باتت ظاهرة إقبال الإيرانيين على شراء وتملُّك العقارات في تركيا لافتة للنظر إلى حد كبير، بعد تصدُّرهم قائمة مشتريات الأجانب للعقارات وتهافتهم الشديد على الاستثمار وتأسيس الشركات والحصول على الجنسية التركية خلال الخمس سنوات الأخيرة.
وفيما يعزو معظم المحلّلين هذا الإقبال الإيراني على شراء العقارات التركية إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة في إيران وانهيار عملتها والارتفاع القياسي في أسعار العقارات في طهران، والسياسات المتشددة للحكومة الإيرانية إزاء الحريات الفردية، مقابل انخفاض أسعار العقارات التركية وتوافر أجواء الحريات الشخصية والخدمات الترفيهية في تركيا، فضلًا عن التسهيلات المتوافرة للحصول على الجنسية التركية، تثار التساؤلات حول وجود أهداف خفية للتواجد الإيراني المكثّف على الأراضي التركية، على رأسها إسطنبول.
فهل ملايين الدولارات المتدفّقة من الداخل الإيراني إلى الأراضي التركية بوسائل متعددة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الإيراني أشدّ المعاناة، خرجت من طهران دون إذن ورضا النظام الإيراني ورجاله؟ أم أن للحكومة الإيرانية دور في تلك الاستثمارات بغية تشكيل ذراع لها ولوبي شيعي في الداخل التركي؟ وهل السلطات التركية غير منتبهة لذلك؟ أم أنها تتحسّب لكافة المخاطر الأمنية المحيطة بالتواجد الإيراني المكثّف على أراضيها؟
وأيضًا، هل تغضّ الحكومة التركية الطرف عن الهواجس الأمنية بغية جذب الأموال الإيرانية؟ وهل لتلك الاستثمارات علاقة بالتحذيرات الإسرائيلية المتكررة من استهداف رعاياها على الأراضي التركية من قبل الإيرانيين؟ وهل يمكن أن تتحول نتيجة ذلك الأراضي التركية إلى ساحة تصفية حسابات بين طهران وتل أبيب؟
صدارة إيرانية
وفقًا لتقرير مركز الإحصاء التركي الصادر في يناير/ كانون الثاني الماضي، يتصدّر الإيرانيون قائمة الأجانب الذين يشترون العقارات في تركيا، حيث اشتروا العام الماضي 10 آلاف و56 وحدة سكنية في تركيا، بتسجيل زيادة قدرها 30% مقارنة بعام 2020.
وبحسب التقرير، حطّمَ الإيرانيون الرقم القياسي التاريخي لشراء المنازل في تركيا من قبل الأجانب خلال شهر واحد، بحيث قاموا بشراء 1462 وحدة سكنية خلال ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وبعد الإيرانيين جاء العراقيون والروس والأفغان والألمان في المراتب التالية، لشرائهم أكبر عدد من المنازل في تركيا.
وتشير الإحصاءات إلى أن مشتريات الإيرانيين للعقار التركي تتركز في مدينة إسطنبول بنسبة 45% من إجمالي مشترياتهم، تلتها أنطاليا ثم أزمير، حيث تشمل المدن الثلاثة 75% من مشتريات الإيرانيين للعقارات في تركيا.
تمَّ في العام الماضي بيع أكثر من 59 ألف وحدة سكنية في تركيا للأجانب، بزيادة قدرها 44% مقارنة بعام 2020، ما يُعتبر رقمًا قياسيًّا جديدًا، وكان نصيب الإيرانيين فيها أكثر من 17%
وبحسب دوائر برلمانية إيرانية، بلغَ حجم مشتريات الإيرانيين في سوق العقار التركي نحو 7 مليارات دولار بين عامَي 2018 و2020، حيث اشتروا نحو 7 آلاف و189 منزلًا في تركيا خلال عام 2020، وذلك من أصل 40 ألفًا و812 وحدة سكنية تمَّ شراؤها من قبل الرعايا الأجانب في تركيا، بما يوازي 18% من حجم الاستثمار العقاري بتركيا، بينما كان الرقم حوالي 700 منزل خلال عام 2017، حيث سجّل حجم استثمار الإيرانيين في سوق السكن التركي ارتفاعًا بنسبة 866% منذ نهاية عام 2017.
