ترجمة حفصة جودة
لم يكن منصور الضيفي يعرف شيئًا عن صربيا عندما جاء وفد من حكومتها لزيارته في 2016 في عامه الـ14 بسجن خليج غوانتنامو، الشيء الوحيد الذي كان يعرفه أن القوات الصربية ذبحت المسلمين البوسنيين في حروب البلقان خلال التسعينيات، كان جميع المعتقلين الذين تقرر إطلاق سراحهم من غوانتنامو هذا العام يعلمون هذا التاريخ كما يقول الضيفي، ولم يرغب أحدهم في الذهاب إلى صربيا.
في ذلك الوقت، كان الضيفي قد قضى كل شبابه في غوانتنامو، فقد اعتُقل من أفغانستان في عمر 19 عامًا وظل في السجن دون تهمة حتى 32 عامًا، في العام الماضي تراجعت الولايات المتحدة رسميًا عن تقييمها له واعترفت أنه لم يكن واضحًا إذا كان له أي علاقة بالقاعدة، وقررت إطلاق سراحه وفق نظام معقد من الصفقات السرية لإعادة توطين المعتقلين في الخارج.
أراد الضيفي أن يذهب إلى قطر حيث تعيش بعض عائلته أو إلى عُمان التي تحظى بسمعة طيبة في معاملة معتقلي غوانتنامو السابقين، لكن عندما حان وقت اجتماعه مع الوفد في الغرفة المخصصة لذلك بمعسكر 6، وجد الضيفي الوفد الصربي في انتظاره، فاستمع لهم ثم رفض بكل أدب، يقول الضيفي: “لقد شكرتهم كثيرًا، لكنني أعلم التاريخ”.
وفقًا للضيفي، فقد أكد له رئيس الوفد أنهم يرحبون بالمسلمين في صربيا، وستعامله الحكومة مثل أي مواطن وسيساعدونه في إنهاء تعليمه كما سيحصل على مساعدة مادية ويمنحونه جواز سفر وبطاقة هوية، باختصار سيساعدونه على البدء من جديد.
بعد الاجتماع، أخبر الضيفي مسؤولي الولايات المتحدة في غوانتنامو أنه لا يرغب في الذهاب، لكنهم كانوا صريحين بشأن مدى تأثيره على الأمر، فيقول الضيفي: “جاءت مبعوثة وزارة الخارجية لرؤيتي بعد اجتماع الوفد وقالت لي: منصور، ليس لديك أي خيار، ستذهب إلى صربيا”.
يتمتع الضيفي – 39 عامًا الآن – بابتسامة سريعة وشخصية جذابة وطبيعة طفولية ترجع إلى اعتقاله في بداية بلوغه، بدأت رحلته الطويلة إلى بلغراد من اليمن، حيث نشأ في قرية ريفية دون ماء أو كهرباء.
في مرحلة المراهقة انتقل الضيفي إلى العاصمة صنعاء لإنهاء المرحلة المدرسية ودراسة علوم الحاسب، ووفقًا لشهادته، فقد سافر إلى أفغانستان عام 2001 في بعثة عمل كمساعد باحث في تكنولوجيا المعلومات رتبها المعهد التعليمي في صنعاء.
بعد 4 أشهر من وصوله، غزت أمريكا أفغانستان وبدأت في البحث عن أفراد القاعدة، سقطت المنشورات من الطائرات تعد المواطنين بمكافآت مالية كبيرة عند تسليم أفراد القاعدة.
كان الضيفي مسافرًا في سيارة شمال أفغانستان عندما تربص بهم مسلحون، قبل أيام فقط من موعد عودته إلى اليمن، ثم أُسر وسُلم إلى أمريكا.
ذهب الضيفي أول الأمر إلى موقع أمريكي أسود (تجري العمليات غير القانونية في المواقع السوداء في قندهار، حيث جردوه من ملابسه وحققوا معه وضربوه واتهموه بأنه قائد مصري للقاعدة، طار الضيفي من قندهار مقيدًا ورأسه مغطاه إلى خليج غوانتنامو.
تحدث الضيفي عن سنوات اعتقاله الـ14 في هذا السجن سيئ السمعة في مذكراته “Don’t Forget Us Here” التي نُشرت أواخر العام الماضي، توثق مذكراته التعذيب والانتهاك النفسي الذي تعرض له، ووفاة شقيقه وشقيقته في أثناء اعتقاله.
تعلم الضيفي بنفسه الإنجليزية من الصفر في المعتقل، بالإضافة إلى بعض علوم الحاسب ونظريات التجارة، لكن القصة انتهت بعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة عندما هبط على أرض بلغراد في ليلة معتمة في يوليو/تموز2016، حيث أخذته الخدمة السرية إلى شقة صغيرة وسط المدينة حيث وجد هناك كاميرات مراقبة، في تلك الليلة ظل الضيفي مستيقظًا يفكر فيما ينتظره.
