها أصبحت مأوى للخمور والمخدرات والجريمة.
ورغم أن سكان تلك المنطقة يقطنونها منذ ستينيات القرن الماضي ولهم كيانات اجتماعية وعائلية، فإن السلطات تصر على إخراجهم، الأمر الذي أثار شكوك البعض في نوايا غير حسنة تتعلق بتحويل تلك البقعة إلى مناطق استثمارية تدر على الدولة أموالًا طائلةً دون مراعاة للعنصر البشري الذي بلا شك سيضطر للنزوح إلى ولايات أخرى بما يعمق الأزمة التي إن انتهت من العاصمة فسوف تتعاظم في مدينة أخرى.
لبنان.. غياب الإرادة وراء تفاقم الأزمة
جولة واحدة داخل شوارع العاصمة بيروت تكشف حجم وعمق وتوغل ظاهرة العشوائيات داخل مفاصل الدولة، فتزاحم شاحنات البضائع والبروز الخاصة بالمحال التجارية التي تغلق الشوارع أحيانًا والأسواق الشعبية التي تخيم على الأجواء وانقطاع التيار الكهربائي معظم الوقت، كل هذا يؤكد أن شريحة كبيرة من اللبنانيين يعيشون في مناطق عشوائية حتى إن تم تصنيفها على أساس أنها مدن حضرية.
وبعد أن كانت “سويسرا الشرق” تحولت بيروت اليوم ومحيطها إلى ضاحية عشوائية بامتياز، مرورًا بمخيم صبرا وشاتيلا ومنطقة برج البراجنة ومخيم اللاجئين القريب منها، وصولًا إلى أحياء داخل العاصمة كحي اللجا وخندق الغميق، هذا بخلاف عدد من الأحياء التي تشكل بقعة زيتية عشوائية يصعب تجفيفها أبرزها حيّ السلم، الرمل العالي، حرش القتيل، حرش تابت والأوزاعي.
وفي الضاحية الجنوبية لبيروت تتجلى العشوائية في أقبح صورها، فهناك قرابة 700 ألف مواطن يقطنون تلك المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها 18 كيلومترًا مربعًا، ما يعني أن الكيلومتر الواحد يتسع لـ39 ألف نسمة وهو رقم كبير جدًا، فضلًا عن التزاحم اليومي المستمر، فهناك 180 مدرسة تحدث حالة من الهرج المروري والمرج الفوضوي.
وبحسب رئيس اتحاد بلديات ساحل المتن محمد سعيد الخنسا في تصريحات له في 2012 فإن العشوائيات في لبنان تنقسم إلى 4 أنواع: الأولى هي المباني القديمة المتمركزة أكثر في المنطقة التي تمتد من الأوزاعي حتى بئر حسن والمدينة الرياضية، أما الثانية فتلك الموجودة في المخيمات الفلسطينية، وتنطبق عليها شروط البناء السيئة الموجودة في السكن العشوائي، والنوع الثالث فيتمثل في المباني القديمة المتهاكلة الآيلة للسقوط، ثم المباني المستأجرة التي لا تخضع لعمليات صيانة أو ترميم.
كذلك يوجد أكثر من 1100 مخيم عشوائي للسوريين في لبنان، يلعبون دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة في ظل تجاهل الحكومة لتلك المشكلة وعدم وضع خطط لمعالجتها من جذورها عبر سياسات الدمج والتطوير العمراني، فضلًا عن تفشي الفساد داخل النخبة السلطوية الحاكمة، وهو ما يمكن أن يقود في النهاية إلى أوضاع أكثر كارثية.
الخليج.. الدول الغنية لم تسلم
حصر التمدد العشوائي في البلدان الفقيرة فقط حديث يفتقد للموضوعية، فها هي دول الخليج النفطية الغنية، صاحبة أعلى معدلات دخول في العالم، تعاني من الوباء ذاته وإن كان بمستويات أقل في حدتها، بما يؤكد أن الأزمة في حقيقتها أزمة تخطيط وإدارة أكثر منها أزمة موارد وإمكانيات مادية.