وفي إحصائية ذات صلة، كشفَ مركز الإحصاء التركي أن عدد المواطنين الإيرانيين الذين هاجروا بشكل قانوني إلى تركيا عام 2018 ضعف ما كان عليه عام 2017، حيث قفزَ من 17 ألفًا و794 شخصًا إلى 31 ألفًا و922.
وبشكل عام، أظهرت إحصاءات البنك المركزي التركي أن الاستثمار الأجنبي في قطاع العقارات في البلاد بلغ 5.1 مليارات دولار العام الماضي، حيث تمَّ بيع أكثر من 59 ألف وحدة سكنية في تركيا للأجانب، بزيادة قدرها 44% مقارنة بعام 2020، ما يُعتبر رقمًا قياسيًّا جديدًا، وكان نصيب الإيرانيين فيها أكثر من 17%.
أسباب الإقبال الإيراني
ثمة أسباب كثيرة معلنة لإقبال الإيرانيين في السنوات الأخيرة على شراء وامتلاك العقارات في تركيا، من أبرزها مزايا الاستثمار العقاري في تركيا الذي يعدّ ملاذًا آمنًا للاستثمارات الإيرانية، وتوفّر بنية تحتية مميزة في الاقتصاد والسياحة مقارنة بإيران، فضلًا عن توافر الخدمات الترفيهية وفرص الحصول على الإقامة والجنسية التركية بعد شراء العقار.
كذلك ارتفاع أسعار العقارات في إيران، حيث يبلغ متوسط سعر المنزل في طهران ما يزيد عن 3 أضعاف مثيله في إسطنبول، حيث تؤكد بعض الأصوات الإيرانية أنه لا يوجد في إيران مسكن جيد للطبقة المتوسطة بسعر مناسب، في ظل ارتفاع أسعار السكن في إيران نحو 10 أضعاف في الثلاث سنوات الأخيرة.
ومن أهم أسباب اندفاع الإيرانيين لشراء المنازل في تركيا، وجود مخاوف لديهم من التراجُع المستمر في قيمة مدخراتهم، على خلفية التراجع المتواصل لقيمة الريال الإيراني بسبب العقوبات الأمريكية منذ عام 2018، حيث أظهرت البيانات الرسمية أن شراء الإيرانيين عقارات في تركيا منذ إعادة واشنطن فرض العقوبات على طهران، قفز نحو 10 أضعاف مقارنة مع عام 2017.
كما كان للإيرانيين توجُّه إيجابي نحو شراء المزيد من العقارات والمكاتب والشركات والمنازل داخل الأراضي التركية، فيما يُعتبر نوعًا من أنواع هروب استثمارات الإيرانيين من بلادهم باتجاه بلد أكثر أمنًا ونموًّا.
وتقاطعَ الهبوط الاقتصادي الإيراني مع فرص استثمارية عقارية رائدة في تركيا، مستفيدةً من حالة النشاط العمراني التركي، خاصة أن خطط التحول الحضري للعقارات في تركيا تتكلم عن التخطيط لبناء ملايين الوحدات السكنية الحديثة والمقاومة للزلازل، على حساب المنازل القديمة وغير المستوفية لشروط الأمان ضد الزلازل والكوارث.
وقد أدّت العقوبات الأمريكية، التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، على نظام طهران، ضمن ما يُعرَف بـ”حملة الضغط القصوى”، إلى إنهاء أعمال 75 ألف شركة إيرانية، وتحوُّل أعمال بعض هذه الشركات إلى تركيا.
ووفقًا لخبير عقاري تركي، إن العقوبات الأمريكية وانهيار سعر صرف الريال الإيراني والمخاوف من اندلاع الحرب، تعدّ أهم الأسباب التي أدّت إلى زيادة شراء العقارات في تركيا، حيث يختار إيرانيون شراء المنازل في تركيا لأنه يمهِّد لاحقًا لحصولهم على الجنسية التركية، لمواصلة أعمالهم المهدَّدة بسبب جنسيتهم الإيرانية.