يقول الضيفي – من شقته في بلغراد في إحدى ليالي فبراير/شباط -: “كنت مرهقًا لكنني لم أستطع النوم، وكنت جائعًا لكنني لم أتمكن من تناول الطعام، كنت وحيدًا أيضًا في غوانتنامو، لكن هذه المرة كانت وحدة جديدة”.
ما حدث بعد ذلك وصفه الضيفي بغوانتنامو ثانٍ، فقد كان وجوده في صربيا معزولًا ومقيدًا، لم يُسمح له بالرحيل وكانت الشرطة تتبعه في كل مكان، وتحذر كل من يرغب في صداقته.
وصف نحو 5 معتقلين سابقين في غوانتنامو – أُفرج عنهم جميعًا دون تهم – ظروفًا مشابهة: حياة طي النسيان محدودة بنقص الوثائق ومراقبة الشرطة وقيود على السفر تجعلهم حبيسي دولة أو حتى مدينة واحدة، ما يجعل من الصعب العثور على عمل أو زيارة العائلة أو تكوين أي علاقات.
يقول الضيفي: “مرحبًا بكم في حياتنا، هذه هي الحياة بعد غوانتنامو”.
انتشرت صفقات إعادة توطين المعتقلين السابقين في مختلف الدول مثل صربيا وسلوفاكيا والسعودية وألبانيا وكازاخستان وقطر وغيرهم، بعضهم كان محظوظًا نسبيًا بعودته إلى وطنه مثل المملكة المتحدة، وبعضهم أُرسل إلى مكان غريب.
مُنع الضيفي من العودة إلى اليمن حيث تعيش عائلته لأن الكونغرس الأمريكي قرر أن إعادة معتقل سابق إلى دولة غير مستقرة يشكل مخاطرة أمنية، لم يوافق اليمن أيضًا على منح الضيفي جواز سفر وكذلك صربيا، لذا فهو فعليًا بلا جنسية وحبيس بلغراد.
كانت الصفقة التي جاءت به هنا – مثل أشياء كثيرة في غوانتنامو – مغلفة بالسرية، تقول بيث جاكوب محامية الضيفي – التي تمثل 9 معتقلين في غوانتنامو الآن دون مقابل -: “لم أعلم بشيء رسميًا، لأن الولايات المتحدة لا تخبر المحاميين أي شيء، معظم المعلومات التي أعرفها عن موكليني لا أستطيع مشاركتها معهم لأنها سرية، وما لدي مُنقح بشدة، 5 صفحات من الوثائق وبضع كلمات تطفو فوق بحر من السواد”.
قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها تحصل على ضمانات من كل الدول المضيفة بمعاملة المعتقلين السابقين معاملة إنسانية، بالإضافة إلى ضمانات أمنية تهدف إلى الحد من التهديد الذي قد يشكله المعتقل السابق بعد نقله، وإطار عمل لتسهيل إعادة دمجهم بنجاح في المجتمع.
في أغلب الأحيان يأكل الضيفي وحده في البيت وللحد من وحدته، يركب الحافلة إلى مركز التسوق القريب حيث يتجول هناك
يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية إنها ساعدت أحيانًا في التكاليف المتعلقة بدعم المعتقلين السابقين، رغم أن حجم المساعدة ومدتها ما زال غير واضح.
بالنسبة للضيفي بدت صفقة إعادة التوطين كشبكة خفية، لا يعلم أين تبدأ وأين تنتهي، فلا يمكنه مغادرة صربيا لأنه لا يملك جواز سفر ولا يمكنه الخروج من بلغراد دون طلب إذن مسبق، كما تلاحقه الشرطة في كل مكان وقد وجد أجهزة تنصت في هاتفه الذي منحته إياه الحكومة.
ليس مسموحًا للضيفي أيضًا قيادة السيارات لذا أصبح نادرًا ما يصلي الجمعة لأن ذلك يتطلب رحلةً طويلةً بالحافلة للذهاب إلى أقرب مسجد، يملك الضيفي تصريح إقامة ويحصل على مساعدة مالية للإيجار والتعليم، لكن العثور على عمل ما زال صعبًا، فلا يمكنه أن يشرح الـ15 عامًا التي قضاها في غوانتنامو، وهكذا يكافح لتلبية احتياجاته.
