من بين كل التونسيين الذين يزعمون علمًا بالسياسة وإتقانًا لعلوم التحليل، سأتحمّل وحدي كلفة الخبل الظاهر أو الدروشة الصريحة المتضمّنة في هذا العنوان المباشر، وسأستهين بكل تلك التحليلات المتحذقلة التي تتهرّب من تسمية الوقائع بأسمائها الصريحة.
وأكرّر أن فرنسا تستعدّ لما بعد الانقلاب بسرقة جهد معارضته لتسليم البلد إلى أعوانها في الداخل، وتواصلُ حلب ضرع البلد كما اعتادت فعل ذلك منذ قرنَين أو يزيد.
وبناءً على هذه الحقيقة التي أعلنُها وحدي ويكتمها كثيرون، أرتّب الأفكار التالية وأنتظر أن يسلِّم بها آخرون بصمت، خوفًا من كلفة بناء حركتهم السياسية عليها في الآن وفي المستقبل.
كان انقلابًا فرنسيًّا وقد فشل
كانت بصمة فرنسا واضحة في ترتيب أمر الانقلاب قبل حدوثه ويوم حدوثه وحتى الساعة، لقد كان مختلفًا من حيث الشكل عن انقلابات أفريقيا السريعة والخاطفة بقيادة كابورلات من جيوش صنعتها فرنسا على هواها.
كان لدى فرنسا جيش آخر متمترس بنقابة فاسدة، وفي إعلام كافر بالثورة، وقد تدبّرت فرنسا للنقابة جائزة نوبل وكلّفتها بتخريب الثورة، لأنها لم تفلح في قيادتها بواسطة صندوق الاقتراع.
قبل الانقلاب بأيام قليلة نظّمت النقابة انقلابًا على قوانينها الداخلية، فمنعت أي تغيير بداخلها واستعدّت للانقلاب الكبير، لقد كان الانقلاب معدًّا على الورق، حتى أن خطته نشرتها الصحافة الإنجليزية بحذافيرها.
لمّا تحرّك المنقلب وأغلق البرلمان، باركت النقابة وأسندت المنقلب، ودافع الإعلام عن الانقلاب وشكر النقابة الحامية، حيث جعلت النقابة من انقلاب 25 يوليو/ تموز حركة تصحيحية، وتكلّمت بلسانه أو جعلت على لسانه جُملًا سياسية لم يتقن المنقلب العَييّ صياغتها.
طيلة شهور من معارضة الانقلاب في الشارعَين الحقيقي والافتراضي، ظلت النقابة ترذّل كل معارضة وتسفّه مطالبها، وبلغ بها أن سمّت ما بين الثورة والانقلاب بالعشرية السوداء، وهي التي كانت تأخذ من كل حكومة قسط الأسد وقلّما ما مرَّ وزير في حكومة دون أن تزكّيه، لقد كانت كل الأحزاب التي تربح الانتخابات تخضع للنقابة وتُبرر خضوعها بخوف مريب، وقد كتبنا في هذا الكثير ولا نودُّ إثقال الورقة بتكراره.
إسقاط الاستفتاء دون إسقاط الانقلاب هو عملية قطع الطريق على المعارضة المصرّة على المرجعية الدستورية وعلى ما بُنيَ عليها من مؤسسات
نتيجة عمل النقابة من داخل الحكومات ومن خارجها كانت تصبُّ لصالح فرنسا المعادية في العمق لكل تجربة ديمقراطية في مستعمراتها القديمة، وإذا كان البلد يعاني الآن من أزمات مركّبة، فلأن النقابة فعلت ذلك بحماس وكما تمنّت فرنسا أن يكون، دون أن تبذل فيه قطميرًا بل كان بدم التونسيين وجوعهم وخوفهم.
ولم أتحدث هنا عن الاغتيالَين السياسيَّين المدمِّرَين للثورة ومسار الانتقال الديمقراطي، فقد حصلت قناعة عامة أن يد فرنسا كانت في العمليتَين واضحة لا ينكرها إلا أعوان فرنسا بالداخل، وهم المستثمرون في الدم.
