تجددت التحذيرات والمخاوف من احتمالية عرقلة روسيا قرار تمديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى إدلب شمال غربي سوريا في مداولات مجلس الأمن القادمة، لا سيما أن روسيا وضعت عراقيل متكررة طيلة الأعوام السابقة أمام آلية إيصال المساعدات عبر الحدود، والتي أُنشئت عام 2014 بعد اعتماد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2165، الذي يسمح بدخول المساعدات الإنسانية دون موافقة “الدولة السورية” باعتبارها الممثلة الرسمية في الأمم المتحدة.
وينتهي يوم غدٍ الجمعة 10 يوليو/تموز، تفويض مجلس الأمن رقم 2585، الذي يقضي بتمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود مع تركيا من معبر باب الهوى شمال غربي سورية لمدة 12 شهرًا، ويتعين على المجلس التصويت مجددًا على تمديد عمل الآلية.
واستطاعت روسيا تقليص دخول المساعدات عبر الحدود بشكل تدريجي، ليتمَّ التوافق عام 2021 على التمديد لمدة عامل كامل عبر معبر باب الهوى، بعد أن منعَت عام 2020 دخول المساعدات عبر معبر باب السلامة، وقبلها عام 2019 منعت دخولها عبر معبرَي اليعربية في مناطق سيطرة “قسد”، والرمثا في مخيم الركبان المحاصر على الحدود السورية الأردنية.
تشهد البيئة الدبلوماسية اليوم حالة من التجاذبات، تشبه إلى حدٍّ ما الأجواء التي سبقت مداولات مجلس الأمن الدولي العام الماضي من حيث تصعيد روسيا، مقابل الإصرار الغربي على تمديد تمرير المساعدات
ويأتي هذا ضمن سعيها الحثيث للاستثمار في ملف المساعدات الإنسانية كورقة مساومة مع المجتمع الدولي لدعم مشاريع إعادة الإعمار المبكِّر في البلاد التي تعرقلها الولايات المتحدة الأمريكية، وحصر دخول المساعدات عبر نظام الأسد في محاولة منها لإنعاشه اقتصاديًّا، والدفع نحو تعزيز شرعيته السياسية على المستوى الدولي من خلال البوابة الاقتصادية.
وتلوّح روسيا مجددًا بورقة “الفيتو” ضد قرار تمرير المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى، وسط دعوات دولية وأممية لتوسيع نطاق وصول المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري، والتحذير من تداعيات عدم تجديد الآلية، حيث حذّرَ نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، من أن “عدم تجديد التفويض سيعطّل المساعدات المنقذة لحياة 4 ملايين شخص يعيشون في الشمال الغربي، بينهم أكثر من مليون طفل”.
يفتح هذا الأمر الباب مجددًا أمام احتمالية حدوث عرقلة روسية لقرار التمديد، في ظل تأزُّم العلاقات الروسية الأمريكية عالميًّا وانعكاسها على الملف السوري، حيث كان تقاربهما النسبي في سوريا سابقًا سببًا من أسباب حدوث توافق على تمديد آلية تمرير المساعدات العام الفائت.
يحاول هذا التقرير الوقوف على السيناريوهات المحتمَلة التي تنتظر قرار تمرير المساعدات الإنسانية، وتفحُّص أهم الخيارات والبدائل المتاحة أمام الدول المانحة في حال استخدام روسيا حقّ النقض “الفيتو”، مع الأخذ بعين الاعتبار تأزُّم العلاقة الروسية الغربية/ الأمريكية نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وتأثيرها المحتمَل على مداولات مجلس الأمن حول قرار تمديد إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى الشمال السوري.
