ترجمة وتحرير: نون بوست
مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثالث، أرسلت الصين مبعوثًا خاصًا للقاء مسؤولين في ثماني دول في وسط وشرق أوروبا. لم يكن هذا التوقيت من قبيل الصدفة: في الشهرين المنقضيين منذ أن شنت روسيا غزوها، انحدرت مكانة الصين في أوروبا إلى مستويات متدنية جديدة. شعرت الحكومات الأوروبية بالارتباك من علاقات بكين القوية مع موسكو ودعمها الضمني للعدوان الروسي، وتأمل القيادة الصينية السيطرة على الضرر في جزء من القارة حيث تعتقد أن لها نفوذًا خاصًا.
على مدى عقد من الزمن، جعلت الصين دول وسط وشرق أوروبا نقاط اتصال دبلوماسية. اعتقد المسؤولون الصينيون أنهم يستطيعون استخدام هذا النطاق من الحكومات الأصغر التي تتبع للحقبة ما بعد الشيوعية كقوة موازنة للأصوات الناقدة في الاتحاد الأوروبي ونفوذ الولايات المتحدة في القارة الأوروبية من خلال توفير وصول رفيع المستوى في بكين وإتاحة فرص تجارية ضخمة.
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا التي أحدثت فتورًا في العلاقات الصينية الأوروبية، افترضت بكين أن سلسلة من الاجتماعات السريعة في المنطقة – لا سيما في بودابست وبراغ وريغا ووارسو – ستساعد في قلب الأمور لصالحها. لكن هذه الجهود لم تفض إلى أي نتيجة. وبدلاً من ذلك، رُفضت السفيرة الصينية وبقية وفدها، بينما قالت وزارة الخارجية التشيكية إنها استخدمت الاجتماع للتعبير عن “تحفظاتها على التعاون الصيني الحالي مع روسيا”.
ربما تكون القطيعة المتزايدة بين الصين وأوروبا هي الأقل تقديرًا من بين العديد من الآثار المتتالية المهمة للحرب في أوكرانيا. كانت الحكومة الصينية تنظر إلى الاتحاد الأوروبي في السنوات السابقة كمنطقة لمتابعة مصالحها الاقتصادية مع عدد أقل من التوترات الجيوسياسية التي تميز علاقاتها مع واشنطن. شرعت في استخدام ما اعتبرته علاقات خاصة مع مجموعة كبيرة من الدول في وسط وشرق أوروبا، خاصة لترسيخ نهج العمل فوق السياسة. وبالنسبة للحكومات الأوروبية التي تحولت، مثل الصين، إلى الرأسمالية في العقود الأخيرة، كانت الصين شريكًا جديدًا قويًا يحمل إمكانات الاستثمار على نطاق واسع في اقتصاداتها. في المقابل، كانت بكين تأمل إيجاد باب خلفي لتصريف منتجاتها في أسواق أوروبا الشاسعة فضلاً عن اكتساب نفوذ سياسي جديد في تنافسها المتزايد مع الولايات المتحدة.
مع ذلك، أصبحت أوروبا اليوم واحدة من أكبر مشكلات السياسة الخارجية للصين ويعود السبب جزئيًا إلى الحسابات الاقتصادية الخاطئة من كلا الجانبين التي بالغت في تقدير المنافع المحتملة للاتفاق. لكن موقف الصين الصارم على نحو متزايد بشأن تايوان جعل الأمور أسوأ، إذ انتقمت الحكومة الصينية من ليتوانيا بسبب اعترافها الرمزي بتايوان. وعلى مدار السنة الماضية، هددت الحكومات الأوروبية الأخرى بشأن نفس القضية. وسط هذه العلاقات المتوترة، أدى دعم الصين لروسيا في أوكرانيا إلى دفع مشاكلها الأوروبية إلى الذروة.
