يزعم البعض أن الثورة في تونس قد توفرت لها كل عوامل النجاح، وأنها – على خلاف باقي ثورات الربيع العربي – هي الوحيدة المرشحة للوصول وسط أمواج وأعاصير التغير إلى شاطئ أمان التقدم والحرية، فهل هذا صحيح؟
وأدلتهم على ذلك أن الثورة في تونس كانت سلمية قليلة الضحايا والشهداء، وهذا قلل من حالة الاحتقان المجتمعي بعدها، وأنها كانت قصيرة بلا تكلفة عالية، وأنها بدأت ونمت بشكل طبيعي (حكومة انتقالية، الدستور أولاً، إصلاحات تشريعية، انتخابات برلمانية بعد إقرار الدستور)، وأن الانقسام فيها على أساس سياسي فقط فلا أقليات دينية ولا عرقية، وتونس متجانسة تمامًا حتى من حيث المذهب المالكي!، وشعبها يتميز بوعي عالٍ وانتشار للتعليم، وجيشها لم يشتغل بالسياسة من قبل فلن يكون له رغبة في ذلك مستقبلاً، ونخبتها كانت على مستوى المسئولية نتيجة تقارب طويل فيما بينها في غربات النفي في فرنسا وأوروبا، وأنها سارت على طريق التوافق لا في طريق الغلبة، والتيار الإسلامي بها (حزب النهضة) اختار المشاركة لا المغالبة وتجنب كل قضايا الخلاف ولم يتبن قضايا الهوية!! وأنها لم تقص الفلول من العودة والمشاركة في الحكم مرة أخرى!
وبناء على هذه الأسباب وغيرها؛ فإنها في طريقها إلى النجاح بعد أن اكتملت مرحلتها الانتقالية بانتخابات برلمانية ثم رئاسية، حتى لو كان الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية هو الحزب الذى تحالف فيه فلول النظام السابق مع اليسار، وحتى ولو كان رئيس الجمهورية هو السبسي رئيس البرلمان وقت بن علي (أحمد فتحي سرور في مصر)، وحتى لو كان عمره 87 عامًا؟!
لكن الحقيقة أننا لا يمكن أن نحكم على النجاح – إذا استخدمنا نفس هذا المنطق – إلا إذا جرت انتخابات حرة ونزيهة بلا تزوير يخرج فيها (نداء تونس) وزعيمها من السلطة رغم أن الانتخابات في حكمهم … ولو حدث هذا فإن رهان حزب النهضة يكون قد نجح ، فقد راهنت الحركة من البداية على أنها لن تحكم منفردة، وأنها ستتحالف مع القوى الأخرى من أجل إرسال رساله تطمين لها، ومن أجل بناء كوادر لها من خلال الدخول في الحكم تدريجيًا، ومن خلال سياسة إدخال كل القوى السياسية معها في محرقة الحكم فتطولهم نارها، لأنها تعلم أن الأمور لو صارت كما يجب فإنها الوحيدة التى ستخرج من هذه المحرقة والباقي سوف يكون طريقه الاندثار والتفكك (وهو ما حدث مع أحزاب الترويكا التي شاركتها الحكم خلال المرحلة الانتقالية)، وهي الآن تعيد نفس الرهان على السبسي ونداء تونس، والفكرة ببساطة: من يصل إلى الحكم الآن فسوف يكتوي بالنار، فدع القوى الغير إسلامية تدخل معنا وتحترق من نفس النار، لكنها لن تصمد كما نصمد نحن، فنتخلص منها جميعًا، بعد أن نكون قد اكتسبنا الخبرة اللازمة للحكم، وتخلصنا من هذه القوى السياسية في نفس الوقت!
مشكلة هذا التصور أنه رهان خطير، فماذا تفعل حركة النهضة إذا أعاد السبسي – مدعومًا بالبرلمان – بناء النظام القديم مرة أخرى بنفس آلياته وروحه وأهدافه، ولكن هذه المرة مستخدمًا الوسائل الديموقراطية؟!
الرد: إننا قد كسبنا الوسيلة التي بها يمكن أن نغير ما يقوم به السبسي في الانتخابات التالية، كسبنا الانتخابات كأداة تغير، والديموقراطية كوسيلة للحكم.
لكن هذا يعني أيضًا أن تونس بذلك قد انتقلت من مربع (الثورة) حيث الرغبة في تغير نظام الحكم وآلياته وفلسفته ووسائله بآخر مختلف عنه، إلى مربع (التحول الديموقراطي) حيث تعمل على تحسين الحريات وأوضاع حقوق الإنسان، وتفعيل الانتخابات كأداة تغير دون أن يمس النظام العام للدولة بأي سوء ودون أي تغيير كبير في خياراته الاقتصادية والاجتماعية أو تقوية لهويته الحضارية العربية الإسلامية!
ولنأخذ مثال العلاقات الاقتصادية، وانحيازات النظام للفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء فرص متكافئة للجميع، والعمل على منع الهيمنة الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات على الحكم، وإعاده بناء مؤسسات الشرطة والجيش، وتفعيل الذات الحضارية للشعوب في مواجهه الهيمنة الغربية .. كل هذه أمور تهتم بها الثورة من أول يوم، وتشغل حيز أقل في التطور الديموقراطي!
خلاصة الكلام: تونس انتقلت من الرهان على الثورة حيث التغير السريع والحاسم في شكل نظام الدولة وتركيبه وروحه إلى الرهان على طريق طويل من التحول الديموقراطي، مراهنة بذلك على أن نداء تونس سوف يحترم قواعد الديموقراطية، وعلى أن أهداف الثورة يؤجل تحقيقها من 5 إلى 10 سنوات أفضل من ألا تُنفذ على الإطلاق!