احتلَّ الإيرانيون المرتبة الأولى متفوقين على العراقيين واليمنيين والأفغان والروس، خاصة بعد عام 2019
وقد رصدت جريدة “ذا تايمز” البريطانية إقبال الشباب الإيراني من أبناء الطبقة الثرية على مدينة وان التركية التي يعتبرونها واحة الحرية التي يتوقون إليها، كما يتوافد اليها آلاف الإيرانيين صيفًا للسياحة، غير أن الكثير منهم لا يعود ثانية إلى إيران ويبقى للاستقرار بالمدينة التركية، التي تشير التوقعات إلى أنه سيزورها أكثر من نصف مليون سائح إيراني هذا العام.
في المقابل، انتقدَ بعض أعضاء البرلمان الإيراني إقبال مواطنيهم على شراء العقارات في تركيا، معتبرين أن إنفاقهم لمليارات الدولارات في الاستثمار العقاري يمثّل كارثة للاقتصاد الإيراني المترنّح، وهروبًا لرؤوس الأموال الوطنية إلى دولة الجوار.
كما وعدت الحكومة الإيرانية بضبط أسعار العقارات لمنع خروج رؤوس الأموال وهجرة العقول، وبكبح جماح أسعار العقارات عبر بناء 4 ملايين مسكن خلال الأربع سنوات المقبلة، ومنح قروض للمتزوجين، ونشر دعاية مضادة لاستثمارات الإيرانيين في العقار التركي.
ووفق رأي بعض المحللين الإيرانيين، فإن حجم الإنفاق الضخم للإيرانيين في سوق العقار التركي يعدّ كارثة اقتصادية تُضاعِف أوجاع الاقتصاد الإيراني المثخن بالعقوبات الأمريكية، فعلى سبيل المثال بلغت الميزانية الإيرانية خلال عام 2020 أقل من 39 مليار دولار، لكن كان الحد الأدنى من رأس المال الخارج من إيران، والذي تمَّ جذبه فيما يخصّ العقارات في تركيا، حوالي 1.8 مليار دولار، أي ما يقارب الـ 5% من ميزانية العام كلها.
ورغم أن الإيرانيين يواجهون مشاكل في التحويلات المالية بسبب العقوبات الأمريكية، وعدم سماح السلطات الإيرانية بإخراج أكثر من 5 آلاف يورو في الرحلات الجوية وألفي يورو في الرحلات البرّية، إلا أن الإيرانيين يستخدمون طرقًا احتيالية، سواء عبر محال الصرافة أو شراء عملات رقمية وخاصة البيتكوين من طهران وبيعها في تركيا، أو بطرق أخرى من أهمها التهريب.
وبحسب ما يؤكّده المحلل السياسي والخبير في الشؤون الإيرانية، أسامة الهتيمي، لـ”نون بوست”، فقد لاحظ الجميع بالفعل حدوث قفزة كبيرة جدًّا في نسبة تملُّك الإيرانيين للعقارات في تركيا، إلى حد أن احتلَّ الإيرانيون المرتبة الأولى متفوقين على العراقيين واليمنيين والأفغان والروس.
وتمَّ هذا خاصة بعد عام 2019، حيث أعلن الرئيس الأمريكي السابق انسحاب بلاده من اتفاقية العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي) عام 2018، الأمر الذي أخضع إيران لحزمة كبيرة من العقوبات الاقتصادية تجاوزت الـ 3 آلاف عقوبة لتدخل البلاد من جديد في دائرة من المعاناة الاقتصادية، التي كان من أهم تبعاتها انسحاب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، كون البيئة الاقتصادية في إيران لم تَعُد مستقرة كما لم تَعُد آمنة.
ورغم أن ما سبق يمثّل دافعًا ومبررًا اقتصاديَّين مقبولَين لدى البعض، حيث يقولون: “إن رأس المال جبان”، إلا أن ثمة دوافع أخرى، فوفق حديث الهتيمي تضافرَ مع العامل الاقتصادي في الداخل الإيراني العاملُ السياسي أيضًا، فالعقوبات التي تمَّ استئنافها أعقبها بالتبعية اتخاذ حزمة من الإجراءات والقرارات السياسية التي تستهدف تشديد القبضة الأمنية وتقييد الحريات الخاصة، في مواجهة تصاعُد حالة الاحتقان الشعبي وحركة الجماهير الناقمة على تدهور الأوضاع المعيشية، ما سيؤثر بالضرورة بشكل سلبي على مناحي الحياة المختلفة، من بينها الاستثمار والرغبة في البقاء والإقامة.
