ترجمة حفصة جودة
عادة ما ينتج عن إجراء مسح كامل للدماغ المصابة، خريطة للخسائر التي لا يمكن إصلاحها، ما يكشف عن المناطق التي تسبب فيها الضرر بصعوبات في الذاكرة أو رعشة وغيرهم.
لكن في حالات نادرة، يكشف هذا المسح العكس تمامًا، إذ يكشف مناطق في الدماغ أدت الإصابة بأعجوبة إلى الحد من أعراض شخص ما، ما يمنح العلماء أدلة على احتمالية قدرتهم تحقيق الأمر ذاته.
يقوم فريق من الباحثين الآن بالنظر إلى مجموعة جديدة من الصور الدماغية لمدخني سجائر مدمنين للنيكوتين، لكن السكتة الدماغية أو إصابات أخرى ساعدتهم على الإقلاع عن التدخين بشكل عفوي.
قال العلماء إن النتائج أظهرت شبكة من مناطق الدماغ المترابطة التي يُعتقد أنها تعزز الاضطرابات الإدمانية التي تؤثر على عشرات ملايين المدخنين.
تدعم الدراسة – التي نُشرت في المجلة العلمية “Nature Medicine” – الفكرة التي جذبت الانتباه مؤخرًا وتقول إن الإدمان لا يوجد في منطقة واحدة من الدماغ، لكنه بالأحرى عبارة عن حلقة من المناطق المتصلة بألياف عصبية.
ربما تمنحنا النتائج رؤية أوضح للمناطق المستهدفة لعلاج الإدمان التي ستستقبل النبضات الكهربائية في الدماغ، وهي تقنيات جديدة أظهرت نتائج واعدة في مساعدة الناس على الإقلاع عن الإدمان.
يقول الدكتور جوهو جوستا أحد مؤلفي الدراسة وأستاذ الأمراض العصبية بجامعة توركو في فنلندا: “من أكبر المشاكل التي كانت تواجه علاج الإدمان، أننا لا نعلم بالفعل في أي المناطق في الدماغ تكمن المشكلة الرئيسية لنستهدفها بالعلاج، لذا نأمل بعد ذلك أن يكون لدينا فكرة جيدة عن تلك المناطق والشبكات”.
كانت الأبحاث خلال العقدين الماضيين متمسكة بفكرة أن الإدمان مرض في الدماغ، لكن الكثير من الناس كانوا يعتقدون أن الإدمان أمر اختياري.
قال بعض الخبراء المستقلين إن الدراسة الأخيرة إثبات قوي واستثنائي لدور الدماغ في إدمان المخدرات، فمن بين المدخنين الذين أُصيبوا بسكتة دماغية أو إصابات أخرى في الدماغ، كان هؤلاء الذين تعرضوا لإصابة في شبكة عصبية معينة، قد كشفوا عن تخصلهم الفوري من هذا الإدمان.
تمكن الباحثون من تحديد شبكة من مناطق الدماغ المتصلة التي سببت فيها الإصابات تخلصًا فوريًا من الإدمان وشبكات أخرى لم تؤثر بها الإصابات
كرر الباحثون تلك النتائج على مجموعة منفصلة من المرضى المصابين في أدمغتهم ممن أنهوا تقييم مخاطر الكحول، فاتضح أن شبكة الدماغ المرتبطة بانخفاض خطر إدمان الكحول مشابهة لتلك المسؤولة عن الحد من إدمان النيكوتين، ما يشير إلى أن تلك الحلقة تخفي ورائها مجموعة أوسع من التبعات.
يقول توماس مكليلان الأستاذ الفخري للطب النفسي بجامعة بنسلفانيا ونائب المدير السابق لمكتب السياسة الوطنية لمكافحة المخدرات: “أعتقد أن هذه الدراسة ستكون من أكثر المنشورات تأثيرًا، ليس فقط لهذا العام بل للعقد القادم، إنها تنهي الكثير من الصور النمطية التي ما زالت منتشرة في مجال الإدمان: أن الإدمان سوء تربية أو ضعف في الشخصية أو نقص في الأخلاق”.
في السنوات الأخيرة، تمكنت سلسلة من الدراسات تحديد مناطق معينة في الدماغ ترتبط فيها الإصابة بالتخلص من الإدمان، لكن النقاط المستهدفة كانت تتغير باستمرار.
يقول دكتور حامد اختياري خبير علاجات الإدمان بمعهد لوريت لأبحاث الدماغ بمدينة تلسا، ولاية أوكلاهوما: “لم يُظهر الناس اتساقًا في المناطق المعنية”.
في الدراسة الجديدة طور دكتور جوستا تقنيات إحصائية متطورة لمجموعة قديمة من صور الدماغ لمدخنين في ولاية آيوا ممن عانوا من إصابات عصبية، يقول تحليل مبكر لتلك الصور إن المرضى المصابين بأضرار في الإنسولا (القشرة الجزيرية) – منطقة في الدماغ ترتبط بالوعي – أصبحوا أكثر عرضة للإقلاع عن التدخين.
لكن عند رجوع دكتور جوستا إلى نفس صور المسح ومراجعتها قطعة تلو الأخرى، لاحظ أن بعض المرضى الذين لم يتعرضوا لإصابة في الإنسولا فقدوا أيضًا رغبتهم في التدخين، إذ يقول: “كان هناك ما يتعلق بالإنسولا لكنه ليس الوضع بأكمله”.
عمل دكتور جوستا مع الدكتور مايكل فوكس – أستاذ مساعد في علم الأعصاب بكلية هارفرد للطب -، في فحص مجموعة ثانية من صور المسح الدماغي للمدخنين الذين أُصيبوا بسكتة دماغية في مدينة روشيستر بنيويورك، إذ فحصا 129 حالةً.
