ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد أقل من عقد على الثورة المصرية 2011، شهد ميدان التحرير عمليّة تغيير كلية. ابتداءً من أيلول/ سبتمبر 2019، استثمرت السلطات حوالي 150 مليون جنيه مصري (9 ملايين دولار) لإزالة كل ما يتعلّق بالثورة. أعيد طلاء الأبنية، وزُرعت العديد من أشجار النخيل، ووُضعت قطعة مركزية جديدة: مسلة شاهقة تعود لـ 3500 سنة منذ عصر الملك رمسيس الثاني جنبًا إلى جنب مع أربعة تماثيل لأبو الهول من معبد الكرنك في الأقصر.
يري العديد من السكان أن هذه الجهود في الحقيقة محاولة واضحة لدفن الماضي القريب. تهدف الآثار المقتلعة إلى جذب الانتباه العام بعيدًا عن المعنى الرمزي لميدان التحرير، بينما غطت طبقات الطلاء الرطبة أي آثار متبقية للجداريات والغرافيتي الثورية على طول جدران تلك المباني.
قالت بهية شهاب، وهي فنانة ومؤرخة لبنانية مصرية: “كان هناك جهود منهجية منذ سنة 2013 لمحو الذاكرة الجماعية للثورة، التي لعبت فيها الكتابة الجدرانية دورًا كبيرًا”. وأضافت “كان الغرافيتي ترجمةً بصرية لما يشعر به الناس… كانت الشوارع مغطاة حرفيًا بوسوماتنا، وأعطتنا تفويضًا وكذلك شعورًا بالانتماء – وجعلتنا نشعر أن المدينة لنا لنغيرها كما نشاء”.
اليوم، باتت جدران القاهرة التي كانت ذات مرة غارقة في الألوان خالية في معظمها. بعد فترة وجيزة من انقلاب 2013، نُفذت قوانين جديدة تجرم الرسم على الجدران بعقوبة قصوى تصل إلى السجن لمدة أربع سنوات وغرامة ضخمة، بينما تم هدم جدران الغرافيتي الرمزية. وكان الأمر أشبه بحظر فعل تذكّر الثورة.
تطهير ذاكرة القاهرة
لمدة 18 يومًا بدءًا من 25 كانون الثاني/ يناير 2011، تحوّل ميدان التحرير إلى بؤرة المظاهرات الوطنية المطالبة بالتغيير الجذري. وعوضًا عن السيارات وعوادم المرور، اختنق الميدان بأصوات الناس الذين يهتفون ضد الحكم الاستبدادي لحسني مبارك الذي دام 30 سنة. مع اللافتات الملونة والجداريات والهتافات، ملكت المظاهرات المساحة العامة مما أدى في النهاية إلى تنحي مبارك في 11 شباط/ فبراير 2011.
لكن الاحتفالات التي تلت ذلك كانت قصيرة الأجل. فبعد مدة قصيرة من تولي الرئيس محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في مصر، منصبه في حزيران/ يونيو 2012 أطاح به بعد سنة انقلاب قاده اللواء عبد الفتاح السيسي. وفي آب/ أغسطس 2013، ذبحت قوات الأمن المصرية مئات المتظاهرين الذين تجمّعوا في ميدان رابعة بالقاهرة للتنديد باستيلاء السيسي على السلطة.
تصاعد الوضع الإنساني أكثر بعد أن شهد حكم السيسي عسكرة متصاعدة للأماكن العامة، بما في ذلك قانون مناهضة التظاهر وحملة قمع واسعة للمعارضين السياسيين. وفي خطاب سنة 2018، أعلن السيسي أن “ما حدث قبل سبع أو ثمان سنوات لن يحدث مجددًا في مصر”.