والآن وقد تبيّن لفرنسا قبل غيرها أن الانقلاب يفشل أولًا بعجزه عن ابتكار حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية المركّبة، وثانيًا بما فعلت به المعارضة الجادّة والوطنية التي سحبت من تحته الشارع وكل مرجعيات الأخلاق والسياسة، حتى وصل إلى هتك الأعراض والتقوُّل في شرف المواطنين، قفزت النقابة إلى صفّ المعارضة لتزايد بطريقتها المعروفة وتسرق الجهد النضالي وتتقدّم الصفوف لتحكم بعده.
فرنسا ألّفت معارضتها المدنية أيضًا
الحزيبات الميكروسكوبية الخاسرة أبدًا في الصندوق الانتخابي، مكثت في صف الانقلاب وبعضها وضعَ خطة الانقلاب المنشورة (ولدينا قناعة قوية أن الخطة حُرِّرت بمحضر السفير الفرنسي أو بإيحاء لطيف من جنابه، فقد كان يدخل كل بيت سياسي ويشرب العصائر).
هذه الحزيبات ألّفت جهدها ومدّت رقابها القصيرة إلى ما بعد الانقلاب منسّقة موقفها مع النقابة، بالوسائل نفسها وبالغاية نفسها، مكتفية مؤقتًا بعنوان “إسقاط الاستفتاء” دون إسقاط الانقلاب، وحظيَ حمة الهمامي -أحد أركانها- بتعنيف مسرحي في الشارع، لرفع رصيد وطنيته وتهيئته لموقع قيادي لم يمنحه له الصندوق الانتخابي أبدًا.
إسقاط الاستفتاء دون إسقاط الانقلاب معناه سياسيًّا أن يبقى المنقلب في مكانه ويواصل الحكم بمراسيمه، لأن ذلك هو الحل الوحيد لكي لا يعود دستور 2014 ويحكم الناس عبر الصندوق ولو بعد حين.
والذرائع كثيرة وكلها من نفس حجج الإسناد الأول للانقلاب (أن من حكمَ قبل 25 يوليو/ تموز قد أفسدَ ولا يجب أن يعود)، وهذا خلط متعمَّد بين الشرعية الدستورية وشرعية من حكم بها، ولم يكن في مستوى الانتظارات التنموية، خاصة أن هذه الانتظارات كانت النقابة أكبر عائق أمامها طيلة عشرية الحريات الباهرة.
إسقاط الاستفتاء دون إسقاط الانقلاب هو عملية قطع الطريق على المعارضة المصرّة على المرجعية الدستورية، وعلى ما بُنيَ عليها من مؤسسات.
هذه المعارضة التي اتخذت عنوانًا واضحًا: جبهة الخلاص الوطني، وطرحت على الجميع حوارًا وطنيًّا يؤسِّس لمرحلة ديمقراطية تحت سقف الدستور، بدأت تجدُ قبولًا من قطاعات واسعة خاصة بعد الاعتداء على مؤسسة القضاء وعلى نقابة الفلاحين؛ هنا انزعجت النقابة بل الأحرى انزعجت فرنسا فتحرّكت النقابة، وظهرت الحزيبات الصفرية لتتقدم الصفوف.
الإضراب العام يوم 16 يوليو/ تموز.. هل يكون؟
الانقلاب وحزامه القليل الباقي كانا يملكان ملفات فساد ثقيلة ضد النقابيين، وكانا يخفيانها لأن النقابة تساند ولا تعارض (وهذا أسلوب بن علي مع النقابات وقد طبّقه الباجي أيضًا)، لكن خروجها لموقف معارض لم يَرُق للانقلاب فأخرج الملفات، ويجري منذ أسبوع التهديد بضرب النقابة.
تظهر هنا أزمة توشك أن تعصف بهذا التحليل، حيث فرنسا مع الانقلاب ومع النقابة نظريًّا، فكيف يتصارع أنصارها على الأرض في اللحظة التي يتفاقم فيها خطر جبهة الخلاص؟
إجابتنا أن فرنسا اتّخذت قرار التخلُّص من المنقلب أو قصر سلطته على ملابسه، وهي تعمل الآن على ضمان بقاء الانقلاب (الذي صار اسمه في الإعلام الحركة التصحيحية)، وتسويق قطع مسار الاستفتاء فقط، وإذا أفلح أنصارها (النقابة والحزيبات والماكينة الإعلامية) في قطع الطريق على جبهة الخلاص، وتمييع دعوتها إلى حوار وطني يعيد الانطلاق من دستور 2014 ويبني عليه أفقًا سياسيًّا بالانتخاب، فإن فرنسا ستكملُ ترتيب شكل السلطة وتمنح لأنصارها المقعد الأول.
