اعتاد الرؤساء في الصومال ومنذ الاستقلال على استغلال منصبهم وسلطتهم من أجل خرق الدستور المعمول به في البلاد، ولم يكن المثقفون يجدون في ذلك حرجًا، الأمر بالنسبة لهم له معنى واحد: على الدستور أن يتماشى مع هوى الرئيس وإلا فهو مردود، ويجب تعديله ليتلاءم مع الرؤية الشخصية للرئيس.
في عهد الرئيس الراحل “آدم عبد الله عثمان”، كان الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية يختار رئيس وزراء من أعضائه، وهكذا اختار نواب حزب الأغلبية SYL “عبد الرشيد شرماركي”، ولكن الرئيس لم يكن يستلطف الرجل لخلافات في الرؤى بينهما، فرفض وعيّن “عبد الرزاق حاجي حسين”، وبدورهم أبى أعضاء مجلس الشعب منحه الثقة لمرتين وفي المرة الثالثة هدّد المجلس بالحل ما لم يمنح الثقة لمن عيّنه.
ومنذ عهد “عبدي قاسم صلاد” وحتى اليوم، ماتزال نفس القصة تتكرر، فإذا شعر الرئيس بأن رئيس الوزراء يتصرف بما لا يوافق هواه بغض النّظر عن الشرعية والقانونية في هذه التصرفات، فإن الحل الوحيد هو دفعه للاستقالة أو الدفع بالبرلمان ليحجب الثّقة، وفي كل مرة يكون الرئيس على حق ورئيس الوزراء على باطل، لأن الدستور متناقض بما أنّه لم يتلاءم مع هوى الرئيس.
اعتمدت الرئاسة إستراتيجة قديمة للإطاحة برئيس الوزراء انطلاقًا من نقاط قوتها: الأغلبية البرلمانية، أعضاء من مجلس الوزراء المآزرين، الإعلام، العاطفة الوطنية (الوحدة والبناء)، قوة التنظيم، والمال، وفي المقابل لم يكن للمعارضين أي نقاط قوة تذكر، فعددهم لا يكاد يتجاوز 30 نائبًا على أكثر تقدير، وليس لديهم إعلام ولا تعاطف شعبي، فسمعة عضو البرلمان في غاية السوء، مرتزق تحركه الأموال ويميل مع من يدفع أكثر، ويؤيد من يعتقد أنّه المنتصر، فكيف سيتواجه أقزام وعمالقة؟
من النّظرة الأولى، آمنت شريحة واسعة بأن النهاية معروفة، وللعبة قواعد ثابتة، سيعطى النواب رشاوى مناسبة ووعود بمناصب في الحكومة، وستنعقد جلسة غير عادية لتقديم المقترح وتمريره بتصويت الأغلبية الموالية لفيلا صوماليا، وترفع الجلسة وتبدأ رحلة البحث عن بديل لرئيس الوزراء، لا مجال لاحتمال آخر .. البقاء للأقوى.
كانت الرئاسة تهدف فقط للإطاحة برجل لتستبدله بآخر يبقي المقربين لها ضمن دائرة أكثر تأثيرًا في مستقبل الصومال، بينما كان هدف الأقلية تغيير مسار الدّولة من خلال:
أولاً: وقف هذا المقترح، وعدم السّماح بتمريره.
ثانيًا: وضع نهاية لاستغلال مجلس الشعب ودفعه ليحل محل المحكمة الدستورية المعطل إنشاؤها.
ثالثًا: إرسال رسالة قوية بأن على الرئاسة مراجعة آلياتها لحل الخلافات، إذ ليس من مصلحة الوطن إزاحة كل من لا يروق لهم.
بدا منذ الجلسة الأولى أن الأقلية البرلمانية أعدّت خطة تغيّر قواعد اللعبة، وستستدرج الأغلبية للعب في حلبة لم تعتد عليها، فرفعت لافتات ذات مغزى مثل “لا صوت مقابل مال” وبصوت واحد رددوا النشيد الوطني، وبعدها هتفوا: لن نقبل لن نقبل!
انسحب رئيس البرلمان ورفعت الجلسة، ولم يقصّر الإعلام ولا المواطنون في التنديد بهذه الاحتجاجات السلمية، ووصفوها بالفوضوية، وطالب بعض نواب الأغلبية بمعاقبتهم وفق اللوائح الداخلية للبرلمان، وضرب موعد آخر لحجب الثقة.
هذه المرة دخل نواب الأقلية وهم يرفعون أيديهم ويرددون النشيد الوطني، وكتعبير عن الرفض لهذا المقترح غير الشرعي، وزّعت وجبات الغداء والشراب، وبدأ بعضهم يرقص في القاعة محتجًا ورافضًا؛ وبالفعل فشلت الأغلبية بتقديم المقترح.
وفي المرة الثالثة، مزقت الأقلية أوراق تسجيل الحضور، ومع غياب التغطية الإعلامية، حرص النواب على استخدام كاميرات هواتفهم الذكية لتصوير جلسة الاحتجاج القوية التي كان من أبرز شعاراتها “الأفراد أم الوطن” في إشارة إلى إضاعة ما يقارب الشهر من عمر الوطن لأن شخصًا ما تغيّرت وزارته من العدل والشئون الدستورية للثروة الحيوانية، وأصدر رئيس البرلمان بيانًا يقول فيه إن المقترح قسّم أعضاء البرلمان ولن يُقدّم إلى أن يعود الهدوء لمجلس الشعب.
ارتكبت الرئاسة نفس الخطأ الذي ارتكبه جالوت في مبارزته لداود عليه السلام، أخذته العزّة بقوته ودرعه وترسه وسيفه وضخامة جسده وسمعته كمقاتل لا يُهزم، فالناس عادة ترهب من تسمع عن انتصاراتهم ودهائهم، ولا تفكر بطرق مقاومة سليمة وإستراتيجيات قويمة لكسر شوكتهم، فالأقوياء وأصحاب النّفوذ – كما يقول مالكولم غلادول في كتابه “داود وجالوت: المستضعفون وفن منازلة العمالقة” – ليسوا دائمًا كما نظن، فغالبًا ما تكون نقاط قوتهم هي نفسها مصدرًا لجوانب ضعفهم.
يبدو فعلاً أن النظرة لطريقة تعامل الأقلية البرلمانية مع مقترح حجب الثقة في طريقها للتغيّر وكسب الاحترام، فالنفس مجبولة بالميل للمقاومين الأذكياء، وكلما طال أمد الصراع كلما تقلصت فرص كسب الرئاسة للمعركة المستمرة حتى الآن.