كما أن الإيرانيين يندفعون نحو تركيا، بحسب الهتيمي، باعتبارها إحدى الدول المجاورة لإيران، كما أنها معبر بين قارتَي آسيا وأوروبا التي يعاني الإيرانيون في الانتقال إليها، فضلًا عن التقارُب الديني بين شعبَي الدولتَين.
الجنسية التركية
كانت الحكومة التركية قد أطلقت نظام البطاقة التركوازية المشابه لنظام البطاقة الخضراء الأمريكي عام 2016، والذي يمكّن المستثمرين من الحصول على الجنسية التركية من خلال ضخّ استثمارات في السوق التركي اعتبارًا من عام 2017، كما أقرّت تعديلات على قيمة الحد الأدنى للاستثمار للحصول على الجنسية التركية، وجعلت آنذاك الحد الأدنى للاستثمار المقبول 250 ألف دولار فقط.
يمنح جواز السفر التركي صاحبه فرصة السفر إلى نحو 72 دولة من دون تأشيرة، وهي مزايا لا يتمتّع بها من يحمل الجنسية الإيرانية وحدها
وفي المقابل، الكثير من المستثمرين ورجال الأعمال الإيرانيين وأبناء الطبقة الثرية هناك زادت معاناتهم مع العقوبات الأمريكية على إيران، ومع عجز الحكومة الإيرانية عن إدارة شؤون الدولة وانهيار العملة المحلية، ومعاناة الاقتصاد الإيراني من سوء الإدارة والفساد، وصعوبة التحويلات البنكية وانهيار العملة المحلية، واحتمالات الصدام العسكري مع الولايات المتحدة، أصبح خيار الاستقرار في تركيا أولوية بعض الإيرانيين.
وخلال عامَي 2019 و2020 حصل ما مجموعه 7500 مواطن أجنبي على الجنسية التركية عن طريق شراء العقارات، ولكن هذا الاتجاه ارتفعَ عام 2021 بشكل كبير، ففي الأشهر الستة الأولى فقط من عام 2021 حصل 10 آلاف شخص على الجنسية التركية. وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن إيران وأفغانستان والعراق واليمن والصين وفلسطين والأردن ولبنان وباكستان هي الدول التي سجّلت أعلى نسبة في هذه القائمة.
وبرأي الهتيمي، إن قوانين الاستثمار التركية ميسَّرة للغاية، وهو أمر يجذب أصحاب رؤوس الأموال خاصة أن الأسعار أيضًا منخفضة مقارنة بدول المنطقة، فضلًا عن تخفيض قيمة الضرائب العقارية وتجديد الإقامة لأصحاب الممتلكات التي تقلّ قيمتها عن 250 ألف دولار، ومنح أصحاب الممتلكات التي تزيد عن هذا المبلغ الجنسية والجواز التركيَّين بما يوفره الجواز التركي من مزايا دولية، فهو يصنَّف رقم 38 عالميًّا ويمنح صاحبه فرصة السفر إلى نحو 72 دولة من دون تأشيرة، وهي مزايا لا يتمتّع بها من يحمل الجنسية الإيرانية وحدها.
سياحة واستثمار
“الإيرانيون أُعجبوا جدًّا بالاستثمار في تركيا. وقد تحولت تركيا إلى الوجهة الأكثر إقبالًا للاستثمارات الإيرانية خلال فترة الحظر الأمريكي المفروض على إيران، والتوقعات أن يشهد هذا الاهتمام زيادة كبيرة في السنوات المقبلة”، هذا ما يؤكّده رئيس إحدى شركات خدمات الجنسية واستشارات الاستثمارات بإسطنبول، موضّحًا أن الفترة الأخيرة تشهدُ طلبًا كثيفًا على تأسيس الشركات في تركيا، قائلًا: “المستثمرون الإيرانيون يخططون للوصول إلى موانئ تصدير مختلفة عن طريق تركيا”.