التوافق السابق على قرار تمرير المساعدات.. نتيجة للتماهي الغربي والتقارب الأمريكي الروسي في سوريا
استطاعت روسيا تكريس دورها السياسي مدعومًا بحضور عسكري استراتيجي في سوريا، وثبّتت نفوذها بعد تدخُّلها العسكري المباشر لدعم نظام الأسد عام 2015 مستغلّة التراجع الأمريكي في المنطقة، وعدم إبداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة اهتمامًا كافيًا بالملف السوري، وكسبت اعترافًا ضمنيًّا أمريكيًّا/ غربيًّا بمصالحها الاستراتيجية في سوريا، مع تسليم القوى الدولية والإقليمية الفاعلة بالدور الروسي في سوريا.
هذا التراخي الأمريكي والتجاهل الدولي اللذين رافقهما تقاعس وفتور غربيَّين عن اتخاذ أي خطوات جادّة ضد الدور الروسي في سوريا؛ مكّن روسيا من تثبيت رؤيتها وتوسيع هامش نفوذها في سوريا، الأمر الذي انعكس سلبًا على ملف المساعدات الإنسانية عبر الحدود، نتيجة استغلال روسيا نفوذها السياسي في استخدامه كورقة ابتزاز وضغط ومساومة في عملية التفاوض مع الفواعل الدولية، وقبولها الموافقة على تمرير قرار تمديد المساعدات مقابل تنازلات لصالح نظام الأسد، كتخفيف العقوبات الاقتصادية على النظام وتسهيلات متعلقة بعودته للحضن العربي وتعويمه دوليًّا.
وظهرَ ذلك جليًّا في مداولات مجلس الأمن العام الماضي، تزامُنًا مع خفوت الاهتمام الدولي بالملف السوري بشقَّيه السياسي والعسكري، وتركيز القوى الدولية الإقليمية الفاعلة على الجانب الإنساني والأمني في سوريا، خاصة الولايات المتحدة التي أعطت الملف الإنساني زخمًا وأولوية مرحلية على باقي الملفات الأخرى، لا سيما فيما يتعلق بموضوع المعابر الحدودية والمساعدات الإنسانية إلى سوريا.
نتجَ عن هذا الأمر زيادة التنسيق الأمريكي والتفاهم النسبي مع روسيا في سوريا، عُبِّر عنهما سياسيًّا بما يُسمّى “خطوة مقابل خطوة” ضمن سلسلة من تفاهمات مشترَكة لإعادة تشكيل الملف السوري العام، وميل الطرفَين نحو الدبلوماسية وتخفيف حدّة الصراع، حيث حصلت روسيا على بعض المكتسبات من الولايات المتحدة، وذلك بالتركيز على فكرة “تغيير سلوك النظام” بدلًا من “الانتقال السياسي”، وتراخيها في تطبيق فواعل قانون قيصر على الدول التي اتّخذت خطوات تطبيعية سياسية واقتصادية مع نظام الأسد.
هذا بالإضافة إلى تغاضي الولايات المتحدة عن التحركات الروسية المتزايدة في مناطق شرق الفرات، مقابل بعض الضمانات الروسية بشأن الوجود الإيراني في سوريا، والضغط على النظام لتقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بالمسار السياسي.
أدّى هذا بطبيعة الحال إلى حدوث تفاهُم مبدئي بين الجانبَين على ملف تمديد المساعدات الإنسانية إلى سوريا، وتنازُل روسيا عن تعنُّتها في قرار إيقاف المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى عقب التفاهُم مع الولايات المتحدة، وتقديم الولايات المتحدة بعض المحفّزات لروسيا بعد اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي جو بايدن ببوتين في جنيف، وتأكيد بايدن على أهمية توسيع الممرّات الإنسانية كشرط للتعاون المستقبلي في سوريا.
تصدُّع العلاقات الأمريكية الروسية.. سيناريوهات محتمَلة وبدائل متاحة
مع تراجُع العلاقات الأمريكية الروسية إلى أدنى مستوياتها إثر الحرب الروسية في أوكرانيا، يبدو أن المسار التفاهمي/ الحواري بين الطرفَين في سوريا بات مهددًا اليوم بالتوقف أو التجميد، وهو ما سيكون له انعكاسات سلبية مباشرة على قرار تمديد وصول المساعدات الإنسانية لمناطق الشمال السوري.
