غالبًا ما كانت العقوبات تفرضها الدول الغربية الكبرى ضد دول العالم الثالث للضغط عليها في مسألة ما، لكن الجزائر – الدولة العربية – قلبت المعادلة وأصدرت عقوبات ضد إحدى الدول الأوروبية وهي إسبانيا، للضغط عليها وإجبارها على تعديل موقفها من الصحراء الغربية.
عقوبات هي الأولى من نوعها، من شأنها أن تؤثر سلبًا على مدريد وتزيد من متاعب اقتصادها الذي لم يتعاف بعد من تداعيات أزمة كورونا ولها أن تؤثر أيضًا على الحكومة الإسبانية، ما يمثل رسائل كبرى للأوروبيين.
عقوبات جزائرية
انتظرت الجزائر بعض الوقت، علّ التوضيح الإسباني يأتي، لذا قررت تعليق “معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون” التي أبرمت في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2008 مع إسبانيا وحددت تطوير العلاقات بين البلدين، على خلفية “انتهاك مدريد لالتزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية”.
وتدور محاور المعاهدة حول احترام القانون الدولي والمساواة في السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرفين والامتناع عن اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها عند أي خلاف وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية والتعاون من أجل التنمية، بالإضافة إلى احترام البلدين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للشعبين.
كما وجهت الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية في الجزائر، تعليماتها لكل مديري البنوك تمنع بموجبها أي عملية توطين بنكي لإجراء عملية استيراد من إسبانيا، وأيضًا تمنع التعليمات الصادرة، أمس الأربعاء، أي عملية توطين بنكي لإجراء عملية تصدير نحو إسبانيا.
#الجزائر ?? تعلن حظراً شاملاً على جميع وارداتها من أسبانيا فوراً وتعلق معاهدة الصداقة والتعاون معها
ورقة الغاز لا يزال احتمال قائم
أسبانيا تعتمد على الغاز الجزائري لسد احتياجاتها وستختنق إذا توقف الغاز عبر انبوب ميدغاز
إيطاليا?? أيضاً ستتأثر لانها تعتمد على الغاز الجزائري pic.twitter.com/wez7xgsVlE
— نايف الدندني | Naif Aldandeni (@NaifAldandeni) June 9, 2022
ضمن سلسلة العقوبات أيضًا، قررت سلطات الجزائر تجميد عمليات التجارة الخارجية للمنتجات والخدمات من وإلى إسبانيا اعتبارًا من أول أمس الخميس، وهي المرة الأولى التي تقدم فيها الجزائر على هذه الخطوة مع دولة أوروبية.
كما قرّرت الجزائر وقف التعاون الكامل مع إسبانيا في ملف الهجرة غير نظامية ورفض تسلم وعودة المهاجرين غير النظاميين وترحيلهم إلى البلاد، ومن المتوقع أن تخفف سلطات الجزائر القيود المفروضة على الهجرة غير النظامية المنطلقة من سواحلها.
ورغم تأكيد التزامها بالعقود المبرمة مع الجانب الإسباني بخصوص الغاز، من المرجح أن تستعمل الجزائر هذه الورقة أيضًا إما بخفض الإمدادات وإما وقفها تمامًا وإما رفع سعر الغاز تماشيًا مع أسعاره في السوق العالمي.
تأثير اقتصادي وسياسي
هذه الإجراءات الجزائرية المتتالية التي جاءت ردًا على تبني رئيس الحكومة بيدرو سانشيز موقفًا داعمًا لرؤية المغرب في نزاع إقليم الصحراء الغربية، من شأنها أن تؤثر سلبًا على اقتصاد مدريد الساعي إلى التعافي.
ستُفقد هذه العقوبات الطرف الإسباني سوقًا يدر عليها أموالًا طائلةً سنويًا، إذ تعتبر إسبانيا خامس مورد للجزائر بعد الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وثاني أكبر سوق لها في إفريقيا بعد المغرب، بينما تصدر الجزائر لإسبانيا، قرابة نصف احتياجاتها من الغاز.