لا تعد المخاطر ضئيلة، خاصة بعد أن الحرب في أوكرانيا عن قلة عدد حلفاء الصين ومدى سوء تقدير القيادة الصينية بشأن العلاقات الوثيقة مع روسيا. كما أدت جهود بكين الصارمة لكسب النفوذ في أوروبا إلى نتائج عكسية. حتى في الوقت الذي يضمن فيه اقتصادها وقوتها العسكرية المتزايدة نفوذها واهتمامها، فقد أكد مشروعها الأوروبي الفاشل عدم قدرتها على كسب شركاء دائمين بين الديمقراطيات المتقدمة – وهو أسلوب من المرجح أن يعيق نفوذها على المدى الطويل في العالم.
ميثاق وارسو الصيني
تشكلت استراتيجية بكين الأوروبية الأوسع قبل عقد من الزمان حيمنا أطلقت الصين شراكتها مع وسط وشرق أوروبا. تأسس الحلف في وارسو في نسيان/ أبريل 2012، وسرعان ما أصبح يُعرف باسم مجموعة 16+1 التي تتألف من الصين و16 دولة أوروبية هي: ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وبولندا ورومانيا وصربيا. (نمت المجموعة لاحقًا إلى 17 عضو عندما انضمت اليونان لها في سنة 2019 بالنظر إلى أنها لم تكن جزءًا من الجبهة الشرقية القديمة، وتراجع العدد مرة أخرى إلى 16 عضو بعد أن تخلت ليتوانيا عن الاتفاقية في 2021).
في غضون ذلك، اعتبر العديد من المحللين الصينيين هذه الحملة الإقليمية خطوةً ذكية ومقدمة ناجحة لمبادرة الحزام والطريق التي تم إطلاقها في العام التالي في محاولة لتعزيز العلاقات التجارية والسياسية الصينية حول العالم. في عهد سلف الرئيس شي جين بينغ، جينتاو، سعت الصين إلى صياغة صورة لنفسها كدولة سلمية وتكنوقراطية أولويتها الرئيسية الاندماج في الاقتصاد العالمي بدلاً من إظهار القوة الصارمة.
رغم حجم الصين ونظامها السياسي الاستبدادي، رأى العديد من القادة الأوروبيين والشركات الأوروبية الكبرى مثل فولكس فاغن وسيمنز الصين دولةً ذات تطلعات مستقبلية إلى حد كبير وتوفر الوصول إلى سوق واسعة. وكانت أهداف الصين الاستراتيجية، مثل إعادة ضم تايوان وتوسيع قوتها في بحر الصين الجنوبي، بعيدة كل البعد عن المصالح الجوهرية لأوروبا
بالنسبة لكل من الصين وشركائها الأوروبيين، بدا أن مجموعة 16+1 منطقية أيضًا من الناحية التاريخية، وكان القاسم المشترك بين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وشركائه الأوروبيون الموروث الاشتراكي وكانت جميعها في مراحل مختلفة من الإصلاحات الاقتصادية الموجهة نحو السوق. كانت 11 من بين هذه الدول الصغيرة أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ما يوفّر للصين موطئ قدم في أكبر جبهة تجارية في العالم دون الحاجة إلى التنافس مباشرة مع الاقتصادات المتقدمة في أوروبا الغربية. كما أن المصانع الصينية في هذه البلدان تتميز بمؤهلات مماثلة لتلك العاملة داخل الاتحاد الأوروبي، وبذلك يمكنها الإستفادة من السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي مما يسمح لبكين أن تثبت وجودها في هذه البلدان بسهولة أكبر من نظيراتها الأكثر تقدمًا، مثل ألمانيا والدول الاسكندنافية.
رأت الحكومة الصينية في مجموعة 16+1 نقطة انطلاق لاتفاق اقتصادي أوسع مع الاتحاد الأوروبي نفسه. ففي سنة 2013، بدأ الاتحاد الأوروبي والصين مفاوضات بشأن ما أصبح يعرف بـ “الاتفاقية الشاملة للاستثمار”. بعد سنوات من المناقشات، أنهى الجانبان الصفقة من حيث المبدأ في سنة 2020 بدعم قوي من المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل. نظريًا، بدا أن الصين قد تكون في طريقها إلى بناء علاقة اقتصادية طويلة الأمد مع أوروبا.
