في مواجهة انعدام الأمن الغذائي العالمي المتزايد، الذي تضاعفَ المتأثّرون به في السنوات الأخيرة جراء جائحة فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والانكماش الاقتصادي، يحاول المجتمع الدولي مضاعفة جهوده لمكافحة الجوع وسوء التغذية، وعلى الرغم من النتائج ما زالت متواضعة، إلا أن هناك العديد من الأمثلة للبلدان النامية التي نجحت في تحويل قطاعاتها الزراعية إلى مصادر مهمة للنمو.
ويقدِّر عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، أي الذين لا يحصلون على 2100 سعرة حرارية يومية حدّدتها منظمة الأغذية والزراعة، عام 2021 بنحو 1.2 مليار، بزيادة قدرها 32% عن تقديرات عام 2020.
هذه الأرقام العالمية الكئيبة تخفي حقيقة أن عدد الجياع آخذ في الانخفاض، فمن بين البلدان الـ 79 التي تراقب منظمة الأغذية والزراعة حالة أمنها الغذائي بانتظام، أظهرت دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة أن 31 دولة حققت انخفاضًا في عدد من يعانون من نقص التغذية خلال فترة الـ 15 عامًا (1991-2005)، مع توقعات بانخفاض عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي إلى 642.4 مليون عام 2031.
على الطريق الصحيح
إلى جانب المخاوف المتعلقة بالأمن الغذائي المحلي، فإن العديد من البلدان ذات الإمكانات الزراعية الجيدة تحوِّل انتباهها إلى الخارج، وتشجّع الاستثمار في إنتاج السلع والمنتجات الزراعية المصنَّعة التي يتزايد الطلب عليها في الأسواق الإقليمية والعالمية، وتمثل بعض الدول -مثل الجزائر ومالاوي وتركيا- نماذج للبلدان التي بدأت في تحويل قطاعاتها الزراعية بهذه الطريقة.
أصبحت الزراعة مساهمًا هامًّا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للجزائر، حيث تساهم بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، في المرتبة الثانية بعد الهيدروكربونات
في حالة الجزائر، نلاحظ أن الناتج الزراعي الإجمالي في تطور ملحوظ من سنة إلى أخرى، فبعدما كان يبلغ 6.5 ملايين دولار عام 2003 أصبح يبلغ 16.1 مليون دولار عام 2012 بزيادة تقدَّر بـ 244%، وانخفض بشكل متواضع فقط في فترة 2006-2009، كما تسبّب الركود العالمي في حدوث مشكلات، إلا أن السياسات السليمة سمحت للجزائر بمقاومة الصدمات الشديدة من أسواق العالم، وهذا يعكس جهود الحكومة لتعزيز الزراعة كركيزة للتنمية المستقبلية للاقتصاد.
عززت الجزائر -ضمن برنامج دعم الإنعاش الاقتصادي- إنتاج الحبوب بشكل كبير، وأصبحت الزراعة مساهمًا هامًّا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للجزائر، حيث تساهم بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، أي في المرتبة الثانية بعد الهيدروكربونات.
يعمل في هذا القطاع 25% من السكان، بمعدل نمو يبلغ 4.8% سنويًّا منذ عام 2000، وتتمتّع الجزائر بواحد من أسرع القطاعات الزراعية نموًّا في العالم، وقد حدث معظم هذا النمو في قطاع الحبوب الفرعي، الذي نما بمعدل يزيد عن 12% سنويًّا.
تحقّقَ الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالفواكه والخضروات واللحوم بينما يتوسّع إنتاج الحبوب والألبان وصيد الأسماك بشكل سريع، كما تنتقل الجزائر بشكل تدريجي من مستورد صافٍ للمنتجات الزراعية إلى اقتصاد تصدير، وينصبّ التركيز على تلك المنتجات التي تتمتّع بميزة نسبية، مثل التمر وزيت الزيتون وبعض المنتجات البستانية.