تفيد أرقام نشرتها صحيفة “إلبايس” الإسبانية شهر مارس/آذار الماضي، نقلًا عن معهد التجارة الخارجية الإسباني (ICEX) بأن صادرات إسبانيا إلى الجزائر، بلغت عام 2020، مليارين و107 ملايين دولار، والواردات مليارين و762 مليون دولار.
الذي يرى أن #الجزائر ?? أوقفت إستيراد كل ما هو “صنع في #إسبانيا” ?? و يعتبره خرق لعقود الشراكة مع الاتحاد الأروبي؛ عليه أيضا أن يعلم بأن الاتحاد الأوروبي ?? لم ينقل التكنولوجيا و لم يجسد إستثمارات في الجزائر و هي صلب موضوع الشراكة… لابد من إعادة التفاوض من أجل علاقة رابح رابح.
— Dr.Ishak Kherchi د. إسحاق خرشي (@IshakKherchi) June 8, 2022
من شأن تعليق العمليات التجارية من وإلى إسبانيا أن يلحق أضرارًا بالغة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في إسبانيا لصعوبة إيجاد سوق بديلة لترويج منتجاتهم في هذا الوقت، ومن أبرز الشركات التي ستتضرر من القرارات الجزائرية الأخيرة نجد “ناتور غاي” و”ريبوسل” وكذا “سيبسا” و”تيكنيكا ريونيداس”، بالإضافة إلى شركات أخرى معروفة بعلاقاتها التجارية مع الجزائر.
وتتنوع الصادرات الإسبانية إلى الجزائر ومنها الحديد والصلب والأجهزة الميكانيكية والورق والكرتون والوقود المعدني، فيما تركز الاستثمارات الإسبانية في الجزائر على قطاعات الطاقة والبناء والمياه.
العقوبات الجزائرية لن تؤثر على اقتصاد إسبانيا فقط، بل ستصل تداعياتها إلى الحكومة وستُهدّد استقرارها الهش، وسيكون رئيس الحكومة أول ضحايا هذه الإجراءات، فهو من يتحمل مسؤولية تدهور العلاقات بين البلدين.
تداعيات هذه القرارات لن تكون حكرًا على إسبانيا، فستصل إلى الدول الأوروبية أيضًا
تواجه حكومة سانشيز انتقادات كبيرة من المعارضة التي تطالبها بتقديم تفسيرات عن تعرض عشرات هواتف الأشخاص المرتبطين بشكل أو آخر بالحركة الانفصالية في إقليم كتالونيا، للاختراق عبر برنامج بيغاسوس في الفترة الممتدة من 2017 إلى 2020، بحسب ما يشير تقرير لخبراء عاملين في مجموعة “سيتيزن لاب” في كندا.
كما تلاحق سانشيز انتقادات نتيجة تعرضه لعملية “تنصت خارجي” عبر برنامج بيغاسوس، حدثت العام الماضي، على هاتفه وهواتف ووزيرة الدفاع مارغريتا روبليس ووزير الداخلية فرناندو غراندي مارلاسكا، وتتهم أوساط إسبانية عديدة المغرب بالوقوف وراء عمليات التجسس.
عقوبات الجزائر وفضائح التجسس المتتالية، من شأنها أن تضعف سيطرة سانشيز على الوضع وأن تعجل بالإطاحة بحكومته التي تزداد عزلة يومًا بعد يوم، خاصة أن هناك أنباءً تفيد باستغلال سانشيز لمنصبه لخدمة المصالح الاقتصادية لزوجته في المغرب.
رسائل للأوروبيين
تداعيات هذه القرارات لن تكون حكرًا على إسبانيا، فستصل إلى الدول الأوروبية أيضًا وإن كان بطريقة غير مباشرة، وهو ما عجل باجتماع الأوروبيين لتدارس الوضع، كما توجه وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، إلى بروكسل في زيارة طارئة للقاء دومبروفسكيس، وهو أيضًا نائب رئيس المفوضية الأوروبية.
