ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل سنتين، وتحديدًا في صيف سنة 2020، وصلت العلاقات بين الصين والهند إلى الحضيض عندما حدثت مناوشات بين القوات الحدودية للدولتين – المسلحتين نوويًا – في التلال العالية في لاداخ غرب جبال الهيمالايا باستخدام الهراوات والصخور. وقد وردت أنباء عن سقوط ضحايا من الجانبين.
في ذلك الوقت، كان من المتوقع على نطاق واسع تنافس العملاقين الآسيويين عسكريًا، وميل الهند إلى “التقرّب أكثر من الغرب” ما قد يعطي دفعة لخطط الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة لـ ” إقناع نيودلهي بأن تصبح شريكًا عسكريًا واقتصاديًا مقربًا لمواجهة طموحات الصين”. ولكن لم تتحقق هذه التوقعات على أرض الواقع.
بدلا من ذلك، استمر التعاون بين دلهي وبكين على مستويات متعددة وتدعم كل منهما الأخرى في المنتديات الدولية بما يتناسب مع مصالحهما المشتركة. وفي المقابل، أصبحت الهند أكثر حذرًا في علاقتها مع الولايات المتحدة التي وُصفت ذات مرة بكونها “حليفًا طبيعيًا” لنيودلهي.
كيف تغيرت جميع المعطيات؟
منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي بقيادة ناريندرا مودي إلى السلطة، أصبحت الهند أكثر حذرًا مع كل خطوة تجاه واشنطن وبكين متجنبةً أي احتكاك دبلوماسي – وهي موازنة صعبة بين الولايات المتحدة والصين المتنافرتين عسكريًا واقتصاديًا. حافظت الهند على علاقات مع كليهما، حيث قاد مودي حملة لصالح دونالد ترامب واحتضن الصين بحزم، مع الأخذ بعين الاعتبار علاقاتها العميقة مع المصنعين والتجار الهنود. زار مودي الصين خمس مرات في خمس سنوات – وهو عدد كبير من الزيارات لبلد واحد لأي رئيس وزراء هندي – والتقى بنظيره الصيني شي جين بينغ 18 مرة – وهو رقم قياسي في حد ذاته.
لكن اللعبة الخطيرة التي يمارسها مودي خرجت عن السيطرة عندما أعلن نائبه ووزير الداخلية أميت شاه من جانب واحد أن كلا من كشمير وأكساي تشين الخاضعتين للإدارة الباكستانية – وهي مرتفعات جبلية تبلغ مساحتها 38 ألف كيلومتر مربع تديرها الصين – “جزء لا يتجزأ من الهند”.
إدراكًا لخطر جرّ الصين إلى صراع كشمير، هرع الدبلوماسي الهندي ووزير الخارجية إس. جايشانكار إلى الصين بعد فترة وجيزة لكنه فشل في إيقاف المواجهة في لاداخ في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2020، التي تلتها عدة اشتباكات على الحدود الصينية الهندية. ورغم الدعوات المحمومة من لواء هندوتفا للتحرك ضد الصين واهتمام الغرب بتوسيع الفجوة بين أكبر دولتين من حيث عدد السكان في العالم، رفض رئيس وزراء الهند القومي بشدة تحدي الصين عسكريًا بعد مقتل ما لا يقل عن 20 جنديًا هنديا في لاداخ.
الأسباب والنتائج
تهتم الهند في المقام الأول بتحسين علاقتها مع الصين في مجال التجارة بالنظر إلى كونها شريكا تجاريا ثابتا للهند، وحلت مؤخرًا محل الولايات المتحدة في 2021-22، بإجمالي حجم مبادلات تجارية تجاوز 125 مليار دولار. ثانيًا، بلغ الإنفاق الدفاعي للصين في سنة 2021 حوالي أربعة أضعاف إنفاق الهند – 293 مليار دولار مقابل 76 مليار دولار. ثالثًا، مع تنامي النفوذ البحري الصيني، كان على الحكومة الهندية أن تأخذ بعين الاعتبار أن “55 بالمئة من تجارة الهند تمر عبر بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا”.
هناك العديد من القضايا الثنائية ومتعددة الأطراف الأخرى على المحك. وقد حصدت الهند نتائج توخي مبدأ التريث في ربيع سنة 2022 عندما زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي الهند. وتُعتبر الزيارة نفسها علامة على تحسّن العلاقات. وفي مؤتمر صحفي بعد الاجتماع، قال جايشانكار إن العلاقة “ليست طبيعية لأن الوضع في المناطق الحدودية غير طبيعي”، ومع ذلك ظلت الهند والصين على اتصال منتظم منذ أزمة لاداخ.