هل جُهِّزت النقابة للحكم؟ ليس بعد، لأن جبهة الخلاص وأنصارها ربحا أرضًا وشعبًا لم يعد يسهل تجاوزهما، لذلك نحدس أن الإضراب يوم 16 يوليو/ تموز لن يقع وسيجدُ “عقلاء مجهولون” حلًّا للتأجيل والتفاوض تحت طاولة مخفية على الشعب التونسي (ومن أدرانا أنها لا تجري الآن في مكان مكيَّف؟).
لقد ظهر المنقلب مرعوبًا متوتِّرًا من نهاية لم يتوقعها، خاصة بعد غضبة القضاة، وهو في حدسنا في موقف ضعيف جدًّا لا يسمح بمزيد من الهروب إلى الأمام، حتى لو راود فرنسا العلمانية بإلغاء الفصل الأول من الدستور الذي يحدد دين الدولة (الإسلام) ولغتها (العربية).
تعرفُ فرنسا وأياديها أن تمرير هذا الفصل يعني منح شرعية مطلقة لجبهة الخلاص، وخاصة العمق النهضوي الذي يملك الشارع، وتعرف فرنسا أن وجود هذا الفصل في دستورَي 59 و2014 لم يمنعها من فرض خياراتها الثقافية على البلد، حتى أننا نتوقع أن النقابة ستكون أول المعارضين لإلغائه، لأن كلفته السياسية تصبُّ في طاحونة النهضة، ورقة محروقة تشبه اللعب في الوقت الضائع.
هل دخلنا ترتيبات الساعات الأخيرة؟
غضب الرئيس في آخر ظهور يكشف هزيمة، وحدّة خطاب أمين عام النقابة يؤكّد خطة المرور إلى ما بعد الرئيس أو برئيس بلا صلاحيات، لكن كيف يمكن تحجيم جبهة الخلاص؟ (أي تحجيم النهضة الكامنة وراء الجبهة وعدم منحها أية فرصة لعودة سياسية).
التقطنا إشارات كثيرة عن خطاب مهادن للحل الذي تقوده النقابة (أو الذي تمليه فرنسا)، بقبول زعيم جبهة الخلاص (المسحوب من أرشيف قديم) للعمل مع النقابة، والحقيقة التي لا يصرّح بها بعد هي الخضوع للنقابة عبر التغطّي بحوار وطني، باسم أولوية إنهاء الانقلاب.
نقرأ هذا كعلامة على هشاشة سياسية أو بالأحرى مؤامرة متقنة على جهد المعارضة الصادقة، يقودها أشخاص لم يؤمنوا أبدًا أنه يمكن قيادة البلد بروح استقلالية عن الهيمنة الفرنسية، وأن أقصى أمانيهم في كل موقع هو نيل الرضا الفرنسي، وهم يختلفون في الدرجة لا في النوع عن الرئيس الذي وجدَ نفسه فجأة أمام رئيس فرنسا، فانحنى يقبِّلُ كتفيه.
نختم إذًا بأن كل مهادنة للحل النقابي هي استسلام للحل الفرنسي والاستعداد للحكم بشروطه، أي إعطاء المسروق للسارق ومباركة جهده.
وإذا كنا نتوقّع أننا في مرحلة ترتيب الساعات الأخيرة، فإننا نرى أن فرنسا لها اليد الطولى على صفَّي المعارضة، من قال منهما بإسقاط الاستفتاء ومن قال منهما بإسقاط الانقلاب.
بقيت جملة واحدة معلقة بلسان زعيم حزب النهضة، لو قال “نعم” للنقابة سينتهي الاستفتاء، لكن كلفة هذه الـ”نعم” هي رأسه ورأس حزبه ولن يجد له نصيرًا، وسنعتذر عن قول نشرناه بأن زمن الاستئصال قد ولّى.