يعيش الضيفي في شقة وفرتها الحكومة في إحدى ضواحي المدينة حيث يعيش القليل من المسلمين ولا يوجد أي مكان لشراء اللحم الحلال، في أغلب الأحيان يأكل الضيفي وحده في البيت وللحد من وحدته، يركب الحافلة إلى مركز التسوق القريب حيث يتجول هناك.
عندما يمر الضيفي بأسرة صغيرة يحدق بهم كثيرًا، وفي إحدى جولاته بمركز التسوق يقول: “لا يمكنني مساعدة نفسي، أشعر كأني صدفة فارغة من الداخل”.
بعد وصوله بلغراد بفترة قصيرة عام 2016، أجرى الضيفي أول مقابلة له مع الإعلام الأمريكي وتحدث عن عدم سعادته بحياته الجديدة، ردًا على ذلك نشرت صحيفة شعبية صربية شهيرة، قصة من صفحة كاملة تشير إليه بأنه “جهادي القاعدة” و”الإرهابي” الذي كان جاحدًا مع دولته المضيفة.
يقول الضيفي إن الشرطة حذرت كل من حاول عقد صداقة معهم، كما كشف عن لقطات شاشة لمحادثات واتساب يصف فيها الناس التي تفاعلت معه من أول زيارة له في المقهى وحده بعد وصوله بعدة أسابيع حيث استجوبت الشرطة مجموعة من الليبيين الذين كانوا يجلسون في الطاولة المجاورة، إلى تفاعله الأخير – العام الماضي – عندما تناول القهوة مع شاب مسلم التقى به في المسجد.
يقول الضيفي: “لقد أوقفوه وسألوه: هل تعرف منصور من القاعدة؟ في النهاية أخبرته أن يمحو رقمي فلا أريد أن يتاذى أحدهم بسببي”.
بعد لقائه مع برنامج “Frontline” التابع لهيئة الإذاعة العامة الأمريكية، يقول الضيفي إن الشرطة اعتقلته وتعرض للضرب، كما اعتُقل صديقاه من دورة اللغة، وتعرضت إحدى السيدات من دورة إصلاح الهواتف لمواجهة الشرطة بعد أن تحدثت معه في المكتبة، وما زال لديه رسائلها التي أرستها بعد ذلك تسأله لماذا حذرتها الشرطة منه.
وهكذا يقضي الضيفي معظم وقته وحيدًا في شقته، ونادرًا ما يتعامل مع جيرانه، وقلّ ذهابه إلى مركز التسوق بعد أن شُوهد يصلي في المنطقة الخارجية المفتوحة العام الماضي، فرافقته الشرطة خارج المكان.
يقول الضيفي: “بعد فترة من الوقت تستسلم وتتراجع، لكن هذا يعني بقاءك وحيدًا، لقد أصبحت أعيش داخل رأسي معظم الوقت الآن”,
ما أصبح بديلًا للأصدقاء في بغراد، شبكة دولية من معتقلي غوانتنامو السابقين الذي ساعد في ربطهم ببعضهم البعض ويسميهم “الأخوة”، فيتواصلون من خلال مجموعات واتساب أو من خلال الهاتف، عادة ما يكون محتوى هذه المجموعات غير سياسي لتجنب التعرض للخطر في البلد المضيف.
يقول الضيفي: “نغني الأغاني ونطلق المزحات ونتشارك الصور ونتحدث عن صحتنا، كما نتشارك ذكريات غوانتنامو والملابس والطعام، هذا ما يساعدنا على الاستمرار في حياتنا”.
يتحدث الضيفي كثيرًا مع المعتقل السابق صبري القرشي، وهو زميل يمني قضى نحو 13 عامًا في غوانتنامو قبل أن يُعاد توطينه قسريًا في مدينة “سمي” أقصى شرق كازاخستان التي كانت موقعًا سابقًا للاختبارات النووية، وليس مسموحًا له بمغادرتها.
نُقل القرشي إلى كازاخستان في 2014 مع 4 معتقلين سابقين آخرين من بينهم عاصم ظحت عبد الله الخلاقي الذي مات نتيجة الفشل الكلوي بعد 4 أشهر من وصوله ولطفي بن علي الذي لم يحصل على الرعاية الصحية التي يحتاج إليها في “سمي” بسبب حالة قلبه الصحية وتوفي العام الماضي بعد ترحيله إلى موريتانيا.
مع رحيل بن علي أصبح القرشي وحيدًا في سمي حيث يعيش في حالة أسوأ من السجن، وقد كتب خطابات إلى الرئيس الكازاخي ورئيس الوزراء والسفارة الأمريكية واللجنة الدولية للصليب الأحمر يطالب فيها بإطلاق سراحه أو إعادته إلى غوانتنامو، لكن دون جدوى.