أورد وزير الخارجية الهندي: “لقد كنت ووزير الخارجية وانغ يي على اتصال ببعضنا البعض خلال السنتين الماضيتين، حتى لو لم نتبادل الزيارات”. وأضاف أنهما التقيا في موسكو في أيلول/ سبتمبر 2020، ودوشانبه في تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر 2021 وأجريا عدة محادثات هاتفية. وذكر “لقد ركزنا بشكل طبيعي على الوضع في مناطقنا الحدودية. وقد أدى اجتماعنا إلى تفاهم حول فض الاشتباك ووقف التصعيد. وقد تمثل التحدي في تنفيذ ما اتفقنا عليه على أرض الواقع”.
أجرت الهند والصين 15 جولة من المحادثات بين كبار القادة نتج عنها “إحراز تقدم” – على حد تعبير جايشانكار – “في العديد من نقاط الاحتكاك من منظور فض الاشتباك”. ومن الواضح أن العلاقة لم تكن “شبيهة بالحرب” كما توقعت العديد من وسائل الإعلام وخبراء السياسة.
الصين أثبتت أن المجتمع النامي، حتى وإن كان ذا حجم كبير واقتصاد ديناميكي، يمكنه تحمل المسؤولية. بالتالي، يمكن للهند أن تسير على خطى الصين، ولكن بوتيرتها الخاصة
في نهاية شهر أيار/ مايو، عُقد اجتماع روتيني لـ “آلية العمل للتشاور والتنسيق بشأن شؤون الحدود بين الهند والصين” في الوقت الذي استمرت فيه اجتماعات كبار قادة القطاعات. وفي تطور كبير، انضمت الصين إلى الهند وأربع دول أخرى في توقيع اتفاقية في طاجيكستان، لتقاسم المخاوف الأمنية لجنوب ووسط وشرق آسيا المنبثقة من أفغانستان.
ذكرت الصحيفة الهندية الشهيرة “تايمز أوف إنديا” أنه “بينما لم يذكر اسم الولايات المتحدة أو غيرها من الدولة الغربية، بشكل ملحوظ، فقد أشارت الاتفاقية المشتركة التي وقعتها الهند إلى” وجهة النظر “القائلة إن الدول المسؤولة عن الوضع الحالي في أفغانستان يجب أن تفي بالتزاماتها “لإعادة الإعمار الاقتصادي لأفغانستان”.
لكن التصريح الأكثر أهمية هو الذي أدلى به جايشانكار يوم الجمعة الماضي 3 حزيران/ يونيو، عندما طالب الغرب بعدم الامتناع عن التدخل في العلاقات الهندية الصينية. وأضاف: “علاقتنا صعبة مع الصين، لكننا قادرون تماما على إدارتها. وإذا ما حصلت على فهم ودعم عالميين، فمن الواضح أن ذلك سيساعدني أيضا. ولكن فكرة إجرائي لمعاملة، أتعارض فيها مع فكرة معينة لأنها ستساعد في صراع ثان، لا تعد الطريقة المُثلى التي يسير بها العالم”.
وفي منتدى الأمن العالمي في براتيسلافا، سلوفاكيا، قال “لا علاقة للكثير من مشاكلنا مع الصين بأوكرانيا، ولا علاقة لها بروسيا”. وهو ما يتوافق مع سياسته الخارجية الجديدة – وسياسة الهند – كما أوضحها في كتابه “الهند إلى الأمام” لسنة 2020. وأشار وزير الخارجية الهندي إلى أن الصين، رغم كونها قوة منافسة، إلا أنها مصدر إلهام للهند.
وأضاف جايشانكار أن “تردد الهند (في الماضي) عن لعب دور قيادي ينبع من خوفها من القوى الهائلة مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكن الصين أثبتت أن المجتمع النامي، حتى وإن كان ذا حجم كبير واقتصاد ديناميكي، يمكنه تحمل هذه المسؤولية. بالتالي، يمكن للهند أن تسير على خطى الصين، ولكن بوتيرتها الخاصة”. وتكشف هذه الكلمات عن خروج جزئي عن الموقف العلني للواء هندوتفا المتمثل في المعارضة الشديدة للصين.
