انطلقت اليوم الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية لانتخاب 577 نائبًا، فيما يتوقع أن تكون معركة حامية الوطيس بين التحالفات الثلاث: تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون “معًا” وتحالف الاتحاد الشعبي الاجتماعي والبيئي الجديد “NUPES” و”التجمع الوطني” المتطرف بقيادة ماريان لوبان، على أن تستكمل الجولة الثانية في 19 من الشهر الحاليّ.
ويعد الماراثون الحاليّ المدعو للمشاركة فيه 48 مليون ناخب، امتدادًا سياسيًا للانتخابات الرئاسية التي جرت في 10 و14 أبريل/نيسان الماضي التي استطاع فيها ماكرون هزيمة لوبان، لكنه لم يكن الانتصار المريح في ظل المنافسة الشرسة لزعيم اليسار المخضرم جان لوك ميلينشون (حل ثالثًا في الانتخابات) ووضع نصب عينيه بعد خسارته في الجولة الرئاسية أن يصبح رئيسًا للوزراء في الانتخابات التشريعية.
وبعد شهر ونصف على فوزه بولايته الرئاسية الثانية، يجد ماكرون نفسه في معركة طاحنة، ربما يكون طرفاها ميلينشون ولوبان، لكن بحسب استطلاعات الرأي فإن الماراثون سيكون ثنائيًا بين الرئيس المنتشي بفترة جديدة واليسار الذي يبدو أنه استفاد جيدًا من دروس انتخابات أبريل/نيسان.
وتستمد تلك الانتخابات قيمتها من مسؤوليتها عن رسم المشهد السياسي الفرنسي خلال السنوات الخمسة المقبلة، سواء فيما يتعلق بتركيبة البرلمان الجديد والتي عليها يكون تشكيل الحكومة وصلاحياتها الممنوحة ومن ثم مدى قدرة ماكرون على تنفيذ برنامجه بأريحية كاملة.. فهل يواصل الرئيس الفائز بولاية ثانية سلسلة انتصاراته أم سيكون لميلانشون رأي آخر؟
طموح اليسار
يؤمل اليساريون أنفسهم بحدوث المفاجأة وتحقيق انتصار يعوض خسارة المعترك الرئاسي، ويدرك ماكرون جيدًا أن معركته الأساسية مع “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد” وهو ما دفعه لحشد الأنصار لحسم الماراثون مبكرًا، فيما سخر ميلانشون مما أسماه “الهلع السائد” في معسكر ماكرون.
يستند الائتلاف اليساري في معركته على نزيف الرصيد الشعبي الممنوح لماكرون في ظل الاحتجاجات التي اندلعت على خلفية ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة، التي بلغت الضغط على الحكومة لإلغاء بعض القرارات المالية وفي المقدمة منها الإصلاحات الضريبية التي أفرغت جيوب الطبقتين العاملة والمتوسطة.
نجح ميلنشون في توحيد أكبر أحزاب اليسار تحت راية ائتلافه الذي يضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين
ويعاني الرئيس الفرنسي – رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية – من انتقادات شعبية حادة، كانت أبرزها تلك التي ترفعها حركة “السترات الصفراء” المستمرة في حراكها للعام الثالث على التوالي وتجاوز سقف مطالبها تغيير الحكومة إلى المطالبة بتقديم ماكرون لاستقالته، ما مثل ضغطًا كبيرًا عليه خلال الآونة الأخيرة، استغله اليسار بشكل واضح.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير/شباط الماضي لتعمق الأزمة، حيث الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية، ثم تعرض مستقبل الطاقة في البلاد للخطر في ضوء مناقشة فكرة الاستغناء عن الطاقة الروسية واستبدالها بمصادر من دول أخرى، ما وضع الإليزيه في مأزق حقيقي أمام الشارع الباحث عن الاستقرار السلعي الإستراتيجي مهما كان الثمن.
وتعتمد خطة اليسار على مخاطبة الفئات المقهورة والعاملة والمهمشة، كما جاء على لسان إحدى المرشحات في باريس، راشيل كيكي (48 عامًا)، إذ كشفت في تصريحاتها لـDW أنها “تريد أن تمثل وتدافع في البرلمان عن مصالح المواطنين البسطاء الأقل حظًا”، مستعينة بتجربتها الخاصة وهي تعمل بأحد فنادق باريس حيث استطعن بعد 22 شهرًا من الإضراب المتواصل عن العمل، إجبار سلسلة فنادق Accor العالمية على الاستجابة لجميع مطالبهن تقريبًا.
وهنا تقول: “تم رفع أجورنا مما بين 600 و1000 يورو إلى ما بين 1300 و1900 يورو، وهذا يظهر أن هناك ما يكفي من الأموال ونحن الفقراء في فرنسا يمكننا كسب المزيد”، وأضافت “برنامج Nupes تم وضعه من أجل أناس مثلنا” ومن ثم تسعى إلى رفع الحد الأدنى للأجر من 1300 إلى 1500 يورو صافي شهريًا، وخفض سن التقاعد من 62 عامًا إلى 60 عامًا.
وفي مسار الاستعدادات للمعركة الانتخابية، نجح ميلنشون في توحيد أكبر أحزاب اليسار تحت راية ائتلافه الذي يضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين، ويتبنى عددًا من الشعارات الرئيسية أبرزها: حماية البيئة وحقوق المرأة والمهاجرين وتأميم البنوك وشركات الطاقة وتأمين فرصة عمل لكل مواطن، هذا بجانب الضغط من أجل التفاوض بشأن بعض قواعد الاتحاد الأوروبي بما يدعم مصالح فرنسا ويحفظ لها ثقلها التاريخي.