كما أظهرت نتائج إحدى الدراسات حول “قياس أثر النمو الزراعي على النمو الاقتصادي بالجزائر خلال فترة 1990-2019” وجود أثر ايجابي لإنتاجية العامل في القطاع الزراعي، ونمو القيمة المضافة في قطاع الزراعة على معدل النمو الاقتصادي على المدى الطويل، وهذا ما يتوافق مع التحليل النظري والدراسات السابقة التي أثبتت أن هناك علاقة وطيدة بين الإنتاجية الزراعية والنمو الزراعي والنمو الاقتصادي في الاقتصاديات التي تعرفُ تحولات هيكلية.
مقارنة بالجزائر، كان نمو قطاع الزراعة في تركيا ككلّ أبطأ، لكن القيمة الحقيقية لصادراتها الزراعية زادت بشكل ملحوظ، بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي حررت الأسواق وعزّزت التجارة، وقادت إلى بناء قطاع زراعي مزدهر من خلال مجموعة من تدابير السياسة الداعمة واستثمارات القطاع العام الانتقائية.
من خلال برنامج دعم التنمية الريفية، تلقّى أكثر من 1600 مشروع تعاوني للمزارعين الدعم، استفاد منها 175 ألف أسرة، مع إعطاء الأولوية للمرأة، وتقديم أكثر من 150 مليون دولار أمريكي لهذه المشاريع، في حين خُصِّصت منحة أخرى بقيمة 75 مليون دولار أمريكي لشراء معدّات وآلات جديدة.
منذ عام 2002 كان التقدم الاقتصادي في تركيا مثيرًا للإعجاب، حيث بلغ معدل نمو إجمالي الناتج المحلي 6.8% حتى عام 2008، وبلغ معدل النمو ذروته عند 9% في عام 2014، وصولاً إلى ثالث أسرع دول العالم نموًّا في الربع الأخير من عام 2020.
وكان قطاع الصادرات الزراعية إحدى ركائز التنمية في تركيا، حيث ساهمت القيمة المضافة للزراعة بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي طوال الفترة، مع نمو قيمة الصادرات الزراعية بمتوسط 4.7% سنويًّا بين 1999-2001 و2005-2007، حتى في خضمّ التحديات الناجمة عن الركود العالمي نما القطاع الزراعي بنسبة 4.3% في الأشهر الستة الأولى من عام 2009، و6.7% في النصف الثاني.
ومع تعهّدها بمواصلة دعم التنمية الريفية، تعتزم تركيا تطوير قطاع زراعي قوي وتنافسي يمكنه الاستفادة من الأسواق الإقليمية للمنتجات المتخصصة عالية القيمة مع تلبية جزء كبير من الطلب المحلي، وتعمل على أن تصبح “سلة فواكه لأوروبا”، حيث تصدّر الفواكه والمكسّرات إلى جيرانها الغربيين في كل من الأشكال الطازجة والمعالَجة، حيث تزداد قيمة الصادرات الزراعية للبلاد بنسبة 5% تقريبًا سنويًّا، مع وجود أكثر من 1000 منتج زراعي في القائمة.
سلكت دول أخرى مسارها نحو تحقيق الأمن الغذائي من خلال الوصول إلى أكثر الفئات ضعفًا في المجتمع والاستثمار في المناطق الريفية الفقيرة، ففي أرمينيا سمح الجمع بين دعم الأنشطة الإنتاجية لسكان الريف، وتوفير الضمان الاجتماعي ومزايا الرعاية الصحية للأسر التي تعيش تحت خط الفقر والأمهات اللائي يلدن، بالوصول إلى أهداف مؤتمر القمة العالمي للأغذية قبل الموعد النهائي لعام 2015 بوقت طويل.
وفي البرازيل، بدأ الرئيس لولا دي سيلفا عام 2003 تقديم استراتيجية القضاء على الجوع التي اتّبعَت، كما في أرمينيا، نهجًا مزدوج المسار، حيث جمعت التحويلات النقدية لزيادة القوة الشرائية للفقراء مع الاستثمارات في الزراعة الأسرية، لمواجهة الزيادات الناتجة في الطلب على الغذاء وزيادة دخل المزارعين أنفسهم، وأعقبَ ذلك انخفاض سريع في انتشار نقص وسوء التغذية.