يقول القرشي: “كانت الحياة في غوانتنامو أفضل من هنا، هناك على الأقل كان لدي أمل أن أكون في مكان أفضل يومًا ما، عندما جاء وفد الحكومة الكازاخية أخبروني أنهم سيعاملونني كأي مواطن، لكنها كانت كذبة، فلا أملك هوية أو وضع قانوني، وليس لدي أسرة أو أصدقاء، إنني عالق هنا ولا نهاية لذلك”.
كثيرًا ما يتعرض القرشي لإيقاف الشرطة عند مغادرته الشقة ويسألونه عن بطاقة الهوية التي لا يملكها، في كثير من الأحيان يُجبر على الانتظار في مركز الشرطة 7 أو 8 ساعات حتى يأتي أحدهم من الصليب الأحمر لإطلاق سراحه.
يحتاج القرشي إلى رعاية طبية متخصصة بسبب تلف أعصاب وجهه بعد أن لكمه رجل شرطة يرتدي ملابس مدنية عندما رفض أن يخلع سترته يومًا ما، لكن مثل صديقه الراحل لطفي بن علي، لم يحصل القرشي على تصريح للسفر إلى العاصمة من أجل العلاج.
يقول القرشي: “ذهبت إلى الشرطة وسألتهم ماذا حدث للشخص الذي ضربني، فقالوا: اصمت، وعد إلى منزلك، أنت نكرة هنا”.
هذه الحادثة تلخص وجود القرشي في سمي، حيث يعيش تمامًا تحت رحمة السلطات المحلية، التي تعامله كإرهابي مدان، يقول القرشي: “تألمت أولًا من اللكمة، وتألمت ثانيًا من استحالة تحقيق العدالة، فليس لدي حقوق هنا”.
كان هذا مصير الضيفي الذي اعتُقل في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، يقول الضيفي: “لقد كنت صفقة كاملة بيعت للولايات المتحدة ثم بيعت إلى صربيا”.
لم توجه الولايات المتحدة أي تهمة للقرشي بعد أن زعمت أنه عضو في القاعدة ويحضر معسكرًا تدريبيًا في أفغانستان، ألقت القوات الأمنية الباكستانية القبض عليه في مخبأ مزعوم للقاعدة في كراتشي، لكنه أنكر أي علاقة له بالجماعة.
في أثناء اعتقاله بغوانتنامو، بدأ القرشي في الرسم وأنتج كمية ضخمة من الأعمال التي صُودرت بعد ذلك، فحاول الاستمرار في الرسم في أثناء وجوده بسمي، حيث يقول: “إنه الشيء الوحيد الذي يحميني من الجنون”.
لم يكن مسموحًا للقرشي طلب أي شيء من الإنترنت، لذا فإنه يحصل على لوحات وألوان بشكل محدود، وقد طُلب منه المشاركة بأعماله في معرض فني لمعتقلين سابقين لكنه لا يملك هوية كازاخية وبالتالي لم يتمكن من توثيق الأعمال باسمه وإرسالها.
يقول القرشي: “سألت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، هل أحرق رسوماتي؟ فأخبروني أن مهمتهم الوحيدة ضمان حصولي على مسكن وطعام فقط”.
قبل سبع سنوات تزوج القرشي بترتيب من أسرته من امرأة في اليمن لم يلتق بها أبدًا وليس مسموحًا له بمغادرة سمي ولم تتمكن هي من السفر إلى كازاخستان للعيش معه، قدم القرشي التماسًا لمختلف السلطات الكازاخية للسماح له بالمغادرة لكن الوضع ما زال كما هو، يقول القرشي: “انتظر أن تبدأ حياتي منذ 7 سنوات”.
في المجمل مرّ 779 رجلًا بتجرية الاعتقال في خليج غوانتنامو، اتُهم 12 منهم بجرائم، ولم يُدان إلا 2 فقط، وفقًا لتحليل أجرته كلية الحقوق بجامعة سيتون هول لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية عام 2016، فإن 5% فقط من بين 517 معتقلًا سُجنوا هذا العام اعتقلتهم القوات الأمريكية، بينما اعتقل 86% منهم من باكستان أو جبهة التحالف العسكري الشمالي في أفغانستان وسُلموا إلى أمريكا في الوقت الذي قدمت فيها مكافآت سخية لتسليم الأعداء المشتبه بهم.
كان هذا مصير الضيفي الذي اعتُقل في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، يقول الضيفي: “لقد كنت صفقة كاملة بيعت للولايات المتحدة ثم بيعت إلى صربيا”.
