لم يمضِ يومان على مطالبة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، نواب الكتلة الصدرية بتوقيع استقالاتهم من مجلس النواب، وجعلها تحت تصرُّفه مباشرةً، حتى أمرَ الصدر بتقديم هذه الاستقالات لرئيس مجلس النواب للموافقة عليها.
ورغم موافقة رئيس المجلس، محمد الحلبوسي، عليها، إلا أنها ما زالت استقالة صورية حتى تحظى بموافقة الأغلبية المطلقة لمجلس النواب في جلسة سيتمّ تحديدها لاحقًا، خصوصًا أن المجلس يمرُّ اليوم بعطلة تشريعية تنتهي في يوم 27 من الشهر الجاري، وممّا لا شكّ فيه أن الخطوة الصدرية الأخيرة ستنعكس سلبًا على المشهد السياسي العام، بل إنها أضعفت بصورة كبيرة أي فرصة لنجاح الحكومة المقبلة.
تفاحة مسموحة
يدرك الصدر تمامًا أن إمكانية الحسم لديه أكبر من الآخرين، وعلى هذا الأساس يحاول استخدام أوراقه السياسية بالإطار الذي يجعل خصومه في موقع الدفاع أكثر من الهجوم، فهو يعرف جيدًا ألّا حكومة قادرة على النجاح إذا لم يشترك فيها.
كما أنه بخطوته الأخيرة قدّم ما يشبه “التفاحة المسمومة” لقوى الإطار التنسيقي، فهو من جهة أعطاهم فرصة لتشكيل الحكومة التي يريدونها، ومن جهة أخرى جعلهم في مواجهة مع الشارع الذي مارسَ التصويت العقابي ضدّهم في الانتخابات الأخيرة.
إذًا هو يعرف جيدًا أنَّ أي حكومة ستشكّلها قوى الإطار سيكون مصيرها الفشل، أملًا أن يؤسِّس ذلك الذهاب نحو انتخابات مبكّرة، فخيار النزول إلى الشارع بدأ يستهوي التيار الصدري بشكل كبير، بعد تعثُّر جهود تشكيل الحكومة.
ويتوافق مع الرؤية الصدرية أنصار تشرين والناقمون على قوى الإطار، وهو ما يعني أن تلويح الصدر بالمعارضة الشاملة كما جاء في بيانه الأخير، يشير بما لا يقبل الشكّ أن هناك تحرّكًا صدريًّا مدروسًا لممارسة المزيد من الضغط على قوى الإطار وجمهوره.
وفي السياق ذاته، يحاول الصدر عبر الحركة الأخيرة أن يرسل رسالة لقوى الإطار، بأنه أصبح اليوم محور السياسة الشيعية في العراق، وعلى قوى الإطار الإقرار بذلك، فهو الوحيد الذي يملك أوراقًا رابحة سواء بخيار تشكيل الحكومة أو المعارضة أو حتى الاستقالة.
ولم تأتِ هذه المرونة السياسية بسبب النجاح السياسي للتيار الصدري، وإنما بسبب تراكُم الفشل السياسي والنقمة الشعبية ضد قوى الإطار، الذي يحمّله الشارع مسؤولية الفساد والفشل الحكومي والأزمة الاقتصادية.
خيارات الإطار التنسيقي
ممّا لا شكّ فيه أن قوى الإطار تدرس بخشية قرار الصدر الأخير، وهذه الخشية تعكسها سلوكيات سابقة للتيار الصدري عندما نزل إلى الشارع واقتحم المنطقة الخضراء في فبراير/ شباط 2016، ومن ثم تبدو قوى الإطار متوجّسة من هذه الخطوة، ما يجعلها أمام 3 خيارات مهمة: إما الذهاب نحو تشكيل الحكومة ومواجهة الصدر والشارع، وإما تقديم تنازلات للصدر والقبول بخيار الأغلبية، وإما الطعن بقرار الاستقالة أمام المحكمة الاتحادية من أجل إبقاء الأوضاع مشلولة سياسيًّا.
ورغم المحاذير السياسية التي تقف وراء كل خيار، فإن الصدر وحده من سيحدد أي خيار قد يلجأ إليه الإطار التنسيقي، حسب طبيعة الموقف الصدري في المرحلة المقبلة.
تواجه قوى الإطار موقفًا سياسيًّا صعبًا للغاية، رغم أنها تبدو مهيّأة اليوم لملء الفراغ السياسي الذي خلّفته الاستقالة الصدرية، فهناك تعقيدات كثيرة قد تواجه قوى الإطار، لا تتعلق فقط بالتوافق مع الصدر، وإنما بكيفية إقناع الكتلة السنّية والكردية بالانقلاب على التفاهمات السابقة مع التيار الصدري.
فإقليم كردستان يواجه مشكلة كبيرة مع قوى الإطار، وتحديدًا المسلحة، حيث اتّهم أحد أطرافها بقصف أربيل قبل أيام، وكذلك الكتلة السنّية التي تحمّل بعض قوى الإطار مسؤولية المآسي التي لحقت بالمدن السنّية، خصوصًا أننا نحيي اليوم الذكرى التاسعة لسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم “داعش”.
إن الاحتقان السياسي الذي يمرُّ به العراق سيجعله مقبلًا على أيام صعبة، وذلك لتشعُّب ملفات الخلاف بين الصدر وقوى الإطار، إذ لا يتعلق الأمر حول كيفية تشكيل الحكومة وحقوق المكوّن الأكبر، وإنما تتعدّاه لتتناول مستقبل هيئة الحشد الشعبي.
حيث قبل أن يعلنَ الصدر قراره بتقديم استقالات الكتلة الصدرية لرئيس مجلس النواب بساعات، قدّم مبادرة سياسية تتضمّن إعادة هيكلة هيئة الحشد الشعبي، وبالشكل الذي ينهي أي ارتباط بينها وبين ما يُعرَف بـ”فصائل محور المقاومة”، وجعلها مرتبطة مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة، ما جعل هذه المبادرة تُواجَه برفض كبير من قبل قادة الفصائل المسلحة.
إذًا كيف ستبدو الأمور؟
رغم تعدُّد السيناريوهات السياسية التي سيؤول إليها المشهد السياسي في العراق بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، والتي تترواح ما بين الصدام المسلّح والفوضى السياسية والانتخابات المبكرة، فإن خيار تراجُع الصدر عن خطوته ما زال مطروحًا.
فالاستقالات ليست نهائية، كما أن الدور السياسي الذي بدأت تمارسه المحكمة الاتحادية في الفترة الماضية يمكن أن يجد طريقه للتعاطي مع هذا التحول الأخير في إعادة الحديث عن دستورية قرار الاستقالة، خشية أن تؤول الأمور نحو الانهيار السياسي.
إذ تبدو مآلات المشهد السياسي في العراق مفتوحة ومتعددة ومعقّدة، فالخطوة الصدرية الأخيرة توحي بما لا يقبل الشك أن العراق مقبل على توازنات جديدة ستقوم عليها العملية السياسية، محورها الصدر وليس القوى الشيعية التقليدية.
وقد تكون الانتخابات المبكّرة الأخيرة هي آخر انتخابات تجري في ظل النظام السياسي الحالي، خصوصًا أن هذا النظام لم يعد قادرًا على إنتاج حلول سياسية تعيد ترميمه من الداخل، كما أن القوى التي أنشأته لم تعد قادرة على الانسجام معه، ما يعطي انطباعًا كبيرًا من عدم اليقين الذي ينتظر النظام السياسي الحالي في المرحلة المقبلة.