وعلى الجانب الآخر، هناك ائتلاف اليمين المتطرف بزعامة لوبان، الذي يعد منافسًا قويًا لكن ليس بمستوى قوة اليسار، في ضوء نتائج استطلاعات الرأي الأولية التي جرت مؤخرًا، لكن على كل حال يبقى اليمين المتطرف لاعبًا رئيسيًا في المشهد بصفته وصيف الانتخابات الرئاسية وله حضور فعّال في الشارع الفرنسي حتى إن تراجع مؤخرًا.
تدخل حكومة بورن وهي مكبلة بالعديد من التحديات والعقبات إثر عدد من القضايا الجدلية التي أثيرت مؤخرًا ومن المتوقع أن يكون لها ارتداداتها العكسية على حظوظ مرشحيها في الانتخابات
شعبوية ماكرون
يبدو أن الخطاب الشعبوي الذي تبناه ماكرون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وجاء بنتائج إيجابية مستمر معه في معركته البرلمانية الحاليّة، ففي كلمة ألقاها جنوب غرب البلاد الخميس 9 يونيو/حزيران 2022 خاطب الحضور قائلًا: “لا شيء سيكون أخطر من أن نضيف إلى الاضطراب العالمي اضطرابًا فرنسيًا يقترحه المتشددون”، فيما وضع لوبان وميلانشون على رأس المتشديين المستهدفين.
يحاول ماكرون الاستفادة من المستجدات الإقليمية والدولية الحاليّة التي تميل إلى تبني خطاب أكثر اعتدالًا ومرونةً مما كان عليه الوضع في 2015 حين كان اليمين المتطرف في أوج قمته، وعليه بدأ في شيطنة هذا التيار أحيانًا والتحالف معه أحايين أخرى، وببرغماتية مطلقة نجح في توظيفه لحساب أجندته السياسية.
وكما وظف الرئيس هذا الخطاب في أبريل/نيسان الماضي يوظفه اليوم في جولتي 12 و19 يونيو/حزيران، مستفيدًا بشكل كبير من غياب الرؤية التنفيذية لليسار الذي اكتفى بالتنظير دون تقديم البديل، ما أثر على شعبيته خاصة بعدما استقر في يقين شريحة كبيرة من المحافظين أن ميلانشون يتحدث أكثر مما يعمل.
مأزق الحكومة
تشكل الانتخابات الحاليّة الحلقة الأقوى في تحديد هوية الحكومة الجديدة التي تشكلت منتصف مايو/أيار ومدى استمراريتها، إذ إن رئيسة الوزراء إليزابيت بورن وبعض أعضاء الحكومة مرشحون في الانتخابات، وعليه فإن هزيمتها في دائرتها الانتخابية في نورماندي (غرب) سيكون لها تبعات كثيرة أبرزها إجراء تعديل وزاري كبير.
وتدخل حكومة بورن وهي مكبلة بالعديد من التحديات والعقبات إثر عدد من القضايا الجدلية التي أثيرت مؤخرًا ومن المتوقع أن يكون لها ارتداداتها العكسية على حظوظ مرشحيها في الانتخابات، على رأسها اتهام وزير التضامن داميان أباد بالاغتصاب، فضلًا عن ارتفاع معدلات التضخم إلى 5% على أساس سنوي في أبريل/نيسان الماضي، وهو ما لم يتقبله الفرنسيون.
تبقى الساعات القليلة القادمة وما يتبعها في 19 من الشهر الحاليّ الفرشاة الحقيقية التي ترسم ملامح الفترة القادمة في ولاية ماكرون الجديدة، إما أغلبية تسمح له بتمرير مشروعاته وقراراته وفق خطته الإصلاحية الجديدة وإما صدام مبكر
ثم جاءت فضيحة التأمين الداخلي على هامش الأحداث التي جرت في نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم بين ناديي ريال مدريد الإسباني وليفربول الإنجليزي في 28 مايو/أيار الماضي، حين اندلعت أعمال شغب أسفرت عن تأجيل المباراة لبعض الوقت، في ظل فشل واضح من قوات الأمن في السيطرة على الموقف، ما دفع المعارضة لاستغلال تلك الأحداث في المطالبة بإقالة وزير الداخلية جيرالد دارمانان.
ورغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى تقارب ائتلاف “معًا” بقيادة ماكرون والتحالف الانتخابي اليساري بقيادة ميلانشون، فيما حل ائتلاف لوبان ثالثًا متفوقًا على اليمين التقليدي الذي فقد موقعه كأول قوة معارض، فإن المعركة من المتوقع أن تكون خارج دوائر كل التوقعات، في ضوء توقعات تراجع الإقبال الجماهيري وهو ما يجعل كل الاحتمالات قائمة.
وتبقى الساعات القليلة القادمة وما يتبعها في 19 من الشهر الحاليّ هي الفرشاة الحقيقية التي ترسم ملامح الفترة القادمة في ولاية ماكرون الجديدة، إما أغلبية تسمح له بتمرير مشروعاته وقراراته وفق خطته الإصلاحية الجديدة وإما صدام مبكر ومستمر بينه وبين البرلمان والحكومة بما يحول السنوات الخمسة القادمة إلى سجال ونزاع لا يعود على الشارع الفرنسي بشيء.