منذ عدوان 2014 يعيش مزارعو قطاع غزة “نكبة زراعية”، بفعل المبيدات الكيمياوية السامة التي تقذفها الطائرات الإسرائيلية من ارتفاعات منخفضة من الأراضي الزراعية الحدودية، ما يتسبّب في خسائر فادحة لهم بسبب إتلاف محاصيلهم الموسمية، عدا عن تلوث التربة التي تبقى غير صالحة للزراعة سنوات طويلة.
ومنذ تلك السنوات ويفيق المزارعون في المناطق الحدودية على روائح كريهة خلّفتها الطائرات الإسرائيلية بعد رشّها لعشرات الدونمات بالمبيدات الكيماوية، لتبرّر فعلتها بعد ذلك تحت ذريعة أمنية.
ولم تكتفِ “إسرائيل” بفرض منطقة عازلة على طول الحدود الشرقية داخل قطاع غزة المحاصر، وحظر الحركة فيها، بل تتعمّد استخدام المبيدات الكيماوية في الحقول الزراعية كما أوردت مؤسسة الحق.
ووفق تحقيق كشفته مؤسسة الحق، تبيّن أنه خلال عدوان غزة 2021 أشعلت “القذائف الإسرائيلية” 50 طنًّا من المواد الخطرة والمبيدات الحشرية، والبذور والأسمدة والمواد الكيميائية الأخرى، والنايلون والأغطية البلاستيكية والأنابيب البلاستيكية، في مستودع في بلدة بيت لاهيا شمال غزة.
وكما جاء في التحقيق، انتشرَت خلال الساعات التي أعقبت القصف رائحة كريهة على مساحة 5.7 كيلومترات مربعة (2.2 ميل مربع)، بما في ذلك المناطق الزراعية في بيت لاهيا ومخيم جباليا المزدحم للاجئين.
وبحسب خبير ديناميكيات الموائع (تخصُّص فرعي من ميكانيكا المواد المتصلة (السوائل والغازات))، فإن المواد الخطرة في الهواء تجاوزت مستويات التعرُّض المسموح بها، بالإضافة إلى أن العديد من الانبعاثات السامة لديها القدرة على تضخيم تأثيرات بعضها البعض.
وتجدر الإشارة إلى أن مساحة الأراضي الزراعية الحدودية لقطاع غزة تبلغ 86 ألف دونم، أي 25% من إجمالي المساحة الزراعية في القطاع، ويعمل بها أكثر من 30 ألف مزارع، وتشكّل مصدر الرزق الوحيد لمئات العوائل من سكان تلك المناطق.
كيف تقتل “إسرائيل” التربة؟
ولأن الاحتلال يمارس كل أشكال الضغط، وينتهك القوانين والتشريعات والأعراف الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان في مجالات حياة الفلسطيني كافة، ومنها القطاع الزراعي الذي يحاربه بشكل مباشر بالصواريخ والدبابات، لا بدَّ من الوقوف على معرفة مدى تأثير تلك المبيدات الكيماوية على المزروعات.
يقول أحمد حلس، الخبير البيئي، إن القطاع الزراعي أحد أهم القطاعات التي يحاربها الاحتلال بشكل مباشر، والمنطقة الحدودية العازلة منطقة اشتعال مستمرة سواء خلال العدوان، أو في الأوقات الموسمية التي يلجأ إليها للانتقام من المزارعين ومحاصيلهم بواسطة المبيدات السامة.
ويوضِّح حلس لـ”نون بوست” أن الاحتلال يتعمّد رشّ المناطق الحدودية بالمبيدات حين تكون الرياح عكسية، والنباتات الشتوية والصيفية في ذروة النمو، وتحديدًا في فترتَين كل عام، الأولى ديسمبر/ كانون الأول-يناير/ كانون الثاني والثانية مارس/ آذار-أبريل/ نيسان، لاستهداف أكبر قدر من المحاصيل الشتوية والصيفية بشكل أكبر.
كما لفتَ إلى تعمُّد الاحتلال رشّ محاصيله القريبة من المنطقة الحدودية العازلة حين تكون الرياح غربية، وبالتالي تكون تلك المواد غير مناسبة لمحاصيل المزارع الغزاوي، ما ينعكس سلبًا على صحّته ونباتاته، مشيرًا إلى أن الاحتلال بهذه الخطوة يكون دمّر وخرّب النباتات والتربة على حد سواء.
