تواصل قضية اللاجئين السوريين تصدّر نقاشات المجال العام في تركيا، ويزداد تفاعل هذه القضية مع اقتراب موعد الانتخابات عام 2023، إذ يحتل الملف السوري برامج أحزاب المعارضة والحكومة على السواء، وبين تصريحات المعارضة وتحريضها للشارع بخطاب كراهية وحدة قرارات الحكومة التي باتت متسارعة، يجد اللاجئ السوري نفسه أسيرًا لحالة من القلق وعدم الاستقرار في هذه البلاد التي فتحت ذراعيها ممدودتين له قبل سنوات.
قبل أيام أصدرت الحكومة التركية قرارات جديدة لما قالت إنه “ضبط الهجرة غير الشرعية في البلاد”، وكان للسوريين نصيب كبير من هذه القرارات، حيث قال وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إن بلاده “تسعى للسيطرة على تدفق المهاجرين”، كما أكّد أنهم عازمون على إغلاق 1200 حي تمامًا بوجه الأجانب، ولن يتمكّنوا من تسجيل نفوسهم بها اعتبارًا من 1 يوليو/ تموز المقبل.
بيّن صويلو أن السوريين القادمين حديثًا والراغبين في البقاء بتركيا سيُنقلون إلى مخيم في ولاية هاتاي الحدودية لدراسة وضعهم، وفي حديث مثير للجدل قال صويلو إن “القادمين من دمشق لن تُقبل طلبات لجوئهم أو إقاماتهم وستتم إعادتهم من حيث أتوا”، في لغة جديدة تتبنى فيما يبدو الأجندة الدانمركية حول تقسيم سوريا إلى مناطق آمنة وغير آمنة، حتى تلك الخاضعة لنظام الأسد.
وليست هذه المرة الأولى التي يصرّح فيها صويلو بشأن هؤلاء الناس، حيث قال سابقًا: “طبيعة الهجرة من سوريا إلى تركيا قد تغيرت، وجزء كبير من الذين يحاولون القدوم هم من المناطق المحيطة بدمشق”، وأشار إلى “أن السبب في ذلك هو الأزمة الاقتصادية، والقادمون إما يريدون البقاء في تركيا وإما الانتقال إلى أوروبا”.
وترى الحكومة الدنماركية أن دمشق والمنطقة المحيطة بها آمنتَين وأصبحتا بعيدة عن العنف، لإعادة بعض اللاجئين الذين لا يُسمح لهم البقاء في الدنمارك، ولكن منظمات دنماركية قالت إن اللاجئين يواجهون خطر العنف في حال عودتهم إلى تلك المناطق، ويُذكر أن من لا يريد العودة يمكنه البقاء في مراكز الترحيل التي تعدّ غير صالحة للسكن الآدمي بحسب شهادات مهاجرين.
يبدو أن تطبيق النموذج الدنماركي في تركيا بات قريبًا مع وجود بعض الاختلافات البسيطة، حيث تعمل تركيا على إعادة القادمين حديثًا من دمشق ومحيطها ولا تركّز على الذين مضى لهم وقت، عكس ما فعلته حكومة كوبنهاغن التي رأت منذ عام 2019 أن محيط دمشق بات آمنًا بعد سيطرة قوات النظام عليه كاملًا، وبدأت بإعادة طالبي اللجوء الذي مضى لهم سنوات على أراضيها.
إضافة إلى ما سبق، قال صويلو، إنه لو لم يُبنَ الجدار الحدودي لدخل إلى تركيا 8 ملايين مهاجرًا غير المتواجدين فيها، مشيرًا إلى أن هذا الجدار منع دخول 6 ملايين مهاجر سوري و2 مليون مهاجر إيراني إلى البلاد. وتأتي تصريحات الوزير التركي المتتالية في إطار الترويج لخطة العودة الطوعية للمناطق الآمنة التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتتضمن الخطة إعادة مليون سوري من تركيا إلى سوريا وفق ضمانات تشمل الأمان والسكن وفرص عمل في 13 منطقة سكنية تعمل عليها أنقرة في شمال سوريا.
سوريا غير آمنة
بعيدًا عمّا تراه الدنمارك وتركيا والدول الأخرى، فإن سوريا لا تزال غير آمنة، وهو ما أكّدته العديد من المنظمات الدولية الرصينة العاملة في مجال حقوق الإنسان بالإضافة إلى منظمات رسمية أممية، ولعلنا هنا نستعرض بعض مواقف هذه المنظمات خلال السنة الأخيرة.
