منذ بداية السينما كفن مستقل، اشتهرت السينما الأمريكية بتحقيق نوعيات فيلمية معينة، كانت السينما الرياضية وما زالت واحدة من هذه النوعيات التي تأخذ مساحة جيدة من السوق الأمريكي، سواء في منتجات بصرية وثائقية أم روائية، تحظى معظم هذه الإنتاجات بالرواج والنجاح التجاري المطلوب.
وإذا دققنا النظر، يمكننا رصد توظيف الممارسات والألعاب الرياضية كعنصر روائي داخل المروية السينمائية في حقبة السينما الصامتة، تحديدًا فيلم شارلي شابلن “The Knockout” عام 1914، وغيرها من الأفلام التي لم تتعرض للرياضة كموضوع مستقل للفيلم إنما كأداة وعنصر موظف لصنع الدراما داخل سياق أعمق، أي أنها مجرد طبقة لصنع الدراما داخل مروية أكثر شمولًا، لترتفع في ذروتها وتكوّن نوعية مستقلة في السبعينيات مع ظهور أفلام “Rocky” للنجم سيلفستر ستالون عام 1979، الذي حقق نجاحًا تجاريًا هائلًا، استطاع من خلاله استكمال عدة أجزاء أخرى من الفيلم ليتحول إلى كلاسيكية من كلاسيكيات السينما وحجر أساس في النوعية الرياضية.
رغم أن بعض الأفلام سبقت “Rocky” لهذه النوعية مثل “Body and Soul” عام 1947، لكن الروكي هو من أسس لهذا النمط بصريًا، النمط الذي يجمع بين التجاري والملهم والجسدي، ليأتي بعدها المخرِج العبقري مارتن سكورسيزي ويعيد تعريف تلك النوعية من خلال فيلمه الرائع “Raging Bull” الذي أضاف للسينما ككل، بصريًا وسرديًا.
تتعاطى نوعية الأفلام الرياضية مع ثيمات وموتيفات بعينها، تحولت مع الوقت إلى كليشيهات معهودة، ربما يحاول كل فيلم منح خصوصية لموضوعه، إلا أن النوعية ذاتها توقفت عن التطور في شكلها وموضوعها، رغم المساحة الثرية والمتفرعة التي توفرها الرياضة، سواء في الجانب الفني داخل الملعب أم الإدارة وروافدها خلف الأبواب المغلقة، بجانب التطور التقني والإنتاجات الضخمة التي منحت المخرجين صلاحيات جديدة في مناطق غير معهودة.
لكننا لا نرى اختلافًا كبيرًا بين القديم والحديث إلا في نقاط جوهرية، فإذا قارنا فيلم “Hustle” الصادر هذا العام للمخرِج جيرِمَيا زاجَر بالأفلام الرياضية التي سبقته، لن نلاحظ الكثير من الفوارق من حيث الكتابة، القصة التقليدية ذاتها للبطل الذي يكافح من أجل فرصة لينبعث من الرماد، بيد أن هناك اختلافًا وحيدًا هو ما يمنح الفيلم قيمة فنية جيدة، ويأتي بجديد للنوعية الرياضية، هو الممارسة الواقعية للقصة من خلال أجواء موازية للحقيقة الفعلية داخل الرياضة، وخلق هذه الأجواء يحرك السردية داخل مساحة غير معهودة في أفلام كرة السلة، مساحة مشغولة بالاشتباك مع الواقعي، فيما تدنو أكثر من عملية صناعة اللاعب ذاته، وتحاول الانفلات من السيناريوهات المتخيلة ـ قدر الإمكان لأن السيناريو ذاته عملية تخيّل ـ التي تلعب على أوتارها أغلب أفلام هذه النوعية.
يدور الفيلم حول ستانلي (الممثل آدم ساندلر) لاعب كرة سلة سابق، يعمل ككشاف مواهب لدى فريق “فيلادلفيا سفنتي سيكسرز ــ Philadelphia 76ers” الذي ينشط داخل دوري الـNBA لكرة السلة، تقوده الصدفة للعثور على لاعب شاب موهوب يدعى بو كروز (الممثل ولاعب كرة السلة المحترف خوان هرنانجومز)، يؤمن بموهبة اللاعب ويصحبه إلى أمريكا بعد أن رفضه فريق السيكسرز، ليتحول هذا الفتى إلى مشروعه الخاص وفرصته الذهبية ليتحول من مهنة كشاف اللاعبين التي يمقتها، إلى مهنة التدريب التي يعشقها.
يبدأ ستانلي في تدريب بو لوضعه فيما يسمى الدرافتنج NBA draft، وهو نظام انتقائي يتقيد بشروط معينة لاختيار لاعبين يصلحون للعب في الـNBA أقوى دوري لكرة السلة في العالم، ولا يمكن لأي لاعب الاحتراف في الـNBA دون المرور على نظام الدرافتينج الذي يضم 60 لاعبًا كل عام.
يتحرك “Hustle” في بطن تلك العملية، عملية الانتقاء والعرض والمواجهة، فيفتتح المخرج فيلمه بلقطة لبطل الفيلم ستانلي داخل رواق ملعب كرة سلة في صربيا، يراقب لاعبًا مميزًا يدعى ديمتري جوفانوفيتش (لاعب كرة السلة المحترف بوبان ماريانوفيتش)، يعجب بأداء اللاعب، يسأله عن عمره، فيجيب 22 عامًا، بيد أن شكله في الحقيقة يوحي أنه يتجاوز الثلاثين، فيشطبه من القائمة، وعلى هذا المنوال عدة لقطات تبدو شديدة الواقعية لمباريات كرة سلة.