وبحسب ما ذكرته وكالة “الأناضول”، فقد شهدت الخمس سنوات الماضية زيادة إقبال الإيرانيين على زيارة تركيا بغرض السياحة والاستثمار، وشهدت تركيا زيادة ملحوظة في عدد الوافدين من إيران بهدف إنشاء شركات تجارية أو شراء العقارات فيها.
ففي عام 2016 استقبلت تركيا أكثر من 51 مليون سائح أجنبي، فيما تجاوز عدد السياح الإيرانيين المليونَي سائح، حيث احتلوا المرتبة الخامسة بين مواطني الدول الأكثر زيارة لتركيا، كما بلغ عدد السياح الإيرانيين عام 2017 رقمًا قياسيًّا بوصوله إلى 2.5 مليون سائح، وانخفض العدد عام 2021 إلى 1.1 مليون بسبب تدابير فيروس كورونا، ومن المتوقع وصول نحو 2 مليون سائح إيراني لتركيا هذا العام، وذلك بمعدل صرف 693 دولارًا لكل سائح في تركيا.
ولهذا السبب اقترح مسؤولون في قطاع السياحة بتركيا مؤخرًا إلغاء الدخول بجواز السفر بين كل من إيران وتركيا، ويُظهر هذا العرض ما تجنيه تركيا من السفر والاستثمار الإيرانيَّين فيها، فتركيا المكان الأقرب جغرافيًّا للإيرانيين الذي يمكن أن يذهبوا إليه برًّا أو جوًّا بأسعار متوسطة، فضلًا عن أنهم لا يحتاجون تأشيرة سياحية لدخول الأراضي التركية، ما يجعلها وجهتهم الأولى، رغم الأوضاع الأمنية المتوترة التي تتعرض لها في الفترة الأخيرة.
كما رأى عدد كبير من الإيرانيين في تركيا وجهة مثالية، لقربها وأسعارها اللذين يناسبان قدراتهم المعيشية، كما يقصدها البعض بغرض التسوق، ولا سيما التجّار ممن يستغلون عروض هذا الفصل بالذات، فضلًا عن تقارب العادات الإيرانية والتركية كثيرًا.
وبموجب اتفاقية مبرمة بين تركيا وإيران، يمكن لمواطني البلدَين السفر دون الحاجة إلى تأشيرة، كما يمكن لهم البقاء على أراضي الدولة المجاورة لمدة 90 يومًا.
مخاوف مشروعة
رغم الأسباب المعلنة والوجيهة لتهافُت الإيرانيين نحو الاستثمار العقاري في تركيا، إلا أن حجم الأموال الضخمة التي ينفقها الإيرانيون لشراء العقارات في تركيا من أجل الاستقرار والاستثمار والجنسية يثير الكثير من المخاوف والهواجس، حول احتمالات وجود دوافع وأهداف خفية لرؤوس الأموال الإيرانية الضخمة الخارجة من بلد يعاني اقتصاديًّا، يتولى فيه الحكمَ نظامٌ صارم يمتلك أجهزة أمنية ضخمة ومتشعّبة لها يد طويلة وسطوة كبيرة داخليًّا وخارجيًّا، فليس من المستساغ أن يكون خروج أموال ضخمة تتخطى سنويًّا 5% من إجمالي موزانة الدولة الإيرانية، يتمّ بمعزل عن الحكومة وتوجيهاتها ودون رضاها ومباركتها.
رغم أن الأهداف الدينية والمذهبية للتواجد الإيراني في تركيا لم تنضج بعد، لكنها تظل قائمة تنتظر الفرصة السانحة مثلما كان هو الحال في العراق ولبنان وسوريا واليمن
وهذا الأمر تؤكّده شواهد عديدة وتجارب سابقة لإيران في العديد من العواصم والمدن العربية، حيث لا يدخل رأس المال الإيراني عبثًا، وإنما يأتي وفقًا لمخططات وأهداف تخدم مصالح الدولة الفارسية.