بحلول هذه المرحلة، كانت مجموعة 16+1 قد تعثرت بسبب أهدافها غير المحددة بشكل جيد. ولسبب واحد، دخلت الصين وشركاؤها الأوروبيون الاتفاقية بتوقعات مختلفة جذريًا. منذ البداية، كان المشروع إلى حد كبير من بنات أفكار الصين التي أنشأت موقعًا على شبكة الإنترنت لتوثيق المشروع وأحدثت أمانة عامة يعمل بها بشكل حصري مسؤولو وزارة الخارجية الصينية.
على النقيض من ذلك، اعتبرت العديد من الحكومات في المنطقة العلاقة مجرد وسيلة لكسب الاستثمار والتجارة الصينية، لكنها لم تشارك بكين هدفها المتمثل في إعادة توجيه نفسهم بعيدًا عن بروكسل. إن الخطاب الرسمي الصيني بشأن الاتفاقية، الذي يعتمد على اللغة الغامضة والمبتذلة لخطاب الحكومة الصينية، لم يفعل شيئًا يذكر لتوضيح أهداف المجموعة، عدا الإشارة إلى أنها “قائمة على الصداقة التقليدية والرغبة المشتركة لجميع المشاركين في التعاون الذي يحقق المصلحة لجميع الأطراف والتنمية المشتركة”.
كانت النتائج الملموسة ضئيلة في المقابل، فالمشكلة الأساسية هي أن الصين افترضت أن دول وسط وشرق أوروبا تشكل جبهة متماسكة. امتدت المنطقة التي تغطيها مجموعة 16 +1 ما يقرب من 2000 ميل (ما يعادل 3218 كيلومتر)، من إستونيا في الشمال إلى اليونان في الجنوب، وشملت بلدانًا ذات ظروف اقتصادية مختلفة للغاية. خمسة من أصل 16 دولة – ألبانيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا – لم تكن أعضاء في الاتحاد الأوروبي وكانت دولا أفقر إلى حد كبير ذات معايير تنمية أقل.
ما وحّد هذه الدول في البداية للموافقة على مبادرات الصين كان الافتراض بأنه في أعقاب الأزمة المالية لسنة 2008 ستوفر الشراكة مع بكين ضخًا هائلاً لرأس المال الصيني ،حيث ستحيي الأموال بعد ذلك المصانع والمشاريع القديمة التي لم تجد مستثمرين غربيين – إلا أنه لم يتحقق من هذه الآمال سوى القليل. في سنة 2013، مثلا، وفي قمة مجموعة 16+1 في بوخارست، ناقشت الصين والمجر وصربيا خط سكة حديد سريع بين بلغراد وبودابست. تم الإعلان عن المشروع الذي تبلغ تكلفته 3 مليارات دولار باعتباره أهم مبادرة “الحزام والطريق” في أوروبا وكرمز للشراكة الجديدة للصين. لكن بعد عقد من الزمان، لا يزال خط السكك الحديدية غير مكتمل وقد تورط في تهم بالفساد وانعدام الشفافية. كما أوضح الباحث الروماني أندريا برينزا أن مجموعة 16+1 سرعان ما أصبحت “قمة سنوية تضم عددًا كبيرًا من الوعود والمشاريع التي لم يتم الوفاء بها”.