في 2007، صرح الضيفي أمام هيئة المراجعة الإدارية في غوانتنامو – بعد 7 سنوات من اعتقاله – أنه جهادي وابن أسامة بن لادن وأنه فخور بمعاداته للولايات المتحدة، ثم قال بعد ذلك إنه تحدث بذلك احتجاجًا على الوضع، كانت هيئة المراجعة الإدارية عبارة عن جلسة استماع زائفة لم يحضرها محاميو المعتقلين.
يقول الضيفي: “لم نكن نعلم ما هي هيئة المراجعة الإدارية، كنا نعتقد أنه استجواب آخر، بالنسبة لنا كل ما يحدث يعتبر استجوابًا، لذا قررت ذلك اليوم أنني سأهزمهم وأخبرهم أنني عدوهم”.
في تلك اللحظة، ظهر الضيفي كزعيم شعبي لزملائه المعتقلين، فنظم إضرابات عن الطعام واحتجاجات أخرى، وأصبح لقبه بين الحراس “المشاغب المبتسم”، كرّس الضيفي نفسه للتعليم فتعلم بنفسه الإنجليزية من الصفر والكتابة، فكتب مذكراته عن غوانتنامو مرتين، النسخة الأولى كُتبت على أوراق مهربة وصودرت ودُمرت، وعندما أدرك أن الرسائل القانونية مسموحة، بدأ بالجلوس لساعات في غرفة الدراسة بالمعسكر وقدمه مقيدة بالأرض وكتب رسائل أصبحت فيما بعد أساسًا لكتابه.
يعمل الضيفي الآن على كتاب جديد يصور معاناته في الحياة بعد الاعتقال في صربيا، على إحدى حوائط شقته في بلغراد تنتشر أوراق الملحوظات اللاصقة تصف أحداثًا ستشكل محتوى الكتاب.
سجلت الملاحظات تحقيقات الشرطة ومحاولاته المضنية لتكوين صداقات والعثور على زوجة، وجهوده لجذب انتباه الرئيس بايدن لمعاناته، يتواصل الضيفي كل يوم مع معتقلين سابقين آخرين – أكثر من 100 معتقل في المجمل – من خلال مجموعات الدردشة على واتساب أو غيرها من وسائل التواصل الإلكترونية، وقد واجه الكثير منهم نفس المتاعب والقيود التي واجهها الضيفي.
تقول دافني إيفياتار مدير الأمن وحقوق الإنسان في منظمة العفو الدولية بالولايات المتحدة: “لقد تسببت الولايات المتحدة في وضع مروع لهؤلاء الرجال، الكثير منهم عُذبوا دون أي اعتراف بما حدث لهم ولم يحصلوا على تعويض أو إعادة تأهيل، ليُنقلوا بعد ذلك إلى وضع آخر يقيدون فيه، فلا سفر ولا عمل لكسب المعيشة ولا قدرة على تجاوز الأمر والاستمرار في حياتهم، إنه أمر غير معقول”.
بالنسبة للضيفي، فالطريق الوحيد لحياة جديدة بعد غوانتنامو يتمثل في العثور على زوجة وتأسيس أسرة، هذا ما يشغل فكره في المساء عندما تنتهي الملهيات، لكن جهود اللقاء بإحداهن في صربيا لم تكلل بالنجاح، فإيمانه يحتم عليه أن يتزوج مسلمة ويلتقيها بالطريقة التقليدية من خلال أسرتها، لكن محاولات اندماجه في المجتمع المسلم في بلغراد باءت بالفشل، بسبب مخاوف منتشرة داخل المجتمع عن علاقته بالإرهاب.
وجد الضيفي بالفعل شريكة مناسبة من أسرة طيبة لكنها خارج البلاد، وبالفعل تواصلا لمدة عام بينما ناشد السلطات الصربية السماح له بالسفر للانضمام إليها، كانت حبه الأول كما يقول، وقد توسل للسلطات كي تسمح له بالذهاب إليها لكنهم رفضوا، وفي النهاية نفد صبر أسرتها وتزوجت من آخر.
يقول الضيفي: “أسوأ ألم أحسست به لم يكن في الموقع الأسود، ولم يكن في أثناء الـ15 عامًا الي قضيتها في غوانتنامو، كانت عندما فقدت شخصًا أحبه، في غوانتنامو كانوا يعذبوننا، لكنهم لم يستطيعوا مس أرواحنا، الحب ألم يمس روحك وتعاني بسببه الكثير”.
في يوليو/تموز 2004، بعد أكثر من عامين من وصول أول سجناء لغوانتنامو، أطلق البنتاغون أول مراجعة رسمية لوضع المعتقلين، وقرر إطلاق سراح 38 رجلًا وصنفتهم بـ”مقاتل غير عدو”، اعترف تقرير المراجعة أن هؤلاء الرجال لم يشاركوا في أي أعمال مرتبطة بالقاعدة أو طالبان ولم يقوموا بأي أعمال عدائية ضد الولايات المتحدة.