وما يوضِّح دور الحكومة الإيرانية في توجيه الأموال نحو تركيا، هو أن الاستثمارات الإيرانية في عقارات تركيا لم تكن وليدة اليوم أو الأمس، ولكنها تأثرت سلبًا في عامَي 2015 و2016 بتوتر العلاقات التركية الإيرانية، بسبب حساسية موقف كل من البلدَين من القضية السورية، ولكن عادت لتتحسّن في الفترة الأخيرة، ثم أخذت منحى متزايدًا بشكل لافت للانتباه.
وبينما نجح التواجد الإيراني في تحقيق أهداف طهران في بعض العواصم العربية، إلا أنه فشل في أخرى، وقطعًا تبدو السلطات التركية واعية ومدركة تمامًا لما يحمله التواجد الكثيف للإيرانيين على أراضيها من مخاطر أمنية وسياسية ودينية، غير أنها في سبيل جذب رؤوس الأموال نحو الاستثمار في الأسواق التركية، يبدو أنها تشجّع وترحّب بهذا الإقبال الإيراني، وترغب في أن تمسك العصا من المنتصف لتجنُّب ما يثيره الإيرانيون من مشكلات وقلاقل أمنية.
إلا أن الأمر لا يبدو سهلًا في ظل العمليات الإيرانية على الأراضي التركية ضد أقطاب المعارضة الإيرانية، وسقوط الكثير من الشبكات الإيرانية التي تخطط لأعمال عنف في الداخل التركي، فضلًا عن التهديدات المتبادَلة بين إيران و”إسرائيل” على الساحة التركية.
ولا تقتصر المخاوف المشروعة من التواجد الإيراني بتركيا على ما سبق، فالملف الشيعي يبقى حاضرًا ما حضرت إيران، التي تنصّب نفسها زعيمة وراعية للشيعة في كافة دول العالم، ولا تنفكّ أن تدسَّ أنفها في شؤونهم لضمان ولائهم وتأييدهم أو على الأقل تعاطفهم مع السياسات الإيرانية، ورغم أن الأهداف الدينية والمذهبية للتواجد الإيراني في تركيا لم تنضج بعد، لكنها تظل قائمة تنتظر الفرصة السانحة، مثلما كان هو الحال في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
نشر التشيُّع
في تصريح سابق لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، اتّهم إيران بالعمل على نشر التشيُّع فى سوريا والعراق، واصفًا الدور الإيراني فى المنطقة بأنه “عامل زعزعة لا استقرار”، داعيًا طهران “الكفّ عن الممارسات التى من شأنها زعزعة استقرار وتقويض أمن المنطقة”.
وفي دراسة بعنوان “أثر التدخل الإيراني في سوريا على الخريطة المذهبية”، نشرتها مجلة “الدراسات الإيرانية” الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، كشف الدكتور عبد الرحمن الحاج، الأستاذ بجامعة أنقرة، الأساليب التي اتّبعتها إيران من أجل محاولة نشر التشيُّع في كافة أنحاء سوريا منذ بداية الألفية الثالثة وقبل اندلاع الثورة السورية.
حيث اتّبعت بعض التكتيكات الشبيهة بتكريس التواجد الإيراني في تركيا، من حيث الإقبال على الإقامة في العاصمة دمشق وضواحيها، وهو ما يقابل الإقبال الإيراني على الإقامة بالعاصمة الاقتصادية لتركيا بإسطنبول، وكذلك محاولة استمالة العلويين، إضافة إلى التجنيس بهدف تغيير الواقع الديموغرافي ونشر التشيُّع بين الأغلبية السنّية.
وأكدت الدراسة أن الإيرانيين كانوا يعملون بسوريا بهدوء وثبات، محاولين التغلغل في كافة أجهزة الدولة، إلا أن الثورة السورية قد أسهمت في تسريع مخططاتهم بعد تدخلهم المباشر عبر الحرس الثوري والميليشيات الشيعية لوأد الثورة السورية.