ففي السعودية، هناك مناطق بأكملها تندرج تحت مسمى “العشوائيات” تتأرجح بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، بل إن مدينة مثل جدة (غربًا) التي تعد واحدة من أكثر المدن تطورًا على المستوى العمراني والعاصمة الثانية للبلاد بعد الرياض، شهدت في فبراير/شباط الماضي حملة إزالة موسعة شملت 26 حيًا عشوائيًا بمساحة إجمالية 18.5 مليون متر مربع، بالإضافة إلى عدد من الأحياء الأخرى التي شمت أراضي وقف الملك عبد العزيز للعين العزيزية وعددها 8 أحياء بمساحة إجمالية 13.9 مليون متر مربع، بحسب ما أعلنته أمانة جدة.
ومن جدة إلى الرياض، حيث أدى ارتفاع الإيجارات وأسعار الوحدات السكنية مع تزايد موجات الهجرة من المدن النائية، إلى نشأة العديد من الأحياء الشعبية في العاصمة، لا سيما في الأطراف الشرقية منها، ومنها على سبيل المثال حي الفيصلية الذي يعد من الأحياء الفقيرة وغير المخطط لها، فضلًا عن ارتفاع نسب الأمية والبطالة بين سكانه بحسب دراسة للمعهد العربي لإنماء المدن.
وفي قطر لم يختلف الوضع كثيرًا، حيث انتشرت المناطق العشوائية خلال السنوات الماضية بعد زيادة عدد الأكشاك على حواف العاصمة الدوحة، وزحف المد العشوائي ليصل إلى وسطها حيث ظهرت الملاحق الهشة التي يتم بناؤها من الخشب والصفيح، وهو ما دفع الحكومة لتبني عدد من الخطط لإزالة تلك المناطق التي يخشى من تزايدها خاصة في المدن البعيدة نسبيًا عن العاصمة في ظل الارتفاعات الكبيرة في أسعار العقارات والإيجارات.
الأزمة ذاتها تفرض نفسها على المشهد الإماراتي لا سيما في المناطق الصناعية التي تتكدس بها ورش إصلاح السيارات ومحلات بيع قطع الغيار وغيرها من الوحدات العقارية التي تفتقد للحد الأدنى من الخدمات في بعض المناطق المتطرفة لدى بعض إمارات الدولة، بما يشكل “كانتونات”عشوائية مكتملة الجوانب يصعب اختراقها إذا استمرت في معدلات تناميها الرأسي والأفقي.
وفي الكويت رغم عدم وصول المناطق العشوائية إلى المعدلات التي قد تشكل خطورة على أمن واستقرار البلاد، فإن العديد من الأحياء الشعبية بدأت في الظهور في مناطق السالمية وصباح السالم، وأخرى في شرق القرين ومنطقة رأس عشيرج التي مثلت بؤرًا لانتشار الجريمة وموطنًا رئيسيًا للعاطلين عن العمل، هذا بجانب صعوبة سيطرة قوات الأمن عليها بسبب وضعيتها الجغرافية الوعرة وضيق الأزقة بها وعدم انتظام الطرق وتحديات معرفة دوربها.
تعاطي الحكومات مع الملف
استشعار الحكومات العربية الخطر إزاء ما تمثله هذه الظاهرة من تهديد واضح ومباشر لمستقبل الدول والمجتمعات على حد سواء، دفعها لتبني عدد من الإستراتيجيات الرامية إلى إزالة الأسباب وراء تنامي هذا الداء واستفحاله ومحاولة تقليم أظافره عبر تجفيف المنابع.
اللافت للنظر أن معظم الإستراتيجيات التي اتبعتها الحكومات العربية في علاج تلك الظاهرة استندت إلى استخدام القوة كلغة خطاب ثابتة لا تتغير، تتباين في شدتها من دولة لأخرى، ما بين إزالات بالجملة قهرًا وعنوةً، كما في السعودية وسوريا والسودان، وإرغام على الخروج تحت وطأة التهديد والوعيد والابتزاز كما هو الحال في مصر، وصولًا إلى الضغوط عبر تنغيص الحياة والحرمان من الخدمات كما في لبنان والعراق.
وافتقرت معظم تلك المعالجات إلى الخطط طويلة المدى التي تتعامل مع العشوائيات كداء مزمن يتطلب التشخيص الجيد أولًا للوقوف على حجم الأزمة بشكل دقيق، ثم وضع بروتوكلات علاج تختلف من حالة إلى أخرى حسب طبيعتها التي لا يمكن أن تتطابق مع غيرها في ضوء عدد من المحددات، مع الوضع في الاعتبار الالتزام بسياسة “المرحلية” حيث تقسيم العلاج إلى فترات زمنية متعاقبة تتجنب أسلوب الصدمة الذي يأتي في الغالب بنتائج عكسية.