وفي أفريقيا تنتهج نيجيريا سياسة الاستثمار في صغار المزارعين باعتبارها جوهر استراتيجيتها للأمن الغذائي، فقد شجّع البرنامج الوطني الخاص للأمن الغذائي التقنيات التي مكّنت صغار المزارعين من زيادة الإنتاجية والدخل بشكل كبير من خلال إدخال المحاصيل المزدوجة والثلاثية، كما ساعدَ في تنمية المجتمعات الريفية من خلال تعزيز الوصول إلى خدمات الإرشاد والائتمان والتسويق والتغذية والتثقيف الصحي.
تسعى نيجيريا إلى دعم العديد من صغار المزارعين الذين يشكّلون الجزء الأكبر من القوة العاملة الزراعية في البلاد
وفي جنوب شرقي آسيا، اقترنت فيتنام بسياسات السوق المفتوحة وباستثمارات كبيرة في نظام الضمان الاجتماعي على الصعيد الوطني، الذي ينفّذ عددًا من البرامج المستهدفة ذات الفائدة المباشرة للفقراء والضعفاء، لا سيما في المناطق النائية والجبلية من البلاد، وقد حققت هي الأخرى هدفها الأول من الأهداف الإنمائية للألفية، وحققت بالفعل انخفاضًا بنسبة 40% في عدد من يعانون من نقص التغذية.
حققت بنغلاديش أيضًا تقدُّمًا يستحق الثناء في الحبوب الغذائية المحلية، وخاصة إنتاج الأرزّ بسبب الانتشار السريع لتكنولوجيا الأصناف عالية الغلة من المحاصيل الزراعية، ومع ذلك في حين تشهد البلاد تقدمًا مطّردًا في توافر الغذاء، إلا أنها تواجه عددًا من التحديات المستمرة والناشئة، حيث يهدد النمو السكاني، وتقلُّص قاعدة الموارد (مثل الأرض والمياه)، وتدهور جودتها وإنتاجيتها، النمو الزراعي المستقبلي والأمن الغذائي.
نماذج ناجحة في مواجهة تحدّي الأمن الغذائي
تتلخّص رؤية منظمة الأغذية والزراعة لعالم بلا جوع في ضرورة وصول عمليات التنمية إلى الأشخاص المهمّشين، والذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، على نطاق واسع في الأماكن التي يعيشون فيها، وهو ما يجعل دعم المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة من أفضل الطرق لمحاربة الجوع والفقر.
تشير التقديرات إلى أن 570 مليون مزرعة في جميع أنحاء العالم تبلغ مساحتها أقل من 2 هكتار، تشغل حوالي 12%، في حين تمثّل المزارع العائلية حوالي 75% من الأراضي الزراعية في العالم، ويمثّل صغار المزارعين وأسرهم حوالي مليارَي شخص، أو ثلث سكان العالم، وهم محوريون في أي حلّ لمشاكل الجوع والفقر طويلة الأجل.
تمثل سيراليون نموذجًا آخر في مواجهة انعدام الأمن الغذائي، فقد تعهّد الرئيس السابق أحمد تيجان كباح بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 2002 بالقضاء على الجوع في غضون 5 سنوات
تعدّ إندونيسيا مثالًا ناجحًا للبلدان التي طوّرت مناهج مبتكرة لتمكين أصحاب الحيازات الصغيرة الذين يشكّلون العمود الفقري لقطاع الزراعة، بعد أن واجه العديد من المزارعين العقبات، بما في ذلك الافتقار إلى الوصول إلى رأس المال والتقنيات المتقدمة التي يمكن أن تجعل العمليات أكثر قابلية للاستمرار من الناحية المالية.
تطلّبَ تعلُّم كيفية مساعدة المزارعين الفقراء على تطوير خطط العمل الخاصة بهم وتكلفتها في إندونيسيا، تغييرًا في طريقة تفكير عمّال الإرشاد الزراعي، لكن هذا التغيير آتى أُكله، حيث أُضيف الطابع المؤسسي إلى هذا النهج من خلال عنصر المرونة الغذائية للقرية في سياسة الأمن الغذائي العامة للبلد.
بحسب منظمة الأغذية والزراعة، بدأ برنامج مرونة الغذاء على الصعيد الوطني في 250 قرية عام 2006، ومع مرور الوقت أصبح هناك 1174 قرية في 275 مقاطعة تشارك في مرونة الغذاء في القرية، مع التخطيط لمزيد من التوسُّع.