من بين هؤلاء 5 أفراد من الإيغور كانوا في أفغانستان واشتبهت الولايات المتحدة في أنهم أفراد من حركة استقلال شرق تركستان (جماعة مسلحة مستقلة تهدف إلى استقلال شينجيانغ)، لم يكن آمنًا إعادتهم إلى الصين حيث يُضطهد الإيغور، فعقدت الولايات المتحدة اتفاقًا مع ألبانيا لتأخذهم.
أُطلق سراحهم أخيرًا في 2006 ووصلوا آخر الليل إلى العاصمة الألبانية تيرانا، لكن فرحتهم بالحرية لم تدم طويلًا فقد نُقلوا مباشرة إلى معسكر حقير للاجئين على أطراف المدينة حيث قضوا أكثر من عام.
وُعد قاسم وبقية المعتقلين السابقين المحصورين في ألبانيا بالمساعدة المادية وجوازات سفر وهوية مواطنة وشقق جاهزة لهم، ليكتشفوا واقعًا مغايرًا تمامًا
يقول أبو بكر قاسم – 52 عامًا، إيغوري يعيش حياة هادئة الآن مع أسرته في حي فقير خارج تيرانا -: “بدا كأنه عالم آخر، فبعد 5 سنوات من الحر الشديد في غوانتنامو، انتقلنا فجأة إلى ألبانيا حيث البرد القارس، وفي كل ليلة نرتدي ملابس ثقيلة ونأكل طعامًا لا طعم له وسط الغرباء في المخيم”.
نفى قاسم أن يكون له أي علاقة بحركة استقلال شرق تركستان، كان مسافرًا إلى تركيا عبر باكستان عندما التقطه المسلحون وسلموه إلى أمريكا، ومثل الضيفي فقد وُعد قاسم وبقية المعتقلين السابقين المحصورين في ألبانيا بالمساعدة المادية وجوازات سفر وهوية مواطنة وشقق جاهزة لهم، ليكتشفوا واقعًا مغايرًا تمامًا.
يقول ذاكر أسام – معتقل أوزبكي من 2002 إلى 2006 -: “كان هناك 6 معسكرات في غوانتنامو بهذا الوقت، وكان معسكر اللاجئين في ألبانيا سابعهم، كنا 4 أو 5 أفراد في الغرفة الواحدة وكان المعسكر محاطًا بسلك شائك ولم يكن لدينا مال أو طعام جيد، قالت السلطات إن مهمتهم الوحيدة الحفاظ على سلامتنا الجسدية والسياسية، وقد كان”.
بعد عام في مخيم اللاجئين وبعض الاحتجاجات، نُقل المعتقلون السابقون في تيرانا إلى شقق، والآن يعيشون حياة ما بعد غوانتنامو مقارنة بالضيفي والقرشي، ونوعًا ما أكثر حظًا، فقد تزوج بعضهم والبعض للمرة الثانية، وأصبح لدى قاسم وأسام أطفال، ويحصلون على مساعدة مالية شهرية من أجل الإيجار والفواتير ويتمتعون باندماج ناجح في مجتمعهم المحلي، من حسن حظهم أن أنتهى الأمر بهم في دولة ذات أغلبية مسلمة.
لكن بطريقة أخرى كانوا يعيشون نفس القيود التي يعيشها المعتقلون السابقون في صربيا وسلوفاكيا وكازاخستان، فليس لديهم جوازات سفر أو تصاريح عمل، لذا لا يمكنهم السفر أو الحصول على لقمة العيش التي تساعدهم مع المساعدة المالية المتواضعة التي يحصلون عليها.
يقول قاسم: “هذه ليست حرية، الحمد لله أننا خارج السجن، لكننا لسنا أحرارًا”، ويضيف “تشتري زوجتي أرخص الخضراوات والفواكه، تلك الفاسدة قليلًا، لا يمكننا الشراء من السوق لأن المال ينتهي بعد منتصف الشهر، لذا نحاول أن ندخر قدر الإمكان، فنحن أجانب هنا وليس لدينا عائلة تساعدنا”.
تكفي المساعدات المالية بالكاد للبقاء على قيد الحياة، لكنها تضعهم في موقف مضطرب لأنها مرتبطة بالمعتقل السابق فقط وليس أسرته، عندما تُوفي صديق قاسم وزميله السابق في المعتقل، علاء عبد المقسط قبل 5 أشهر بسبب كوفيد-19، وصل إلى زوجته خديجة خطاب من الحكومة الألبانية تخبرها بأن المساعدات المالية ستتوقف، كما أخبروها أن الشقة التي استأجرتها الحكومة لها التي تعيش فيها مع أطفالها الثلاث يجب أن يتركوها في سبتمبر/أيلول القادم.