بعض الحكومات اختزلت الحلول في إزالة ظواهر الأزمة المتمثلة في العقارات العشوائية وفقط، ونقل سكانها إلى مناطق أخرى أكثر آدمية، دون البحث في جذور المشكلة وعلاجها من قواعدها المتشعبة، وهو ما يجعل من تلك السياسات حلولًا مؤقتة سرعان ما تعيد معها الظاهرة مرة أخرى مستقبلًا، وإن كان بشكل أكثر خطورة، هذا بخلاف تجاهل البعد الإنساني والاجتماعي في العلاج وهو ما يؤدي في الغالب إلى زيادة الاحتقان الشعبي وتعزيز مسارات التفرقة والانقسام المجتمعي.
ففي مصر على سبيل المثال بدأت الدولة في التوسع فى مشروعات الإسكان الاجتماعي بهدف توفير وحدات سكنية ملائمة لمتوسطي ومحدودي الدخل وبأسعار مقبولة وفي متناول الجميع، عبر برامج للتمويل العقاري تحت رعاية صندوق الإسكان الاجتماعي الذي يستهدف بناء نحو مليون وحدة سكنية خلال السنوات القادمة.
وبالتوازي مع ذلك لجأت الحكومة المصرية إلى التصدي بكل حسم لمخالفات البناء والتعدي على الأراضي، كما أطلقت بعض المبادرات لتوفير وحدات ملائمة على رأسها مبادرة “حياة كريمة” التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي في 2 يناير/كانون الثاني عام 2019، ومبادرة “سكن لكل المصريين” لتوفير 3 ملايين وحدة سكنية للمواطنين من متوسطي الدخل، بفائدة سنوية لا تتجاوز 3% (متناقصة) لمدة تصل إلى 30 عامًا، ودخلت حيز التنفيذ بالفعل في 13 يوليو/تموز 2021.
لكن رغم كل تلك الجهود لا تزال الأوضاع المعيشية في مصر مؤشرًا خطيرًا يدفع للتشكيك في قدرة تلك المبادرات على علاج المشكلة المتوارثة منذ عقود طويلة من جذورها، وهو ما تكشفه الأرقام الرسمية الصادرة عن معدلات الفقر في مصر التي تقترب من حاجز الـ30%، أي أن هناك قرابة 30 مليون مصري يعيشون تحت مستوى خط الفقر.
الباحث المصري في علم الاجتماع السياسي، علي الرجال، المتخصص في الدراسات الأمنية، يرى أن هناك ثلاثة دوافع لنظام السيسي في تعامله مع ملف العشوائيات:
أولها: الطمع في أراضي العشوائيات داخل المناطق الشعبية القديمة لا سيما أنها تشكل ثروات وكنزًا عقاريًا واستثماريًا ضخمًا، ويصاحب هذا تحوّل الدولة، وتحديدًا الجيش، إلى مضارب في سوق الأراضي ومحتكر لها.
ثانيها: إحكام القبضة والسيطرة الأمنية على الحيز المديني، وبالأخص في ظل هاجس تكرار “ثورة يناير” مرة أخرى.
أما السبب الثالث والأخير فيتعلق بوجود مناطق خطرة يجب إزالتها، رغم أن ذلك ربما يمثل كارثة اجتماعية وأمنية محققة لا سيما أن بعض المناطق المراد إزالتها لها تاريخ كبير وامتداد عائلي ضارب بجذوره لمئات السنين، ومن أبرزها جزيرة الوراق بالجيزة.
وفي سوريا ربما يتطابق الوضع وإن كانت معدلات تفاقم الأزمة أكبر في ظل الانتهاكات التي يمارسها نظام الأسد، والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي دفعت بأكثر من 90% من إجمالي عدد سكان البلاد إلى آتون الفقر بحسب تقديرات وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث.
أما في لبنان، فالجهود المبذولة لعلاج تلك الأزمة سرعان ما تتحطم على صخرة فساد النخبة وغياب التخطيط وهو ما زج بأكثر من 60% من اللبنانيين إلى مستنقع الفقر وفق وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام الذي حذر من تفاقم التدهور إن لم يتم اعتماد خطة إصلاحات مالية واجتماعية عاجلة.