كانت تجربة المكسيك مماثلة لتجربة إندونيسيا، فمشروعها الاستراتيجي للأمن الغذائي يهدف إلى تحسين الأمن الغذائي، والمساهمة في الحد من الفقر بطريقة مستدامة في المناطق الريفية الأكثر تهميشًا.
لطالما كان الوصول إلى فقراء الريف في المناطق النائية تحديًا للمكسيك، لكن من خلال وكالات التنمية الريفية اللامركزية، تمكّنت الحكومة من وضع فِرَق من الخبراء التقنيين في خدمة المجتمعات المحلية، الذين يحدّدون مبادرات التنمية الريفية الخاصة بهم، لتعزيز وتطوير قدرات الأفراد والمجتمعات الريفية.
بدأت وكالات التنمية الريفية مرحلتها التجريبية عام 2002، ووسّعت النهج إلى المستوى الوطني عام 2005، حتى وصل عدد الوكالات العاملة إلى 135 وكالة ريفية في 18 ولاية و655 مقاطعة، وشاركت أكثر من 100 ألف أسرة فقيرة بشكل مباشر في مشاريع مجتمعية، مع التركيز على تحسين الظروف المعيشية وتوسيع الخيارات الإنتاجية.
وكانت النتائج التي تمَّ الحصول عليها: زيادة توافر الغذاء والحصول عليه في المناطق شديدة التهميش والفقيرة، وإظهار القدرة على تطوير الإمكانات المحلية لمعالجة المشاكل المتعلقة بانعدام الأمن الغذائي، وتوحيد مجموعة من الخدمات المهنية لتقديم المساعدة الفنية في المناطق التي لا تتوافر فيها هذه الخدمات.
في أفريقيا، تمثّل سيراليون نموذجًا آخر في مواجهة انعدام الأمن الغذائي، فقد تعهّد الرئيس السابق أحمد تيجان كباح بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 2002 بالقضاء على الجوع في غضون 5 سنوات، ولهذه الغاية طوّرت الحكومة برنامج الإرشاد وبناء القدرات على مستوى المجتمع المحلي، بدعم من منظمة الأغذية والزراعة.
طوّرت حكومة سيراليون برنامج الإرشاد وبناء القدرات على مستوى المجتمع المحلي
يسير الحد من خسائر ما بعد الحصاد وتحسين قدرة المزارعين على تسويق الأرزّ والخضروات جنبًا إلى جنب مع الجهود المبذولة لزيادة إنتاجية أصحاب الحيازات الصغيرة، حيث أُنشئت مراكز الأعمال الزراعية على نطاق وطني لمساعدة صغار المزارعين على تحقيق النجاح التجاري وضمان الإمدادات الغذائية للمدن.
قدّم هذا البرنامج المدارس الميدانية للمزارعين كأداة أساسية لتحسين الأمن الغذائي الريفي وسبل العيش في إطار استراتيجية الإنعاش الوطنية، ونُفِّذ برنامج التعاون الاقتصادي والاجتماعي على عدة مراحل بين عامَي 2003 و2007 بتمويل من مصادر مختلفة، وبحلول نهاية المرحلة الثالثة كان التدريب متوفرًا لأكثر من 200 ألف أسرة من أصحاب الحيازات الصغيرة.
استجابةً لأزمة الغذاء والوقود لعام 2008، صاغت الحكومة برنامج الاستجابة الزراعية الوطنية لتشجيع تسويق الزراعة واستثمارات القطاع الخاص، وتتمثّل أهدافه الأخرى في زيادة زراعة الأرزّ ومحاصيل الموسم الجافة، وتسهيل الروابط مع الأسواق التي من شأنها تعزيز الإمدادات الغذائية في المدن، وتوفير شبكات أمان قصيرة الأجل.
مستقبل الزراعة.. إلى أين؟
يشهد عالمنا تغيرًا مناخيًّا تسبّب في موجة من الإخفاقات الكارثية، في ظل هذه الظروف يتعيّن على النباتات والماشية أن تتعامل مع مجموعة من الظروف البيئية الجديدة التي تفوق بكثير معدل تكيُّفها الطبيعي، ما دفع الكثير من العلماء والباحثين إلى استكشاف تقنيات مبتكرة للتخفيف من آثار تغير المناخ في مجال الزراعة، باعتبارها المصدر الأول للغذاء في العالم.