أفرج عن علاء دون تهمة عام 2005 بعد أن صُنف مقاتل غير عدو، ذهبت خديجة إلى وزارة الداخلية بنفسها لتلتمس في قضيتها لكن لم يُسمح لها بالدخول ولم يصلها رد على رسالتها، وليس بإمكانها تحمل تكلفة المحامي، لكي ترعى أطفالها ستحتاج خديجة إلى عمل بدوام كامل ورعايتهم في الوقت ذاته.
أصبح أول وأكبر مخاوفها ألا تتمكن من رعاية وإطعام أطفالها، وثاني أكبر مخاوفها أن يتعرضوا للاضطهاد لأن والدهم كان معتقلًا سابقًا في غوانتنامو، تقول خديجة: “أخشى على أطفالي في المستقبل، وأن تلاحقهم وصمة غوانتنامو”.
يقول أسام: “إن أكبر مشاكلنا عدم حصولنا على هوية، إنها تتداخل مع الحياة اليومية، وليس لدينا أي خيار، فلا يمكننا أن نختار أين نعيش ولا يمكننا السفر إلى الخارج لرؤية عائلاتنا، ولا أن نختار أين نعمل، فأي مكان يسألنا عن هويتنا ووثائقنا وتاريخ عملنا”.
يذهب أسام كل أسبوع إلى سوق الخردة حيث يبحث عن أي إلكترونيات يمكنه شراءها وإصلاحها وبيعها مرة أخرى مثل الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والراديو وأي شيء يمكن فتحه وإصلاحه، لكن المكاسب وهامش الربح ضئيل، فبعد ساعتين في السوق في أول فبراير/شباط انتهي الأمر بمكبر صوت تالف.
يرغب أسام في الحصول على عمل جيد وفقًا لمهاراته الميكانيكية، وتوفير حياة أفضل لطفليه المصابين بالتوحد اللذين لا يحظيان حاليًّا برعاية مناسبة.
في عام 2020 اكتشف أسام أن اسمه مدرج في قائمة “World Check” وهي قاعدة بيانات عالمية لم تكن تعني له شيئًا من قبل، لكن البنوك تستخدمها في كل مكان لاكتشاف العملاء ذوي الخلفيات الجنائية، وجود أي شخص في تلك القائمة يحد من إمكاناته بطريقة لا يتخيلها، كما أن شركة “Refinitiv” المسؤولة عن ذلك لا تخبر الأفراد عند إدراجهم في القائمة.
اتضح هذا العام أن العديد من المعتقلين السابقين في غوانتنامو مضافين إلى تلك القائمة، وبعضهم مدرج على تصنيف الإرهاب رغم أنهم لم يُتهموا بأي جريمة مطلقًا، والآن بمساعدة شركة قانونية بريطانية، يحصل بعضهم على تعويضات بسيطة، فقد حصل كل من أسام وقاسم على 3 آلاف دولار، أما منصور الضيفي فلم يحصل على تعويض بعد، فما زال يناقش العرض، يقول: “عندما تضع في حسبانك أن المحاميين يحصلون على 30% من قيمة التعويض، يصبح الباقي شيئًا لا يُذكر”.
في الشهر الماضي مُنع الضيفي دون تفسير من استخدام خدمة تحويل الأموال “ويسترن يونيون”، كان الضيفي يستخدمها لإرسال القليل من المال كل فترة إلى عائلته في اليمن للمساعدة في نفقات علاج والدته الشهرية، بالإضافة إلى استقبال التبرعات أو أموال عمل حر من خارج البلاد.
وفقًا لسياسية الشركة، فهي تقول إنها لا تستطيع الإفصاح عن السبب للضيفي أو لغيره لأنها تأخذ مسؤولياتها التنظيمية على محمل الجد، وقالت إنه تتواصل مع الضيفي بشأن قضيته.
لكنه مقتنع بالطبع بأن السبب “غوانتنامو” فهذا الاعتقال غير القانوني يلقي بظلاله على الكثير من أجزاء حياته، يقول الضيفي بأسف: “إنه يتبعك في كل مكان، فأمريكا عاقبتني 15 عامًا، والآن يعاقبني بقية العالم مدى الحياة”.