إذ من المحتمل أن تلجأ روسيا إلى التعنُّت مجددًا، وربما إلى استخدام حق النقض “الفيتو” ضد القرار كردٍّ على التصعيد الأمريكي/ الغربي ضدها في سوريا، وهو ما سيحرم المنطقة من أهم شرايين الحياة بالنسبة إلى ملايين النازحين والمهجَّرين، وسيترتّب عنه آثار سلبية خطيرة على مناطق الشمال السوري، التي تعاني أساسًا من صعوبات حياتية وظروف معيشية وإنسانية سيّئة.
وتشهد البيئة الدبلوماسية اليوم حالة من التجاذبات بين مختلف الأطراف الفاعلة، تشبه إلى حدٍّ ما الأجواء التي سبقت مداولات مجلس الأمن الدولي العام الماضي من حيث تصعيد روسيا في خطابها التهديدي، مقابل الإصرار الأمريكي/ الغربي على ضرورة تمديد تمرير المساعدات عبر الحدود.
حيث صرّح نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، خلال اجتماع لمجلس الأمن، أن “بلاده لا ترى سببًا لمواصلة هذه الآلية عبر الحدود، التي تنتهك سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، وسط مساعٍ غربية وتطمينات أمريكية حول عزم الولايات المتحدة العمل على تمديد آلية إدخال المساعدات الأممية العابرة للحدود إلى سوريا والضغط على روسيا.
فقد أكّدت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، على “التزام بلادها بتقديم المساعدات للشعب السوري في حال إغلاق معبر باب الهوى”، وهو ما ينبع -كما أسلفنا- من أهمية الجانب الإنساني لدى الإدارة الديمقراطية الأمريكية، التي يشغل ملف المساعدات حيزًا مهمًّا ضمن أجنداتها وحساباتها في سوريا.
ومن ثم إن هذا الانخراط الأمريكي الفعّال في ثنايا الملف السوري، والحرص على استمرار تدفُّق المساعدات الإنسانية إلى سوريا، قد يكونا عاملَين في ثني روسيا عن قرارها في منع دخول المساعدات عبر الحدود، لا سيما أن الإرادة السياسية الأمريكية في تمرير المساعدات رغم الاعتراض الروسي تبدو حاضرة.
خاصة أنه يوجد بدائل -رغم صعوبتها- أمام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لإيصال المساعدات في حال أوقفت روسيا قرار تمرير المساعدات عبر معبر باب الهوى، كتحويل التمويل المخصَّص من قبل الدول المانحة من المنظمات الأممية إلى المنظمات الدولية الأمريكية والأوروبية والتركية والمحلية، التي لا تلتزم بما تلتزم به المنظمات التابعة للأمم المتحدة من ضرورة حصولها على تفويض مجلس الأمن لإدخال المساعدات، أو تسيير عمليات إغاثة عبر الحدود التركية تحت غطاء ودعم أمريكي وغربي.
تسييس ملف المساعدات الإنسانية وخضوعه للمبازرات والسمسرة السياسية بين الفواعل الدولية قد أثقلا كاهل السوريين وانعكسا سلبًا عليهم
وفي السياق ذاته، رأى مدير منظمة “سيريان ريليف” في الشمال السوري، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن “أهم الخيارات والبدائل المتاحة أمام الدول المانحة، في حال استخدمت روسيا “الفيتو” ضد القرار، هو تحويل الدعم من صناديق مكاتب الأمم المتحدة إلى المنظمات العالمية العاملة، والتي بدورها تحرص على القيام بشراكات مع مختلف المنظمات المحلية السورية”.