لمواجهة التفشي الوشيك للأمراض، يعمل العلماء على إكساب الماشية والمحاصيل الغذائية قدرةً أكبر على مقاومة الأمراض دون استخدام المبيدات الحشرية، والتكيُّف مع الظروف المناخية المختلفة
تشمل التكنولوجيات الحيوية الزراعية طائفة واسعة من التقنيات المطبّقة في مجال المحاصيل، والثروة الحيوانية والحراجة، ومصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية، والصناعات الزراعية، وهي تشمل نهجًا منخفض المستوى التكنولوجي، كالتلقيح الصناعي وتقنيات التخمير والأسمدة البيولوجية، فضلًا عن نهج عالي التكنولوجيا ينطوي على منهجيات متقدمة تستند إلى الحمض النووي والتعديل الوراثي.
وتُستخدَم التكنولوجيات الحيوية الزراعية لأغراض مختلفة، كالتحسين الوراثي للنباتات والحيوانات لزيادة إنتاجيتها أو كفاءتها، وتحديد خصائص الموارد الوراثية للأغذية والزراعة، وتشخيص الأمراض النباتية والحيوانية، وتطوير اللقاحات وإنتاج الأغذية المخمّرة.
ويُتوقع أن تصبح معظم الأمراض التي تصيب النباتات والحيوانات أكثر شيوعًا مع تغير المناخ، ولمواجهة التفشّي الوشيك للأمراض يعمل العلماء على إكساب الماشية والمحاصيل الغذائية قدرةً أكبر على مقاومة الأمراض دون استخدام المبيدات الحشرية، والتكيُّف مع الظروف المناخية المختلفة.
وبحلول عام 2050 من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم إلى ما يقارب الـ 10 مليارات نسمة، أي سنكون بحاجة إطعام مليارَي فم آخر، ما يفرض تحديات هائلة على كيفية تدبير الغذاء اللازم لإطعام البشرية، حيث يخلق الطلب المتزايد باستمرار على الغذاء الحاجة إلى نهج أكثر كفاءة وأفضل لتحسين المحاصيل من أجل زيادة غلة المحاصيل.
هنا يأتي دور تقنية تحرير الجينات المعروفة باسم “كريسبر” (CRISPR)، أكثر التقنيات الواعدة لتلبية هذه الحاجة، مقارنةً بالطرق التقليدية التي اُستخدمت في الماضي لزيادة الغلة، فقد أدّى عدد من التغييرات الجينية إلى إنتاج محاصيل أكثر قوة مع غلال أكثر.
على سبيل المثال، أنتج تحرير جينوم الأرزّ محصولًا تزيد إنتاجيته على إنتاجية الأرزّ التقليدي بنسبة 50% أو أكثر، كذلك اُستخدم “كريسبر” لزيادة حجم الطماطم، بينما ساهمت أدوات تحرير الجينات الأخرى في زيادة كتلة العضلات في الماشية.
وفي ولاية كانساس، أمضى فريق من العلماء عقودًا للوصول إلى ما يأملون أن يكون “حبة المستقبل”، ونجحوا في تحويل سلالة قمح إلى الصفات الخارقة فى الإنتاجية والمجموع الخضري، والمعروف عمومًا باسم Kernza (عشب القمح المتوسط)، ويقولون إنها تنتج غلة أكثر، ويمكن أن تحتوي على بذور لكل ساق أكثر من القمح العادي.
كما أنها محصول معمِّر، أي أنه ينمو كل عام دون الحاجة إلى الحراثة وإعادة الزراعة، يساعد ذلك في الحفاظ على الكربون في الأرض ويقلِّل من الحاجة إلى مبيدات الأعشاب الكيميائية، ولأن جذورها تبقى في التربة فإن المحاصيل المعمِّرة تشكّل دفاعًا قويًّا ضد تآكُل التربة.