وعود كاذبة
وفقًا للبيانات الصينية، فإن التجارة بين الصين وشركائها الأوروبيين قد نمت بنسبة 8 بالمئة سنويًا وذلك بين 2012 و2020، وارتفعت أكثر أثناء فترة الوباء. ولكن بدأ النمو من قاعدة منخفضة للغاية حيث كانت النتائج متواضعة جدًّا. فوفقًا للباحث التشيكي ريتشارد كيو. توركساني، لا تزال الصين تمثل أقل من 2 بالمئة من صادرات منطقة وسط وشرق أوروبا و9 بالمئة من وارداتها، كما كان للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني تأثير أقل، حيث شكّل أقل من 1 بالمئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر. وهذا يعني أن وسط وشرق أوروبا لديها أقل تمثيل صيني مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم فيما يخص حصصها في التبادل الاقتصادي. وبالنظر إلى جهود بكين التي استمرت لعقد من الزمن للمساهمة في زراعة المنطقة، فإن هذا يعتبر عرضًا ضعيفًا بشكل مثير للاستغراب.
أحد أسباب هذه النتائج السيئة للغاية هو أن النهج الصيني ترك زمام الأمر في القيام بالاستثمار الفعلي للشركات الصينية، التي على الرغم من أن العديد منها مملوك للدولة، إلا أنها لا تزال موجهة نحو نهج تحقيق الربح. بالنسبة لهذه المؤسسات، فإن وسط وشرق أوروبا ببساطة لا تعتبر ذات جاذبية كبيرة، فهي أقل كثافة سكانية مقارنة بأوروبا الغربية، والمدن فيها منتشرة عبر مساحة شاسعة، كما أن هناك بنية تحتية ومستويات معيشية أقل. لذلك لا غرابة أن القليل من الشركات الصينية تبنت الدعوة للاستثمار في المنطقة على الرغم من تشجيع بكين.
من منظور أوسع، يعكس هذا النهج الصيني في أوروبا مقاربة لصناعة سياسات تعتبر منطقية في الداخل الصيني لكنها لا تسير دائمًا بشكل جيد في الخارج، خاصة عندما يتعلق الأمر بالديمقراطيات المتقدمة، حيث تكون الحكومات مسؤولة بشكل أكبر أمام ناخبيها. وغالبًا ما تكون العديد من المبادرات في الصين مصحوبة بضجة لكنها لا تعبّر عن الواقع بل هي إحصاءات يتم إعدادها بشكل إبداعي – أي أنها تقدّم بيان النوايا بدلا من الخطط الملموسة، وقد يضاف ما يشير إلى المحتوى الفعلي لاحقًا أو بعد سنوات أو لا يضاف إطلاقاً.
تتمثل المشكلة الأخرى في التقارب بين النهج التجاري الصيني وبين السياسة الخارجية والتجارة الدولية. تخضع العلاقات الخارجية لحسابات المكاسب الاقتصادية، كما تفعل جميع الدول تقريبًا، غير أن الصين غير معتادة بين القوى الكبرى في الاعتماد بشدة على العلاقات الاقتصادية لرسم علاقاتها الخارجية. وغالبًا ما وصلت المشاريع التي أعلنت عنها الصين إلى طريق مسدودة مثل مشروع السكك فائقة السرعة، الذي يشمل توسعة بقيمة 15.6 مليار دولار لمحطة “سيرنافودا” للطاقة النووية في رومانيا، ولكن الاستثمارات الصينية المرجوّة لم تتحقق. وفي سنة 2020، وبعد سبع سنوات من توقيع الصين على تلك الصفقة، تولّى “ائتلاف تجاري أمريكي” إكمال المشروع.
بسبب كارثة المحطة النووية، قامت الحكومة الرومانية السنة الماضية بحظر الشركات الصينية من المشاركة في مناقصات البنية التحتية العامة، كما اتخذت حكومات أخرى في المنطقة خطوات مماثلة، حيث اعتبرت أن العطاءات الصينية على العقود تضر بجهودها في المنافسة مع الاقتصادات الصناعية الأكثر تقدمًا.
سياسة لي الذراع في تايوان
لم يقتصر تآكل الدعم الصيني في أوروبا على الإخفاقات الاقتصادية فحسب، إذ لجأت العديد من الحكومات الأوروبية بشكل متزايد إلى الالتفاف على جهود بكين لاستخدام قوتها الاقتصادية لإسكات الانتقادات الموجهة لسياساتها الخاصة المسجلة في مجال حقوق الإنسان، وهي الاستراتيجية القسرية التي تتجلّى بوضوح أكبر في قضية تايوان.