وفي العراق، فهناك 18 مليون مواطن يمثلون 40% من السكان البالغ عددهم 40 مليونًا يعتبرون فقراءً وفق البنك الدولي، هذا بخلاف 75% من إجمالي الشعب اليمني بعدما كانوا لا يتجاوزون 74% في 2014، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، وفي المغرب وصلت نسبة الفقر إلى 17% بعدما كانت في العام السابق تداعب حاجز الـ20% وفق تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط ومنظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي، وإن كانت تقديرات غير رسمية تشير إلى أن العدد أكبر من ذلك ومرشح للزيادة.
روشتة للخروج من الأزمة
وبشأن روشتة الخروج من تلك الأزمة، يرى خبير التنمية المحلي بجامعة القاهرة، محمود سالم، في حديثه لـ”نون بوست” أن التعامل مع ملف العشوائيات لا بد أن يسير في ثلاثة مسارات متوازية:
– المسار التشريعي: حيث ضرورة وجود مظلة تشريعية تحمي الدولة والمواطن معًا، تعطي الحكومة أحقية إزالة الأماكن التي يثبت بالتقارير الفنية خطورتها على حياة المواطنين، وفي المقابل تمنح المواطن حق الدفاع عن منزله أمام السلطات الرسمية حال كان التحرك مجحفًا ويبخس حقوقه المادية والعينية.
– المسار التنفيذي: وهذا يتطلب تنفيذ أحكام الإزالة الفورية لكل المناطق العشوائية بأحكام قضائية باتة، دون تركها بعد إخراج سكانها منها حتى لا تتحول إلى بؤر تشكل مخاطر أمنية على المجتمع مستقبلًا، مع التأكيد على عدم توظيف واستغلال تلك الأماكن في غير الأغراض المخصص لها، سواء بالاستثمار أم نزع الملكية بالكامل، وهذا يتطلب تخصيص قطاعات بأكملها داخل أجهزة الدولة التنفيذية للقيام بهذه المهام (شرطة ومحليات).
– المسار الاجتماعي: ويتعلق بضرورة توفير العدالة في عملية إزالة العشوائيات، فلا تنزع ملكية فرد دون تعويضه التعويض المناسب وليس التعويضات الجزافية التي تبخس الناس حقوقها، كذلك مراعاة البعد الإنساني بأن تعطى الأسر مساحة كافية من الوقت للبحث عن البديل وضرورة توفيره بالشروط الإنسانية المطلوبة.
وبالتوازي مع تلك المسارات على الدولة اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة – كما ذكرها مرصد المنتدى الإستراتيجي للسياسات العامة – منها:
– تطوير المناطق العشوائية مع المحافظات فى إطار اللامركزية.
– تطبيق مبدأ الشراكة مع الأهالي فى مشروعات تطوير المناطق العشوائية.
– دمج برامج تطوير المناطق غير المخططة مع المناطق غير الآمنة.
– تعدد الخيارات أمام سكان المناطق العشوائية للاختيار ما بين 3 بدائل (التعويض المالي – السكن البديل – العودة إلى المنطقة بعد التطوير).
– ضمان الحفاظ على الأحوال المعيشية والاقتصادية لسكان المناطق العشوائية.
– تشجيع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في مشروعات التطوير.
– إعداد مخططات لتوسيع الطرق الرئيسية وخلق أراضٍ فضاء للخدمات.
– الإزالة الكاملة للمناطق غير الآمنة التى تُشكل خطورة على حياة سكانها، ثم إعادة استخدام هذه المناطق في أغراض أخرى غير سكنية أو إزالتها وإعادة تخطيطها والبناء بشكل حضاري ثم إعادة توطين السكان مرة أخرى.
– التطوير الكامل لبعض المناطق العشوائية القابلة للتطوير في وجود قاطنيها وإمدادها بالمرافق اللازمة.
– إزالة أعمال البناء التي تخالف القانون، ضبط مخالفات واشتراطات البناء وضبط التعديات على الأراضي الزراعية وعلى أملاك الدولة.
– إعادة الثقة بين الدولة والمواطنين من الطبقات الفقيرة.
أخيرًا.. تبقى الإرادة السياسية هي الفيصل في حسم معركة العشوائيات في المنطقة العربية، خاصة بعدما باتت خطرًا يتجاوز حدود الزمان والمكان والقدرات الاقتصادية، تلك الإرادة التي تستطيع – إذا ما توافرت – في وضع خطط تنموية حضرية شاملة، لعلاج القصور الحاليّ بشكل عملي بعيدًا عن المسكنات التي تؤجل الصدام ولا تمنعه.