تحرير الجينات أكثر التقنيات الواعدة لتلبية الحاجة إلى نهج أكثر كفاءة وأفضل لتحسين المحاصيل
ومع زيادة عدد السكان بشكل مطّرد، لا يزال هناك بعض العوامل التي تشكّل تحديًا أمام تحقيق هدف توفير الغذاء اللازم لإطعام سكان الكوكب، منها الأوقات الطويلة التي يستغرقها نمو معظم المحاصيل الرئيسية، ما لا يسمح إلا بزراعة محصول واحد أو اثنين فقط طوال العام، ما يجعل مهمة القضاء على الجوع قد تبدو مستحيلة.
لكن من خلال استخدام بعض التقنيات قد يبدو هذا الهدف قريبًا، فقد تمكّن باحثون في جامعة كوينزلاند بأستراليا من تطوير بروتوكولات لتقنيات يمكن استخدامها لتسريع نمو المحاصيل الزراعية، اعتمادًا على تجربة استخدمتها وكالة “ناسا” لأول مرة لزراعة بعض المحاصيل في الفضاء، وذلك من خلال زيادة عدد ساعات تعرُّض النباتات للضوء، وفي ظروف من درجات حرارة يمكن التحكُّم فيها، وساعدت هذه التقنية على زيادة إنتاج بعض المحاصيل -مثل القمح والشعير- بمقدار يقترب من الضعف.
وهناك تحدٍّ آخر يواجه الأمن الغذائي في المستقبل، ويتمثّل في مقاومة ملوحة التربة التي تعتبر إجهادًا غير حيوي خطير يعيق نمو النبات، ومن المتوقع أن يزداد الأمر سوءًا مع تغير المناخ، فقد أصبح التوسُّع في الأراضي الزراعية المالحة يمثل تهديدًا خطيرًا للأمن الغذائي العالمي، حيث دُمّرت حوالي 6% من الأراضي الزراعية بسبب ملوحة التربة، مع زيادة مطّردة من 1% إلى 2% كل عام في جميع أنحاء العالم، ما أدّى إلى خسائر كبيرة في الغلة لمحاصيل الحبوب الرئيسية مثل الذرة والأرزّ والقمح.
أيضًا، أثّرت ملوحة التربة العالية على زراعة محاصيل مختلفة، مثل الطماطم، لكن العلماء نجحوا الآن في استخدام الهندسة الجينية لتعزيز قدرة الطماطم على تحمُّل ملوحة التربة، وفي مثال آخر حذفَ علماء من جامعة هواتشونغ الزراعية ومركز شنغهاي للجينات الحيوية الزراعية جينًا في الأرزّ، لتحسين مقاومته لتركيزات الملوحة المرتفعة في التربة.
التحدي الأخير هو مكافحة الحشائش، فقد ثبتَ أن تغيُّر المناخ يغيّر أعدادَ وتوزيع الآفات الحشرية والأضرار التي تسبِّبها، ومن المحتمل أن تكون الأعشاب الضارّة هي العدو الأول للمزارعين، فهي تسبّب أضرارًا جسيمة للزراعة العالمية، ما يقلِّل بشكل كبير من غلات المزارعين ودخلهم.
تقدِّر جمعية علوم الأعشاب الأمريكية أن الحشائش يمكن أن تقلل من غلة المحاصيل بنسبة تصل إلى 50% في الذرة، و52% في فول الصويا، حيث في الهند على سبيل المثال تقلل الحشائش غلة المحاصيل الرئيسية بنسبة تصل إلى 30%، وبالتالي تقدَّر الخسائر الاقتصادية الفعلية الإجمالية بحوالي 11 مليار دولار أمريكي بسبب الحشائش وحدها في 10 محاصيل رئيسية في الهند.
ويعد تحرير الجينوم هو إجراء مضاد فعّال لهذه المشكلة، في أحد الأمثلة الرئيسية استخدمَ العلماء هذه التقنية لتطوير أليل (شكل بديل للجين) مقاوم لمبيدات الأعشاب في الأرزّ، بالإضافة إلى تقديم استراتيجية مرنة وبسيطة لمكافحة الحشائش للمزارعين، تسمح مقاومة مبيدات الأعشاب للمزارعين بممارسة الزراعة من دون حراثة أو الزراعة منخفضة الحراثة، ما يساعد على تقليل تآكُل التربة وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عن طريق تقليل استهلاك الوقود الأحفوري وتدهور التربة.