بأخذ حالة ليتوانيا على سبيل المثال، استخدمت معظم البلدان في أوروبا وأماكن أخرى كلمة “تايبيه” لوصف أي مكاتب تمثيلية تايوانية في بلدانهم، وذلك احترامًا للصين. والفكرة في الواقع هي أن استخدام اسم عاصمة الجزيرة مقبول أكثر من اسمها الرسمي “تايوان”، الذي يعني ضمنيًا أنها دولة مستقلة. وعندما قامت ليتوانيا بانتهاك هذه الاتفاقية السنة الماضية – السماح لتايوان بفتح مكتب تمثيلي باسم “تايوان” – كان رد بكين أن فرضت حظرًا اقتصاديًا شاملًا في البلاد، لم يقتصر على توقيف الصادرات الليتوانية إلى الصين فحسب بل هدّد بحظر أي منتج يتم تصنيعه في بلد آخر إذا كان يدخل في صناعته مكوّن ليتواني
في البداية، بدا أن ليتوانيا ستجد القليل فقط من المؤيدين في أوروبا حتى ترفض الرضوخ لهذه المطالب الصينية، وبات ذلك صحيحًا بشكل خاص بعد أن هددت الصين بفرض عقوبات على الشركات الدولية التي تستخدم مكونات مصنوعة في ليتوانيا، حيث مارست بعض دول الاتحاد الأوروبي – بما في ذلك ألمانيا، التي تملك تجارة كبيرة مع الصين – ضغوطًا غير رسمية على ليتوانيا للتراجع عن موقفها المؤيد لتايوان.
مع ذلك، وجد القادة الأوروبيون تدريجيًا أن هذا السلوك المتشدد لبكين لا يطاق. ففي كانون الثاني/ يناير 2022، حرّكت بروكسل قضية في منظمة التجارة العالمية تتهم فيها الصين بالانخراط في ممارسات تمييزية بعد أن أوقفت البضائع الليتوانية عبر الجمارك ورفضت طلبات الاستيراد من ليتوانيا. وفي خضمّ هذه العلاقات المتدهورة، جاءت الحرب في أوكرانيا لتجعل العديد من الحكومات الأوروبية أكثر حزمًا ضد الصين.
روسيا فوق أوروبا؟
فاجأ دعم الحكومة الصينية لروسيا في الفترة التي سبقت الغزو العديد من القادة الأوروبيين. فقبل أيام قليلة من بدء الحرب، أصدرت الصين وروسيا بيانًا مشتركًا يؤيد دعوة روسيا لعودة الناتو إلى حدود سنة 1997. هذا الإجراء كان من شأنه أن يجعل دولًا مثل جمهورية التشيك وبولندا وسلوفاكيا ودول البلطيق – وجميعهم أعضاء في مجموعة 16+1 التي كانت الصين تدعمها – مجردة من أسلحة وقوات الناتو، ما يجعلها عرضة لخطر مشابه لما حدث لأوكرانيا.
أدى سلوك بكين منذ بدء الحرب – بالتأكيد مرارًا على التبرير الروسي للغزو بأنه كان بسبب توسع الناتو – إلى بلورة القلق المتزايد في العواصم الأوروبية. ففي آذار/ مارس الماضي، قالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك إن “الحرب أظهرت أن التحالفات الاقتصادية من جانب واحد تجعلنا في الواقع عرضة للخطر، وليس فقط أمام التهديد الروسي”. تفاقم هذا الإحباط الأوروبي تجاه الصين بعد قمة انعقدت في أوائل نيسان/أبريل بين كبار القادة الصينيين والبرلمان الأوروبي، وصفها جوزيف بوريل، كبير ممثلي الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأنها “حوار الصم”. وكانت هذه المشاعر قوية بشكل خاص بين أعضاء مجموعة 16+1، وكثير منهم الآن على الخطوط الأمامية في أي مواجهة مع روسيا، وقد استفادوا هم أنفسهم من ضمانات الناتو الأمنية.