مشاكل الهند مع الغرب وواشنطن
تسترشد السياسة الخارجية للهند في القرن الحادي والعشرين إلى حد كبير بجايشانكار، الذي اختاره مودي وزيرًا للخارجية في سنة 2019. في غضون ثلاث سنوات، برز جايشانكار كأول وزير خارجية للهند في القرن الحادي والعشرين، مع انتشار الميمات على منصة “رديت” التي تصوّره على أنه بطل الهند الخارق الذي يدمر خصومه في واشنطن والاتحاد الأوروبي، ولكن ليس في باكستان أو الصين كما هو معتاد.
يمكن وصف عقيدة جايشانكار، “الهند إلى الأمام”، في الوقت الحالي على أنها دليل الهند للسياسة الخارجية. ويتجول هذا الكتاب في متاهة الدبلوماسية الدولية التي تحدد أولويات السياسة الخارجية للهند في السنوات القادمة. ورغم روايتها المعقدة، يلخص جايشانكار توازن القوى العالمية في جملة واحدة: “… على مدى عقدين من الزمن، كانت الصين تفوز دون قتال، بينما كانت الولايات المتحدة تقاتل دون فوز”.
بعد مرور سنة تقريبا على نشر الكتاب، سحبت الولايات المتحدة من جانب واحد قواتها من أفغانستان، مما زعزع بشدة ثقة دلهي في واشنطن التي كانت تهتم بالمصالح الاستراتيجية والتجارية لحليفها الآسيوي الرئيسي في البلاد، وكانت خيبة أمل نيودلهي واضحة.
ثانيا، كان قرار الولايات المتحدة ببيع غواصات طويلة المدى تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا خطوة أخرى ساعدت على كشف الحقيقة للهند: إذ أدركت نيودلهي أن الولايات المتحدة لم تكن مرتاحة لفكرة بيع أسلحة هجوم نووي للهند، ومن الواضح أن أستراليا تحظى بثقة أكبر فيما يتعلق بحماية مصالح الغرب ضد الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
مع ذلك، كانت فرنسا منزعجة للغاية أيضًا – وذلك في صالح الهند – عندما ألغت أستراليا صفقة شراء غواصة بقيمة 66 مليار دولار للحصول على الغواصات من الولايات المتحدة. أدى الإجراء الأمريكي إلى تقريب الهند من فرنسا والكتلة المتنامية المناهضة للولايات المتحدة في أوروبا، ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة في التعاون متعدد الطبقات في المستقبل.
ثالثًا، تتمثل الأجندة السياسية المحلية الرئيسية لحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند في معالجة البرامج الأساسية لهندوتفا. وكجزء من الخطة منذ تأسيس الحزب في 1980، قدم حزب بهاراتيا جاناتا اقتراح حذف المكانة الخاصة لكشمير في البيان الانتخابي وأضاف في النهاية البرامج الرئيسية، مثل المطالبة ببناء معبد مكان مسجد أيودهيا في سنة 1989، مما أزعج أكبر أقلية في الهند، وهي المسلمين؛ وفيما بعد قام الهندوس المتعصبون بهدم المسجد في كانون الأول/ ديسمبر 1992. نتيجة لذلك، تقوم إدارة بايدن بشكل روتيني بالإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان في الهند.
على خلفية الحرب في أوكرانيا، كان من الواضح أن واشنطن لن تمول حروب أطراف آخرين. ومع ذلك، يستمر الالتباس حول ما إذا كان يجب الدفاع عن الحلفاء أم لا
يستعد لواء هندوتفا لانتخابات سنة 2024 مع التركيز على إعادة تأهيل بانديت كشمير، وهي الطبقة العليا في الهندوس، وبناء المزيد من المعابد في مواقع المساجد في جميع أنحاء الهند. سيتعين على فريق جايشانكار الموازنة بشكل مستمر بين مراقبي الحقوق المدنية في الغرب والإلزام الانتخابي المحلي. وفيما يتعلق بهذه القضية بالذات، تشعر نيودلهي براحة أكبر في التعامل مع بكين لأن الصين لم تبرز أبدًا القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان في المحافل الدولية.