الأمم المتحدة: في سبتمبر/ أيلول 2021 أصدرت لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا تقريرها الـ 24، وقال التقرير إن “تصاعُد القتال والعودة إلى العنف مدعاة للقلق”، مؤكدًا أن “البلاد غير صالحة لعودة اللاجئين الآمنة والكريمة”، وتشير اللجنة الأممية إلى أنه “مع دخول الرئيس الأسد فترة ولايته الرابعة يبدو أنه لا توجد تحركات لتوحيد البلاد أو السعي لتحقيق المصالحة”.
يشير التقرير أيضًا إلى أن “حوادث الاعتقال الانفرادي تتواصل بلا هوادة من قبل القوات الحكومية، وواصلت اللجنة توثيق ليس فقط التعذيب والعنف الجنسي أثناء الاحتجاز، ولكن أيضًا حالات الوفاة أثناء الاحتجاز والاختفاء القسري”، كما يبيّن التقرير أن الاقتصاد السوري شهدَ تدهورًا سريعًا، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الخبز وزيادة ملحوظة في انعدام الأمن الغذائي.
الاتحاد الأوروبي: أصدرَ الاتحاد الأوروبي منذ عام تقريرًا يتحدّث عن الأمور التضليلية التي تصدر عن سوريا، ومن الأمور التي فنّدها الاتحاد أن اللاجئين بوسعهم أن يعودوا إلى بلادهم لأنها أصبحت آمنة، ويقول البيان: “التضليل: سوريا آمنة من أجل عودة اللاجئين، أما الحقيقة: قلة قليلة من السوريين يجرؤون على العودة إلى بلدهم. تعرّض الكثير منهم عند عودتهم إلى الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والمعاملة السيّئة على يد قوات أمن النظام أو أُرغموا أحيانًا على التجنيد”.
منظمة العفو الدولية: أصدرت المنظمة تقريرًا قالت فيه إن “قوات الأمن التابعة للنظام السوري أخضعت مواطنين سوريين ممّن عادوا إلى وطنهم بعد طلبهم اللجوء في الخارج للاعتقال والإخفاء والتعذيب، بما في ذلك أعمال العنف الجنسي”.
ووثَّق التقرير مجموعة من الانتهاكات المروّعة التي ارتكبها ضباط المخابرات السورية بحقّ 66 من العائدين، من بينهم 13 طفلًا، وكان من بين هذه الانتهاكات، التي وثقتها منظمة العفو الدولية، 5 حالات لأشخاص لقُوا حتفهم في الحجز إثر عودتهم إلى سوريا، في حين لا يزال مصير 17 ممّن تمَّ إخفاؤهم قسرًا طيّ المجهول.
وقالت المنظمة: “في الوقت الذي تفرض فيه عدد من الدول، من بينها الدنمارك والسويد وتركيا، قيودًا على حماية اللاجئين القادمين من سوريا، وتمارس الضغوط عليهم لحملهم على العودة إلى وطنهم، تثبت الإفادات المروعة الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية أنه لا توجد في سوريا أي منطقة آمنة لعودة اللاجئين، وقال بعض العائدين إن ضباط المخابرات استهدفوهم بشكل صريح بسبب قرارهم بالفرار من سوريا، متّهمين إياهم بعدم الولاء أو الإرهاب”.
وخلصت المنظمة إلى أنه “لا مأمن للاجئين العائدين في أي مكان في سوريا، وفضلًا عن ذلك ثمة خطر حقيقي في أن يتعرض اللاجئون الذين رحلوا عن سوريا منذ بدء الصراع للاضطهاد لدى عودتهم بسبب ما تنسبه السلطات إليهم من الآراء السياسية، أو بهدف معاقبتهم على فرارهم من البلاد وحسب”.
هيومن رايتس ووتش: اتّهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات النظام السوري بارتكاب انتهاكات، بينها الاعتقال التعسفي والتعذيب، بحقّ لاجئين عادوا إلى بلادهم بعد معاناة في بلاد اللجوء التي فرّوا إليها هربًا من المعارك والقصف.
ونبّهت المنظمة الحقوقية إلى أن سوريا “ليست آمنة للعودة”، وقالت إنه “لا يجوز لأي دولة أن تجبر اللاجئين على العودة إلى سوريا، ما دامت الحكومة السورية لا تزال تمارس انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان”.