لا تزال معركة الصراع على سلب الفلسطيني أرضه مستمرة حتى في قطاع غزة المحاصر، لكن بأدوات مختلفة يستخدمها الاحتلال لاقتلاع أصحاب الأرض من موطنهم
ويوضِّح الخبير البيئي أنه حين تسقط المواد السامة على التربة وبعدها ينزل المطر، تتّجه كل المواد الكيماوية إلى خزّان المياه الجوفي الخاص بقطاع غزة المحاصر، ما ينعكس عليه بالضرر أيضًا.
وأشار حلس إلى أن الأراضي الحدودية التي يتمّ قصفها بالصواريخ، وتتضرر بحرقها من القنابل أو وزن الدبابات الذي يصل إلى 70 طنًّا، تعمل على ضغط التربة بشكل هائل يصل إلى 3 أمتار، ما يتسبّب في موت التربة.
ويفسِّر كيفية موت التربة بالقول: “عند الضغط على التربة بواسطة الدبابات تُقتل الكائنات الحية فيها، والتي تشمل البكتيريا والديدان، ما يؤدّي إلى تصحُّر التربة”، مضيفًا:” الدودة مطلوبة لتكسير المواد العضوية الكبيرة، بينما البكتيريا تحلِّل تلك المواد إلى كالسيوم وبوتاسيوم ونيتروجين وفسفور يلزم النبات لامتصاصه، دون تلك الكائنات الحية تصبح التربة صحراء رملية غير قابلة للزراعة، أي إنها تموت”.
ويؤكد حلس أن الأرض الزراعية بعد رشّها بالمواد الكيماوية السابقة تحتاج وقتًا لاستعادة نشاطها، لافتًا إلى أن بعض المبيدات يكون تأثيرها موضوعيًّا، لكن هناك مواد أخرى تبقى طويلًا في التربة، ما يحول دون نجاح زراعة المحاصيل فيها مجددًا.
وأشار إلى أن كل تلك الاعتداءات المتكررة على الأراضي الزراعية، أدّت إلى عزوف عدد كبير من المزارعين نتيجة خسائرهم الفادحة، حيث تدمير بيوت الزراعة الزجاجية وتحطيم الدفيئات وقلع وحرق أشجار بأعمار طويلة بشكل متعمّد، بهدف ترك مساحة واسعة مكشوفة لتحقيق أمن الاحتلال كما يدّعي.
أنواع المواد المستخدَمة في رشّ المزروعات وخطورتها
وفق دراسة سابقة أعدّها مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة عام 2019 حول المبيدات الإسرائيلية ومخاطرها، بعنوان “آثار رشّ قوات الاحتلال للمبيدات الكيميائية في المناطق مقيّدة الوصول”، جاء فيها أن الطائرات الإسرائيلية تحلّق على ارتفاعات منخفضة تبلغ 20 مترًا فوق سطح الأرض، وترشّ المبيدات التي يصل رذاذها إلى عمق 1200 متر داخل أراضي قطاع غزة المحاصر، ما يؤدّي إلى حرق المزروعات وتكبُّد المزارعين خسارة فادحة.
وذكرت الدراسة أنواع المواد المستخدمة في الرشّ، وهي غليفوسات -المصنَّفة ضمن المركبات المسرطِنة- وأوكسيجال ويوربكس، ويقدَّر مكوثها مدة 70-80 يومًا في التربة، ما يعني أن المادة تستغرق وقتًا طويلًا للتحلُّل، وهذا من شأنه أن يؤثر على جودة التربة فتضعف خصوبتها.
ونبّهت وقتئذ إلى الأضرار الأخرى التي تنعكس على الثروة الحيوانية التي يتواجد أكثر من 70% منها على الشريط الحدودي، إذ تُصبح حياة ونسل الأغنام والأجنة عرضةً للخطر، خصوصًا خلايا النحل التي يصيبها الضرر المباشر نظرًا إلى الرشّ المفاجئ.
كما تناولَ تقرير نُشر في صحيفة “هآرتس” العبرية في يوليو/ تموز 2018، استخدام “إسرائيل” لمبيدات ذات تأثيرات خطيرة في منطقة السياج المحيطة بقطاع غزة المحاصر لمنع النباتات من النمو، وإبقاء المنطقة فارغة كي يتسنّى لجنود الاحتلال مراقبتها جيدًا.
وكما الحال في الضفة الغربية والقدس حين تعمل “إسرائيل” على الاستيلاء على الأراضي الزراعية لإقامة البؤر الاستيطانية، لا تزال معركة الصراع على سلب الفلسطيني أرضه مستمرة حتى في قطاع غزة المحاصر، لكن بأدوات مختلفة يستخدمها الاحتلال لاقتلاع أصحاب الأرض من موطنهم، ومع ذلك إنهم صامدون في وجه التهويد والاستيطان وتدمير الأرض الزراعية.