ثمة جزء من الأموال التي يتمّ نقلها من إيران إلى تركيا لشراء العقارات هناك، كما يتمّ تهريبها برعاية الحكومة الإيرانية
ووفقًا لبعض التقديرات، فإن عدد الشيعة الأتراك يصلُ إلى ما بين مليون ومليون ونصف نسمة، يتركّز وجودهم في عدد من مدن وولايات تركيا في مقدمتها قارص، كما لهم تواجد في بعض المناطق الشعبية في إسطنبول، وكان الشيعة الأتراك حتى وقت قريب أبعد ما يكونون عن يد إيران، التي نجحت في استمالة الشيعة العرب في العراق ولبنان، وباتت جزءًا من الصراع في سوريا واليمن.
وبينما كان هناك حسينية واحدة للشيعة الإمامية في إسطنبول تابعة للقنصلية الإيرانية حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، أصبح هناك أكثر من 30 حسينية بالمدينة ذاتها، فيما تتصاعد المخاوف من احتمالات سعي طهران لتكرار سيناريو هيمنتها على المشهد العراقي واللبناني في الأراضي التركية.
ويحذّر الهتيمي في حديثه لـ”نون بوست” من قدرة إيران على توظيف مشكلاتها وأزماتها، فضلًا عن استغلال الثغرات التي يمكن أن تنفذ من خلالها لتحقيق بعض الأهداف الدينية والمذهبية، التي يمكن أن تخدم مشروعها السياسي في دول المنطقة ومدّ نفوذها إليها، كما حدث مع سوريا والعراق اللتين تمكّنت إيران فيهما من استقطاب قطاعات جماهيرية لتصبح ظهيرًا شعبيًّا لدعم المواقف والتحركات الإيرانية، بل نجحت وباقتدار في إحداث تغيير ديموغرافي ولو جزئيًّا في بعض المناطق السورية.
ولا يستبعد الهتيمي أن تسعى إيران ونتيجةً للتقارب السياسي النسبي بين كل من طهران وأنقرة، للعمل على توسيع التواجد الإيراني في بعض المناطق التركية خاصة الشرقية، بما يمثل اختراقًا شيعيًّا مهمًّا في واحدة من أكبر الدول السنّية، ما سيكون له وبلا شكّ انعكاساته المرئية على قدرة المحور السنّي من الصمود أمام المشروع الإيراني، حتى لو تأخّر ذلك بضع السنوات.
وثمة جزء من الأموال التي يتمّ نقلها من إيران إلى تركيا لشراء العقارات هناك، وفق حديث الهتيمي، يُهرَّب برعاية الحكومة الإيرانية، بهدف التواجد الشعبي الإيراني في الداخل التركي لإيجاد قطاعات شعبية موالية وتابعة في صفوف السنّة الأتراك، كظهير شعبي لإيران في الداخل التركي.
هواجس أمنية
“المدن التركية باتت تعجّ بعملاء الحكومة الإيرانية”، هذا ما خلصَ إليه تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية العام الماضي، مشيرة إلى تحول تركيا إلى جحيم للمعارضة الإيرانية جرّاء الملاحقة والمطاردة لهم من قبل نظام طهران، وخطف وقتل معارضين إيرانيين في تركيا من قبل عملاء النظام الإيراني، حيث وقعت عشرات حالات الخطف والإعادة القسرية إلى طهران، عدا عن عمليات التصفية الفورية على الأراضي التركية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، تعرّض المعارض الإيراني البارز حبيب جبر للخطف، وأُعيد قسرًا من تركيا إلى إيران، حيث تمَّ استدراجه من منزله في السويد إلى تركيا من قبل عملاء المخابرات الإيرانية، ثم قاموا بتخديره وتهريبه عبر الحدود من قبل مجموعة لتهريب المخدرات.
وبينما تتمّ معظم تلك العمليات من قبل المخابرات الإيرانية دون التنسيق مع نظيرتها التركية، فإن بعض العمليات تتمّ بالتنسيق بين الجانبَين من أجل الحفاظ على العلاقات الجيدة بين أنقرة وطهران، وطبقًا لاتفاقية تسليم المطلوبين بين الجانبَين.