مسلحًا بدلاء الطلاء وكاميرات المراقبة والقوانين الصارمة، عمل النظام الجديد بدأب لتغطية ألوان القاهرة. وتشير الآثار القديمة في وسط ميدان التحرير إلى أن هذه الساحة لم تعد عامة، بل بالأحرى أصبحت موقعًا لمعركة على الذاكرة الجماعية لمصر، مع استبدال الرسوم الثورية برموز قوة النظام.
“لا ألف مرة”
ذكرت شهاب أن أول مرة تشجعت فيها لحمل عبوة بخاخ طلاء كانت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، بعد حملة القمع العنيفة من الجيش على المتظاهرين في الأسابيع والشهور التي تلت الانتفاضة. وقد أرادت أن تعبر عن نفسها مباشرة من خلال فن الغرافيتي لتتجاوز دور المؤرخة. وأضافت “على عكس الفنانين الآخرين الذين لديهم مجموعات كبيرة تساعدهم أو الذين يقضون شهورًا في الشوارع لرسم الجداريات الكبيرة، دائمًا ما عملت وحدي … وأنا دائمًا أرسم بسرعة كبيرة باستخدام الطباعة، حتى لا أقضي أكثر من بضع دقائق على جدار واحد”.
أحد أشهر مشاريع الفنانة بهية شهاب بعنوان “لا ألف مرة” وقد دمجت فيه مجموعة متنوعة من أنماط الكتابة للكلمة العربية “لا”. قبل اندلاع الثورة، كانت مشغولة بالفعل في جمع هذه الصور؛ بعدها، تمكنت من إعطاء معنى لكل “لا”. وقد غطت كتابتها الجدران في جميع أنحاء القاهرة: “لا لحكم العسكر”، “لا لقتل رجال الدين”، “لا لسرقة الثورة”.
اكتسب شعارٌ آخر مكانة بارزة بعد تداول صور للجيش المصري وهو يعتدي على المتظاهرات في أواخر 2011، من بينهم شابة جردت من ملابسها مما كشف حمالة صدرها الزرقاء. وبجوار “لا لتجريد الناس”، انتشرت صور مطبوعة لحمالة صدر زرقاء في جميع أنحاء المدينة. قالت فنانة الغرافيتي ميرا شحادة: “نبعت الحاجة لرسم الرسائل عندما أصبحت الأمور أكثر قتامة وأكثر غموضًا مع نهاية السنة”.
شعور بالعجز
لطالما استُخدم العنف الجنسي كأداة لفرض الرقابة في الأماكن العامة في مصر بهدف إرهاب الصحفيات والناشطات لإسكاتهن. في سنة 2013، أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى “وباء” العنف الجنسي الذي تفشى في ميدان التحرير، بعد الإبلاغ عن عشرات الهجمات ضد النساء في أقل من أسبوع. كما اعتُقلت العديد من النساء على أيدي القوات العسكرية المصرية، وتم إخضاعهن لـ “فحوصات العذرية” وتهديدهن بتهمة ممارسة الدعارة.
وصفت شحادة الشعور بـ “الإلحاح والعجز” في ذلك الوقت. رسمت صورتها الأولى، وجه امرأة مع علامة تقاطع على شفتيها، في “أكبر عدد ممكن من الأماكن”. قبل أن تتوجه إلى الشارع، أجرت الكثير من التمارين على الصورة مرارًا وتكرارًا، حتى تمكنت في النهاية من رسمها في غضون دقيقتين وعيناها مغمضتان.
يُسلّط عمل فني آخر لشحادة بعنوان “دائرة الجحيم” الضوء على الطابع المتسق الذي تكتسيه جرائم الاغتصاب التي ترتكب في حق المرأة، التي يظهر فيها رجال يحيطون امرأة من كل الجهات لعزلها. رسمت لوحة جدارية في البداية على أحد الجدران في شارع محمد محمود في الذكرى الثانية للثورة لسنة 2013. وتظهر في اللوحة امرأة عيناها واسعتان من الرعب يحيط بها رجال مكشرين عن أنيابهم.