بالإضافة إلى كل ذلك، أدى الصراع في أوكرانيا إلى اضطراب عميق في علاقة الهند بالغرب وواشنطن، حيث تعرضت الهند لضغوط هائلة حتى أنها مهددة بمواجهة “العواقب” جراء تعاملاتها مع روسيا في زمن الحرب. وقد أشار جايشانكار في تعليقين على الأقل في براتيسلافا إلى مدى انزعاج الهند، وقال إنه فيما يتعلق بشراء النفط الروسي، فإن أوروبا تشتري النفط والغاز الروسي من خلال فرض “حزمة جديدة من العقوبات مصممة بطريقة يتم من خلالها مراعاة رفاهية سكانها”. أما فيما يتعلق بمصادر النفط البديلة، أشار جايشانكار إلى أنه إذا كانت “الدول في أوروبا والغرب والولايات المتحدة قلقة للغاية”، فعليها “السماح للنفط الإيراني بدخول السوق”.
التقى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بجايشانكار في دلهي يوم الأربعاء، حيث قال جايشانكار إن استهلاك الهند للنفط زاد تسعة أضعاف منذ السنة الماضية، مضيفًا في استغراب: “هل شراء الغاز الروسي لا يمول الحرب؟ هل فقط الأموال الهندية والنفط الذي يأتي إلى الهند هو الذي يمولها، وليس الغاز القادم إلى أوروبا؟ دعونا نكن منصفين قليلا في هذا الشأن”.
إذا آمنت الهند بعقيدة جايشانكار، فإنها ستختار “المسار الأوسط” كما فعلت في أوقات الأزمات الكبرى في الماضي، متجنبة أي مواجهة كبيرة مع الصين أو الغرب.
وتساءل أيضًا: “لماذا لا يسمحون بدخول النفط الفنزويلي إلى السوق؟ لقد ضغطوا على كل مصدر آخر من مصادر النفط الموجودة لدينا والآن يقولون لنا بأننا لن نحصل على أفضل صفقة لشعبنا. لا أعتقد أن هذا النهج عادل”. ومع ذلك، لا تزال الهند جزءًا من مجموعة كواد، وهي آلية أمنية اقتصادية من بين أعضائها أستراليا واليابان والهند والولايات المتحدة، هدفها الرئيسي احتواء نفوذ الصين في المنطقة.
أخيرًا، على خلفية الحرب في أوكرانيا، حيث تتمحور سياسة الولايات المتحدة قبل الحرب “على دعم أوكرانيا في مواجهة العدوان الروسي المستمر”، كان من الواضح أن واشنطن لن تمول حروب أطراف آخرين. ومع ذلك، يستمر الالتباس حول ما إذا كان يجب الدفاع عن الحلفاء أم لا.
وفي أواخر شهر أيار/ مايو، أعرب الرئيس بايدن أولا عن التزامه بالدفاع عن تايوان في حالة حدوث تحرك عسكري صيني لكنه تراجع عن هذا الالتزام في اليوم التالي، مشيرًا إلى أن واشنطن لم تنحرف عن “سياسة الصين الواحدة”، التي تقر بحق الصين على تايوان.
ارتكب بايدن مرارًا وتكرارًا مثل هذه “الزلات“، وبينما تستمر الصحافة الأمريكية في مناقشة ما إذا كانت هذه الزلات نقاط ضعف الرئيس أم نقاط قوته، تستمر الهفوات في إرباك حلفائه في جميع أنحاء العالم وخاصة الهند، التي تشترك في حدود يبلغ طولها حوالي 3500 كيلومتر مع الدولة التي قاتلتها في حرب شاملة سنة 1962.
تظل السياسة الخارجية من أصعب المهام. قد ينعكس الموقف القائم على نية الهند في الحفاظ على الوضع الراهن برمته بسبب خطوة خاطئة واحدة تُتخذ عادةً في سبيل الإلزام السياسي المحلي. ولكن إذا آمنت الهند بعقيدة جايشانكار، فإنها ستختار “المسار الأوسط” كما فعلت في أوقات الأزمات الكبرى في الماضي، متجنبة أي مواجهة كبيرة مع الصين أو الغرب.
بعد الهجوم الصيني في سنة 1962، مثلا، لجأت الهند إلى الولايات المتحدة طلبًا لمساعدات جوية. وفي سنة 1971، أبرمت تحالفًا افتراضيًا مع الاتحاد السوفيتي، مع احتمال ظهور محور أمريكي – صيني – باكستاني وأزمة بنغلادش التي تلوح في الأفق. ويشير دليل وزير الخارجية الهندي إلى حقيقة أنه عندما تنحسر الأزمات، تختار الهند دائما “المسار الأوسط”.
المصدر: تي آر تي وورلد