تتبنى العديد من الدول الأوروبية علانيةً موقف ليتوانيا الصريح بشأن تايوان، من بينها جمهورية التشيك، وهي واحدة من أغنى البلدان في المنطقة. ففي نيسان/أبريل الماضي، طالب وزير الخارجية التشيكي يان ليبافسكي بمزيد من الحيطة من دعم الصين لروسيا، متهمًا الصين بالتنمّر على تايوان، داعيًا إلى توطيد العلاقات بين التشيك وتايوان. في غضون ذلك، دعت لاتفيا، الجارة المقربة من ليتوانيا، بكين إلى استخدام المزيد من النفوذ من أجل وقف العدوان الروسي على أوكرانيا.
تجدر الإشارة إلى أن مجموعة 6+1 نفسها بدت أنها آيلة إلى الزوال بشكل متزايد. ففي السنة الماضية، امتنع رؤساء ست دول أعضاء عن حضور قمة افتراضية مع شي جين بينغ، وأرسلوا مسؤولين من مستوى أدنى بدلاً عنهم. وهذه السنة، لم تنعقد قمتها إطلاقًا ربما بسبب الحرب في أوكرانيا.
القوة وليس البراغماتية
تستدعي إخفاقات الصين في أوروبا الوسطى والشرقية تسليط الضوء على النهج الأيديولوجي المتزايد للدولة تجاه الشؤون الخارجية في عهد شي جين بينغ، ذلك أن معظم هذه الإخفاقات من صنعها. لطالما كانت الصين متشككة في التحالفات الغربية، على غرار الناتو، بيد أن قرارها بتأييد الموقف الروسي علنًا مضى بها خطوة إلى الأمام. وقد طلبت بشكل أساسي من دول مجموعة 16+1 التخلي عن إحدى أولوياتها الرئيسية في السياسة الخارجية. وعلى الأشخاص الفاعلين في مؤسسة السياسة الخارجية الصينية أن يدركوا مدى سوء تأثير ذلك في المنطقة، لكنهم على ما يبدو غير قادرين على التأثير على القيادة الصينية، فانتصرت بدلًا من ذلك رغبة الرئيس تشي في إبرام صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تربطه به علاقات شخصية قوية. هذا التصرف هو جزء من تهميش شامل لخبراء السياسة الخارجية في الصين لصالح أتباع الأيديولوجيات الأقرب إلى شي.
على الصعيد الاقتصادي، يشكّل الاستثمار في البلدان الأقل ثراءً في أوروبا تحديًا تحت أي ظرف من الظروف، وعدم رغبة الصين في رؤية المشاريع المتعثرة تكتمل زاد الوضع سوءًا مع استمرار القمم المنعقدة مع 16+1 بنفس الأهداف المدرجة على الموقع الإلكتروني الصيني للمنظمة.
لكن هذا النهج الثابت لبكين تجاه أوروبا قد لا يستمر إلى الأبد، إذ يرى المحللون والمسؤولون في وسط وشرق أوروبا الذين تعاملوا مع الصين أن مسؤوليها الرسميين مجرد أقوياء لغويًا في هذه الفسيفساء من الثقافات واللغات التي تطبع المنطقة. كما يعتبرون القيادة الصينية مثابرة، فعلى الرغم من أن زيارة سفيرها إلى المنطقة الشهر الماضي اعتبرت فاشلة، إلّا أن بكين من غير المرجح أن تستسلم.
مع ذلك، فإن النجاح سيعتمد على العودة إلى سياسات أكثر واقعية. ومع احتمال تولي شي جين بينغ فترة ولاية أخرى مدتها خمس سنوات في الاجتماع الرئيسي للحزب الشيوعي هذا الخريف، فإن هذا النوع من تصحيح المسار قد ينتظر أكثر.
المصدر: فورين أفيرز