الإيرانيون الحاصلون على الجنسية التركية كان لهم دور في خطف واغتيال المعارضين الإيرانيين على الأراضي التركية، ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أعلنت السلطات التركية القبض على 8 أشخاص، يوجد بينهم عميلان لإيران أحدهما يحمل الجنسية التركية، خلال محاولتهم تهريب عسكري إيراني سابق يقيم بمدينة وان التركية.
وفي فبراير/ شباط الماضي، قضت محكمة تركية باعتقال 14 شخصًا للاشتباه في تعاونهم مع المخابرات الإيرانية لتنفيذ خطط لاختطاف معارضين إيرانيين مقيمين في تركيا، حيث جرى تفكيك تلك الشبكة من قبل المخابرات وأجهزة الأمن التركية.
لا بدَّ من وجود مخاوف مشروعة تستدعي من السلطات التركية أن تبقى يقظة دائمًا ومدركة للأهداف الخفية لرؤوس الأموال الإيرانية
ومع تصاعُد التواجد الإيراني في تركيا، تحولت الأخيرة إلى ساحة للمواجهة وتصفية الحسابات بين طهران وتل أبيب، فبينما تمكّن الموساد الإسرائيلي من اغتيال عدد من أركان النظام الإيراني وعلمائه على الأراضي الإيرانية، زعمت حكومة تل أبيب أن السلطات الإيرانية تسعى للانتقام منها من خلال استهداف رعاياها السائحين والمقيمين في تركيا.
فبحسب الإعلام الإسرائيلي، أحبطت الاستخبارات التركية محاولة إيرانية لاستهداف رجل أعمال إسرائيلي على أراضي تركيا، حيث اعتقلت الاستخبارات التركية خلية مكوَّنة من 9 أفراد حاولت اغتيال رجل الأعمال يائير غيلير الذي يحمل الجنسية التركية، وذلك انتقامًا لتصفية العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده.
واستمرارًا للمواجهات الإسرائيلية الإيرانية على الأراضي التركية، أكّدت حكومة تل أبيب الشهر الجاري إحباطها محاولة إيرانية لضرب أهداف إسرائيلية في تركيا، وأعقب ذلك دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي الإسرائليين إلى عدم السفر إلى تركيا، ومطالبة الموجودين هناك بالعودة فورًا إلى تل أبيب، وسط تهديدات متبادَلة بين السلطات الإسرائيلية والإيرانية.
ووفق ما أكّده الهتيمي، كان في بعض الأحيان هناك تنسيق بين الدولتَين، خاصة فيما يتعلق بالقبض على أقطاب المعارضة الإيرانية في الداخل التركي أو اغتيال البعض، في ظل وجود تنسيق مخابراتي بين البلدَين، لكن الهتيمي يستدرك مؤكّدًا أن هناك بعض العمليات التي تتمّ بعيدًا عن أعين المخابرات التركية بواسطة المخابرات الإيرانية وبالتنسيق مع بعض العصابات التركية، كما تمَّ اختطاف بعض المعارضين خاصة الأحوازيين، حيث يتمّ استدراجهم إلى تركيا ثم اختطافهم ونقلهم إلى العراق وإيران بشكل مباشر لمحاكمتهم.
وبحسب معلومات المحلل الإيراني، فإن تركيا بدأت تتّخذ إجراءات تتحفّظ فيها على هذا التواجد الإيراني المكثّف، لكنها تحاول احتواء تلك الأزمة وتداعياتها بشكل هادئ، فالعلاقات التركية الإيرانية تتّسم بالهدوء الظاهري حاليًّا، لكن التوتر يشوبها في الخفاء، فثمة خلافات عميقة بين البلدَين في العديد من الملفات على رأسها المياه والسدود والملف السوري والحكومة المركزية العراقية.
وختامًا، إن الكثير من القضايا ذات أوجُه كثيرة وأبعاد متعددة، ولعلّ قضية التواجد الإيراني الكثيف والإقبال المتزايد على شراء العقارات في تركيا من القضايا الجدلية التي من شأنها تشجيع وزيادة رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية في الأراضي التركية، لكنها تحمل في طياتها الكثير من الهواجس والمخاوف المشروعة التي تستدعي من السلطات التركية أن تبقى يقظة دائمًا، ومدركة للأهداف الخفية لرؤوس الأموال الإيرانية.