عقب ذلك دعت المفوضية الأوروبية الجزائر للتراجع عن قرارها تعليق التجارة مع إسبانيا، كما أبلغت الحكومة الإسبانية والجزائرية بضرورة الاحتكام إلى الحوار، وأكدت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، نبيلة ماصارلي، أن “القرار الجزائري بتعليق اتفاقية الصداقة مع إسبانيا مقلق للغاية بالنسبة لنا”، وطلبت ماصارلي من الجزائر مراجعة قرارها، مقرة بأن “الجزائر شريك مهم في البحر الأبيض المتوسط، ولاعب رئيسي في استقرار المنطقة”.
عاجل: الاتحاد الأوروبي يقول انه يفضل الحوار مع السلطات الجزائرية فيما يخص وقف الجزائر المعاملات مع اسبانيا
الأمس كانو يتخذون القرارات بسرعة واليوم يفضلون الحوار لأن موازين القوى تغيرت
— محمد لمين بليلي (@bellmolamine) June 10, 2022
يؤكد هذا الأمر أن بعض رسائل الجزائر للأوروبيين بدأت في الوصول، فقراراتها الأخيرة أرادت من خلالها التأكيد أنها لاعب مهم في المنطقة وليس من السهل تجاوزها أو اتخاذ مواقف لا تصب في مصلحة أمنها القومي.
أرادت الجزائر أن تؤكد أن أمنها القومي (مرتبط بقضية الصحراء الغربية) خط أحمر، وعلى الأوروبيين مراعاة مصالحها حتى تتواصل العلاقات معها بالكيفية التي تخدم الطرفين وليس طرف واحد فقط اعتاد أن يسمع الجميع أوامره.
استعملت الجزائر ورقة الاقتصاد كما تستعملها الدول الكبرى للضغط وتأكيد قوتها ونديتها، فهي تريد أن تفرض على الأوروبيين التعامل بمبدأ الند بالند وليس بمنطق إصدار الأوامر والاستجابة لها طوعًا، فذلك زمن ولّى وفق مسؤولين جزائريين.
أوراق ضغط
هذا التحول في السياسة الخارجية الجزائرية لم يكن من فراغ، إذ تمتلك الجزائر أوراق ضغط عديدة منها ورقة الغاز، فمن خلالها يمكن أن تضغط الجزائر على الأوروبيين، ذلك أنها تحتل المراتب الأولى ضمن مصدري الغاز لدول القارة العجوز.
كما تمتلك الجزائر ورقة الهجرة، ويمكن أن تلعب بها للحصول على تنازلات أوروبية، ذلك أنه يمكنها أن تخفف مراقبة سواحلها المطلة على البحر المتوسط، ما سيُضاعف من عمليات الهجرة غير النظامية نحو السواحل الأوروبية.
ورقة الضغط الأخرى التي تمتلكها الجزائر، تتمثل في تحالفاتها الجديدة، إذ تمكنت الجزائر في السنوات الأخيرة من الخروج من عباءة الأوروبيين ونسج تحالفات جديدة مع قوى دولية وإقليمية كثيرة على غرار روسيا والصين وتركيا.
أين الرئيس الفرنسي #ماكرون من كل الذي يحدث من حوله حتى #إسبانيا الدولة العضوة في #الاتحاد_الأوروبي لم تجدك بجانبها في محنتها.
فقط قل كلمة واحدة!! #الجزائر pic.twitter.com/ieyjoxaLGt
— ابو لقمان????✌️? (@DjahidLokman) June 11, 2022
هذه التحالفات يمكن أن تُغني الجزائر عن تحالفاتها القديمة مع الأوروبيين، فالحلفاء الجدد يقدمون خدماتهم لقادة هذه الدولة العربية لما تمتلكه بلادهم من ثروات ومكانة إستراتيجية، فهي تطل على المتوسط وتحد دول الساحل.
من شأن التحركات الجزائرية المتسارعة أن تجبر صناع القرار في إسبانيا على مراجعة مواقفهم والعودة إلى ما كان عليه الوضع في السابق، فإسبانيا لا يمكنها أن تتحمل ضغوط أكبر، خاصة أن اقتصادها ليس في أفضل حالاته.