أوضحت شحادة “كانت هناك تقارير عن حدوث ذلك في أحد أركان ميدان التحرير … وصفها أحد التقارير بدائرة الجحيم، ومن هناك اشتق اسم الجدارية”. استغرق رسم الجدارية بأكملها ساعة ونصف. ظلت اللوحة الجدارية على حالها حتى سنة 2016، عندما رسم شخص ما على وجه المرأة.
رسم فنان شوارع مصري آخر يعرف باسم “الزفت” صورا للملكة نفرتيتي وهي ترتدي قناع غاز، واصفا إياه بأنه “تحية لكل النساء في ثورتنا الحبيبة” – اللاتي ارتدت الكثير منهن أقنعة واقية من الغاز قبل الاشتباكات مع الشرطة، لكن تمت مطاردتهن فيما بعد في الشوارع.
“فضاءات الاتصال”
اليوم، لا تزال شحادة تمارس الفن لكنها تخلت عن الرسم على الجدران – جزئيًا بسبب مخاوفها من إمكانية إلقاء القبض عليها، ولكن أيضًا بسبب شكوكها المتزايدة في مدى فعاليتها ومخاوفها بشأن كيفية إثارة وسائل الإعلام الدولية لهذه الظاهرة.
أكدت شحادة أن “فن الشارع ليس أداة في أي ثورة لتحقيق العدالة والإنصاف. حتى اللحظة الراهنة، لا يزال السجناء السياسيون يقبعون في السجون، لذلك لم يتغير شيء”. مع ظهور المزيد والمزيد من الأعمال الفنية “العشوائية” في شارع محمد محمود بعد الانتفاضة، بدأت أشعر بالقلق من أن تفقد تأثيرها ومغزاها”.
وتابعت قائلة “أعتقد أن ذلك غير صائب دعونا لا نحول المكان إلى ديزني لاند. هذا الشارع شهد الكثير من المآسي، وهؤلاء الفنانين يضعون أشياء عشوائية … يغمرني شعور بالتملك الشديد لهذا الشارع ورغبة شديدة في حمايته. يجب أن تكون هذه الجدران شاهدا على ما جرى وليس فقط عن شيئا جميل. حدثت أشياء مروعة هنا”. وأضافت أنه في جميع أنحاء القاهرة، “لم تعد الحاجة الملحة أو حتى الاستمتاع بالجداريات ظاهرة” اليوم، بل بات يعتبر من الفنون الشائعة في المساحات التجارية ليقدم رسالة لطيفة إن وجدت، وليس في الشارع”.
تغيرت الممارسة الفنية لشحادة أيضًا في السنوات التي أعقبت الثورة، من العمل المنفرد في رسم الجداريات في القاهرة إلى الجداريات التعاونية واسعة النطاق خارج القاهرة. في هذا الصدد، أوضحت قائلة: “عندما فقدت الوصول إلى القاهرة، بدأت في رسم الجداريات في أجزاء مختلفة من العالم”. قبل عدة سنوات، عملت مع فنانين محليين في بريطانيا لرسم لوحة جدارية في جامعة لينكولن، مع رسالة باللغة العربية كتب فيها: “لن نتوب عن أحلامنا مهما انكسرت”. وأردفت شحادة: “لا أعتقد أنني سأتوقف أبدًا عن ممارسة فن الشارع، حتى لو لم يعد بإمكاني ممارسته في القاهرة”، واصفًة الجدران بأنها “مساحات اتصال ومحادثات في المجتمع”.
رسمت شحادة أول جدارية لها بشكل سريع على الجدران المحيطة بميدان التحرير، كان الدافع وراءها توليد الحوار. وعلى الرغم من أن بعض هذه الأعمال قد تكون مجرد رسوم سريعة الزوال على الحائط، إلا أنها تظل راسخة في الذاكرة الجماعية بشكل دائم – ذاكرة لا يمكن للنظام أبدًا أن يمحيها.
المصدر: ميدل إيست آي