وقال: “يمكن أيضًا تحويل الدعم الذي كان يقدَّم من WFP، والذي هو عبارة عن سِلال غذائية تدخل من معبر باب الهوى، إلى توزيع نقدي عبر قسائم نقدية توزَّع في شمال سوريا يستطيع من خلالها المستفيد شراء المواد الغذائية نفسها التي كان يحصل عليها قبل الإغلاق بكمّيات أكبر من الأسواق المحلية”.
علاوة على ذلك، تبدي تركيا بدورها حساسية وتوجُّسًا كبيرَين تجاه احتمالية منع روسيا إدخال المساعدات عبر معبر باب الهوى، لما في ذلك من تداعيات إنسانية سلبية على مناطق الشمال السوري التي تعدُّ مناطق حيوية مهمّة لتركيا ولأمنها القومي، في الوقت الذي تشرع به تركيا لفرض منطقة آمنة على طول حدودها الجنوبية مع سوريا، في إطار مشروعها لإعادة مليون لاجئ سوريا من أراضيها.
أسامة القاضي: الدبلوماسية التركية هي الحل الوحيد لإقناع الروس بعدم استخدام الفيتو في مداولات مجلس الأمن
ويبدو أن تطورات الأوضاع في أوكرانيا ونجاح تركيا في امتلاك العديد من الأوراق التفاوضية قد يجعلانها في موقف قوّة، تستطيع من خلاله التأثير ربما على قرار روسيا في مداولات مجلس الأمن القادمة، نظرًا إلى دورها الفاعل في الأزمة الأوكرانية التي توليها روسيا أهمية قصوى على حساب باقي الملفات الثانوية الأخرى، وبالتالي قد تلجأ روسيا إلى عدم استفزاز تركيا ودفعها إلى تشديد مواقفها مع “الناتو”، وتحديدًا فيما يتعلق بانضمام السويد وفنلندا إلى صفوف “الناتو”.
تطرّق إلى هذا الأمر المستشارُ الاقتصادي الدولي د. أسامة القاضي في حديثه لـ”نون بوست”، مشيرًا إلى أن “الدبلوماسية التركية هي الحل الوحيد لإقناع الروس بعدم استخدام الفيتو في مداولات مجلس الأمن، نظرًا إلى تأثيره السلبي الخطير على تركيا، وهو ما يعتمد على قدرة الدبلوماسية التركية في فصل الملفَّين الأوكراني والسوري فيما يخصّ المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى، وانتزاع تعهُّد من روسيا مقابل تفاهُم معيَّن جديد معها في سوريا”.
كل ذلك قد يدفع روسيا ربما إلى عدم استخدام “الفيتو” ضد آلية تمرير المساعدات عبر الحدود، لما تمثّله من ورقة قوة تستثمرها بشكل متكرر لتحصيل مكاسب مختلفة قد تُحرَم منها في حال تعنُّتها، إلى جانب تكشُّف بوادر تفاهُم بينها وبين تركيا الحريصة على تمرير قرار إدخال المساعدات، وهو ما قد يكون في الغالب مقابل حصولها على مكاسب إضافية جديدة، كزيادة حجم المساعدات التي تدخل عبر مناطق النظام، أو التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وعلى نظام الأسد، والمطالبة بدعم أنشطة التعافي المبكِّر، أو تحصيل تنازلات معيّنة فيما يتعلق بملفات أخرى، أهمها الملف الأوكراني.
في المحصلة، إن تسييس ملف المساعدات الإنسانية وخضوعه للمبازرات والسمسرة السياسية بين الفواعل الدولية قد أثقلا كاهل السوريين وانعكسا سلبًا عليهم، وزادا من تعقيد عمل المنظمات الإغاثية والخدمية، ما يحتّم العمل ضمن مسار قانوني/ سياسي، وتحديدًا من قبل الدول المعنيّة، لإخراج ملف المساعدات الإنسانية من ميدان المقايضات والاستغلال والمناكفة، إلى دائرة العمل الحيادي الإنساني الموجَّه لكافة المدنيين، وفتح المعابر بشكل دائم بعيدًا عن الأغراض السياسية والانتقامية.