في إحدى ليالي فبراير/شباط بعد أيام قليلة من الذكرى الـ20 لوصوله غوانتنامو، كان الضيفي يجلس في شقته يتحدث عبر الفيديو مع مجموعة من الطلاب في ولاية فيرجينيا بأمريكا عن الفن الذي أنتجه في غوانتنامو، حرك الضيفي مكتبه أمام خلفيته المفضلة، ذلك الحائط الممتلئ بقصاصات كتابه الجديد، ثم ارتدى وشاحًا برتقاليًا من الحرير حول عنقه، كان اللون البرتقالي أول ما رآه الضيفي في غوانتنامو عندما نزعوا عصابة عينه لأول مرة، كان لون البذلات التي أُجبر المعتقلون على ارتدائها، وقد أصبح فيما بعد رمزًا لانتهاكات حقوق الإنسان الأمريكية في المعسكر.
أشعل الضيفي مصباح حلقي رخيص اشتراه عبر الإنترنت من أجل تلك اللقاءات وقد أضاء جانبًا واحدًا من الشقة، نادرًا ما يرفض الضيفي أي عرض لإجراء لقاء أو حديث، فلديه كتاب يروج له، كما أنه يرى أن من مسؤوليته تعليم الأجيال الشابة بشأن غوانتنامو، إضافة إلى أن ذلك يملأ حياته بالناس ولو لفترة وجيزة.
تحدث الضيفي في البداية عن قائمة الفن الذي أنتجه معتقلو غوانتنامو ومعركة الفنانين المستمرة لكي يأخذوا أعمالهم معهم خارج السجن، ثم شجع الطلاب على السؤال عما يرغبون في معرفته.
كان العديد من مجموعات طلاب المدارس والجامعات التي تحدث إليها يملكون معرفة مبهمة عما حدث في غوانتنامو وكيف بدأت القصة، لكن الضيفي كان يذكر نفسه باستمرار أن معظمهم لم يكونوا مولودين حتى عندما وصل هناك.
كانت معظم الأسئلة الموجهة للضيفي تدور حول غوانتمامو، لكنه كان يتفاعل ببهجة مع الجميع، سأله أحد الطلاب: “في أي مرحلة استسلمت؟”، فأجاب “لا استسلام هناك، فاللحظة التي تستسلم فيها ستضيع، كنا نرسم فيأخذون منا اللوحات، ونكتب فيمزقون كلماتنا، وأضربنا عن الطعام فكسروا إضرابنا، فأضربنا عن الطعام مرة أخرى، وكتبت كتابي مرتين، عندما أخدوه أول مرة تحطم قلبي، لكنني كتبته ثانية”.
أنهى الضيفي مخطوطه في بلغراد بمساعدة كاتب أمريكي، ونُشر الكتاب في أواخر العام الماضي، كما أنهى درجة البكالوريوس في التجارة وكانت أطروحته عن تحليل نجاحات وإخفاقات المعتقلين السابقين في إعادة الدخول للحياة الاجتماعية وسوق العمل في أي مكان أُرسلوا إليه.
ما زال غوانتنامو يخطّ عالم الضيفي، فلا شيء يفعله إلا ويتعلق باستكشاف أو النضال بشأن عواقب اعتقاله.
عندما انتهى الاجتماع عبر الإنترنت، أطفأ الضيفي المصباح الحلقي وأعاد ترتيب شقته، كان الوقت متأخرًا لكنه أراد الحديث، تحول الحديث مرة أخرى إلى العائلة وفي لحظة ما، بدأ الضيفي في تقليد أب يحاول تهدئة أطفاله الصغار وتربيتهم، ثم حمله الخيال فقفز لمطاردة أطفاله الخياليين حول الغرفة ووجهه يشرق بابتسامة واسعة بينما ينادى أسماءهم الخيالية، حتى ضبط نفسه وهو يفعل ذلك فتوقف وجلس برهة في صمت.
بالنسبة للضيفي فتحول هذا الخيال إلى واقع ملموس سيكون خلاصه الحقيقي الوحيد من غوانتنامو، لكن حتى ذلك اليوم فهو عالق في تلك المرحلة الغريبة من حياته التي تحددها فترة اعتقاله الطويلة غير القانونية.
يقول الضيفي: “أيًا كان ما أفعله سيكون هناك شكوك حولي، فالناس لا يصدقون أن أمريكا مخطئة”.
في أبريل/نيسان، استلمت محامية الضيفي رسالة إلكترونية غامضة من مسؤول في الحكومة يخبرها بأن حكومته اكتفت من منصور وأن البرنامج انتهى، فسألت إن كان ذلك سيعني رفع القيود عن قدرته على العمل والسفر والقيادة، فأجاب أن ذلك سيُناقش في اجتماع المسؤولين القادم.
وهكذا بعد قرابة 6 سنوات من إرسال الضيفي إلى صربيا، كان هذا أول اعتراف – ولو ضمنيًا – بوجود قيود ضده، وما زال بانتظار الرد.
المصدر: بي بي سي