بالإضافة إلى ما سبق، نشرت الكثير من المنظمات الحقوقية السورية تقارير تؤكد على أن البلاد لم ولن تكون آمنة طالما أن الأسد باقٍ في الحكم، وكل ذلك بالاعتماد على استقراء لآراء السوريين في الداخل والخارج، أما بالحديث عن قرارات العفو التي يصدرها الأسد فتعتبرها هذه المنظمات قرارات وهمية “تُستخدَم لإثبات حسن النية زورًا دون الإفراج الفعلي عن المعتقلين لأسباب سياسية، إضافة إلى أنها لا تمثل ضمانًا”.
الانتخابات تشعل الموقف
بات الكل يعرف اليوم أن دمشق وباقي المحافظات الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، وحتى تلك المناطق الخارجة عن سيطرته وتحكمها المعارضة أو الوحدات الكردية، باتت غير صالحة للعيش، إذ إنها تفتقر للكثير من الخدمات مثل الماء والكهرباء، وانقطاع المواد الرئيسية كالوقود والخبز، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى البطالة وتدنّي الأجور وانهيار العملة المحلية أمام الدولار، هذا فضلًا عن انعدام الأمان فيها، كل هذه الأسباب كفيلة بأن تجعل المواطن السوري يفكر بالهجرة إلى أي مكان ويحاول ما أمكن للخروج من البلاد.
ولكن الدول، ومنها تركيا، باتت تضيّق على السوريين من أجل تحديد أعدادهم في البلاد، بعد حملات تجييش من المعارضة التركية التي تصعّد خطابها العنصري وتحرّض على الكراهية ضد الأجانب، وبالخصوص اللاجئين السوريين.
ما ذكرناه آنفًا، من المؤكد أن وزير الداخلية سليمان صويلو يعلمه جيدًا، ولكن الخطاب الحكومي بات يتأثر بضغط المعارضة التحريضي وينساق معه، خاصة أن تركيا مقبلة على انتخابات يبدو أنها صعبة لحزب العدالة والتنمية الذي شرّع أبواب تركيا أمام موجة اللاجئين منذ سنوات، لكن انقلبت الحال الآن.
يُعتبر صويلو من أكثر المسؤولين الأتراك شعبية بين السوريين، لما له من تصريحات سابقة مؤيدة لهم ولوجودهم في البلاد، كما أنه لطالما ردَّ على من يؤجِّج العنصرية من المعارضين الأتراك، ففي أحد اللقاءات التلفزيونية سألَ مقدّم البرنامج صويلو عن تصريحات أوميت أوزداغ العنصرية بحقّ السوريين، فغضب الوزير وقال: “أنا لا أعدّ هذا الشخص بمكانة الرجال، ولا أقبل التحدث عن تصريحاته ولا أضعه بمكانة الإنسان، بل هو أقل قيمة من الحيوانات، بل عديم القيمة تمامًا”.
لكن تصريحات صويلو في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى القرارات التي تضيّق الخناق على السوريين في تركيا، تثير التساؤل عن سرّ هذا التغيُّر في السياسة، خاصة أنه قال منذ أسابيع: “فليشهد الله على كلامنا، نحن لن نسلّم السوريين للظالمين”، ما يناقضُ تصريحاته الجديدة بخصوص القادمين من دمشق وأطرافها، وهو ما يفسره البعض بأن صويلو يوجّه خطابه في كل مرة إلى جمهور معيّن من أجل تهدئة الشارع التركي والسوري على حد سواء.
أما السبب الأبرز للقرارات الأخيرة فهو الاستعداد للانتخابات القادمة، خاصة أن المعارضة التركية تطرح ملف اللاجئين كبرنامج وحيد لها لكسب أصوات الشارع التركي، وبالفعل أصبح اللاجئون حديث الساعة في تركيا، وفي جولة يومية على موقع تويتر ترى أن المواضيع الأكثر تداولًا هي التي تتحدث عن السوريين واللاجئين، وهو ما يضع السلطة في موقف إما المدافع عن سياساتها والمبرر لها، أو في موقف المنساق مع تصعيد خطاب المعارضة وبالتالي ترفع بدورها من سقف إجراءاتها المعادية للاجئين.
بات السوريون اليوم في كثير من بلدان اللجوء ضحية للخطاب المتطرف والشعبوي الذي تقوده شخصيات وأحزاب تجمعها كراهية الآخر والعنصرية، ويبدو أن تركيا لم تسلم من ذلك، إذ إن خطاب بعض أطياف المعارضة حولها إلى “يمين متطرف” تركي، يجيشون الشارع ويحرضونه، الأمر الذي يستجيب له أتراك في كثير من الأحيان باستخدام العنف، ما قد يمثل تهديدًا للمجتمع والسلم الأهلي برمته.