يرصد المخرج العالم بعين كشاف اللاعبين، فيلاحظ اللاعب الأناني والعصبي والفتى الذي يستعرض خلال الإحماء فيصاب، وهكذا يمهد للعالم الذي يحاول كشفه، عالم محجوب عن عين المعجبين الذي لا يرون إلا اللقطة الأخيرة عندما يكون اللاعب قد سجل بالفعل داخل الفرق الثلاثين للـNAB، رغم أهمية عملية انتقاء اللاعبين وضرورة وجودها لتغذية الدوري، لذلك كان من الممتع كشف بعض هذه الكواليس حتى لو بطريقة غير مباشرة، ما أضاف للفيلم بعدًا واقعيًا، وأثار الاهتمام حول موضوع شديد الأهمية بالنسبة للصناعة نفسها.
يطعم المخرج سرديته بعدة عناصر، يحاول من خلالها الوصول لأكبر قدر ممكن من الواقعية، إلى جانب قدرة هذه العناصر على مضاعفة نسبة نجاح الفيلم على المستوى الجماهيري، فيضمّن عددًا كبيرًا من لاعبي كرة السلة المحترفين داخل الفيلم، وينجح في تسكين هؤلاء اللاعبين أدوارًا مهمة وأساسية في المروية.
فالبطل الأساسي هو لاعب كرة سلة سبق واحترف في الـNBA، إلى جانب اللاعب المحترف الشاب أنثوني إدواردز الذي نجح في تمثيل دور الوغد داخل الملعب، وهذا طبيعي، فهؤلاء اللاعبون مروا بمثل هذه الظروف من قبل، ويعرفون ما يدور داخل الملعب في الخفاء بين اللاعبين، بالإضافة للعديد من النجوم الذين شاركوا بشخصياتهم الحقيقية مثل تراي يونغ وسيث كاري وتوبياس هاريس وماتيس ثيبول والعملاق شاكيل أونيل، وغيرهم من النجوم التي يعرفها محبو كرة السلة جيدًا، لذا سيبدو كل شيء أقرب للواقع وهذه ميزة جيدة، إلى جانب تطويع مواقع التواصل الاجتماعي داخل الحكاية، ومنحها دورًا مهمًا في تسيير الأحداث.
بخلاف ذلك لم يقدم الفيلم جديدًا على مستوى القصة والسرد، ولا حتى على المستوى البصري، لم تفاجئنا القصة بأي شيء جديد، كل الأحداث شبه متوقعة ومعروفة للمشاهد، والشخصيات أيضًا تنتمي للسينما السائدة المعهودة، لم نشاهد تلك الشخصية المتفردة رغم الأداء الجيد لكل الشخصيات داخل الفيلم.
لكن هذا لم يكف لصنع فيلم جيد، فهناك بعض الفجوات السردية في القصة، فلم نعرف ما سر العداء بين ابن رئيس النادي وستانلي مثلًا، فقد حاول المخرج أن يصنع تاريخًا لشخصياته، لكن هذا الماضي لم يضف جديدًا عن المعهود، لم يتجاوز السردية النمطية عن أشخاصٍ يستحقون أكثر مما تمنحهم الحياة، حتى فكرة المدد الغيبي Deus ex machina الذي سحقها الزمان، يتم توظيفها لمساعدة البطل وإنقاذه، لماذا؟ لا نعرف الأسباب، إنه مدد غيبي لا يمكن تفكيكه أو محاولة فهمه، وهذه ثغرة في أي نص مكتوب، لكن الكاتبين تايلور ماتيرن وويل فيترز قررا الاستعانة بها لتخليص البطل من أزمته ومنحه فرصة جديدة.
رغم هذا الكم الكبير من المشاكل في الكتابة، نجح المخرج في صنع عمل ممتع، قابل للمشاهدة العائلية، يغطي معظم الطبقات الجماهيرية، فالفيلم ذاته مصنوع بشكل جيد على المستوى التقني، فضلًا عن أن منتجي الفيلم ـ بجانب منصة نتفليكس ـ هما اللاعب الأمريكي العظيم والأكثر شهرة ليبرون جيمس والممثل الشهير الذي يقوم بدور البطل في الفيلم آدم ساندلر الذي يثبت مع مرور الوقت أنه ممثل له ثقل على الشاشة، ويمكن تسكينه في أدوار مركبة وصعبة، ويؤكد مرة أخرى امتلاكه للأدوات المناسبة ليعود كممثل درجة أولى ويبتعد عن الكوميديا الرخيصة، ويعتبر فيلم Hustle التجربة الثانية الناجحة بعد فيلمه الرائع عام 2019 “Uncut Gems”.
استخدم المخرج العديد من الأغاني لرفع النسق وخلق حالة من الترفيه والحماس داخل الفيلم، وهو استخدام موفق داخل الإطار التجاري الذي ينافس خلاله الفيلم، بجانب استخدام نمط معين في توليف الفيلم من حيث المونتاج، لتظهر بعض اللقطات أشبه بإعلانات سريعة وخاطفة مثل ما تصنعه شركات مثل كوكاكولا وبيبسي، وعلى غرار ذلك فالمتعة تكمن في المواجهات داخل الملعب، مهارات اللاعبين والقدرة على التوليف والرصد والاستعراضات بالكرة والحماس داخل إطار المباراة يمنح المشاهد تجربة ترفيهية تستحق المشاهدة.