كافح الفريق للعثور على مناطق فردية في الدماغ حيث تساعد الإصابة بشكل أكيد على إقلاع المرضى عن التدخين، بدلًا من ذلك، توصل الباحثون إلى رسوم بيانية قياسية لوصلات الدماغ التي توضح كيف أن نشاطًا في منطقة يرتبط بنشاط في منطقة أخرى.
فجأة، تمكن الباحثون من تحديد شبكة من مناطق الدماغ المتصلة التي سببت فيها الإصابات تخلصًا فوريًا من الإدمان وشبكات أخرى لم تؤثر بها الإصابات.
باستخدام تحفيز كهربائي لسطح رأس المريض أو استخدام طرق أكثر اجتياحًا مثل التحفيز الدماغي العميق، يمكن للأطباء كبح النشاط في مناطق معينة لمحاكاة تأثير الإصابة وإثارة نشاط مناطق أخرى
يقول دكتور فوكس: “ما اكتشفناه خلال تلك المجالات المختلفة أن أهدافنا العلاجية ليست مناطق دماغية كما كنا نعتقد، لكنها حلقات مرتبطة بالدماغ، وإذا وضعنا في الحسبان طريقة اتصال الدماغ، سيمكننا تحسين العلاج”.
لكن الدراسة لم تضع في حسبانها أن الحياة المنزلية للمرضي – مثل مرات تعرضهم للسجائر – قد تؤثر على عاداتهم، فقد اعتقدوا أن المرضى تخلصوا من إدمانهم بعد إصابتهم فورًا، حيث أفادوا أنه لم يعد لديهم رغبة في التدخين ولم يعودوا من حيث ما بدأوا.
لكن الباحثين نظروا رغم ذلك في احتمالية وجود تغييرات أخرى مرتبطة بالإصابة – مثل الذكاء أو المزاج العام – قد تساعد في تفسير اختفاء الحاجة إلى النيكوتين في بعض المرضى، لكنهم في النهاية لم يجدوا شيئًا.
قال خبراء من خارج الدراسة إن شبكات الدماغ التي تعرفت إليها الدراسة، مألوفة لديهم من بحث سابق، درس دكتور مارتيجن فيجي – الطبيب النفسي بمركز الدوائر العلاجية المتقدمة بمستشفى ماونت سيناي في مانهاتن – كيف يمكن للنبضات الكهربائية المرسلة إلى الدماغ علاج اضطراب الوسواس القهري والاكتئاب والإدمان.
فقد قال إن الإدمان بشكل عام مرتبط بقلة نشاط دوائر التحكم المعرفي في الدماغ وزيادة نشاط الدوائر المرتبطة بالمكافأة.
باستخدام تحفيز كهربائي لسطح رأس المريض أو استخدام طرق أكثر اجتياحًا مثل التحفيز الدماغي العميق، يمكن للأطباء كبح النشاط في مناطق معينة لمحاكاة تأثير الإصابة وإثارة نشاط مناطق أخرى.
حددت الدارسة منطقة تُسمى “القشرة الجبهية الأمامية الوسطى” (باحة برودمان)، التي بدا أنها مرشح جيد للتحفيز المثير، فهذه المنطقة تتداخل مع هدف العلاج الذي وافق عليه مؤخرًا المنظمون في أمريكا لمساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين.
يستخدم العلاج سلكًا كهرومغناطيسيًا ملفوفًا يُوضع على فروة رأس المريض لإرسال نبضات كهربائية لسطح الدماغ، تتضمن تقنيات أخرى زراعة أقطاب كهربائبة في مناطق معينة بالدماغ أو إلغاء نشاط مناطق معينة في الدماغ بشكل مستمر.
يقول دكتور فيجي: “هذه الورقة البحثية مثيرة حقًا، فهي تشير إلى أهداف واضحة للعلاج”.
في السنوات الأخيرة كان التركيز على نموذج الإدمان المرتبط الدماغ قد حوّل التركيز والمال عن الأبحاث التي تعالج العوامل الاجتماعية والبيئة المساهمة في الإدمان
ورغم أن تحفيز الدماغ أصبح أمرًا شائعًا لعلاج الاكتئاب والوسواس القهري، فإن استخدام تلك العلاجات للإدمان كان بطيئًا، يقول الباحثون إن الأمر سيستغرق سنوات لصقل تلك التقنيات.
ورغم أن الدراسات أظهرت أن هذا التحفيز الكهربائي أو المغناطيسي يمكنه الحد من إدمان المخدرات، فليس واضح بعد كم يدوم تأثيره، كما أن بعض الأهداف الواعدة تقع عميقًا في الدماغ، ما يعني أن الوصول إليهم يتطلب تحفيزًا دماغيًا عميقًا أو نوعًا معينًا من الأسلاك الموصلة الملفوفة التي أصبحت متاحة مؤخرًا فقط.
يقول العلماء أيضًا إن معرفة مناطق التحفيز المباشرة في الدماغ لا يحل مشكلة استخدام التردد الصحيح، كما أن الروابط تختلف باختلاف أدمغة الناس، ما يثير احتمالية الحاجة إلى علاجات مخصصة.
يقول الباحثون أيضًا إن المدمنين كانوا أبطأ في تبني تحفيز الدماغ عن المصابين بالاكتئاب أو اضطرابات الحركة، ما يعكس جزئيًا عدم التفكير في الإدمان كاضطراب دماغي.
هناك أيضًا تحديات هيكلية، فقد وظّفت جودي لوجيس – أستاذ مساعد الطب النفسي بالمراكز الطبية لجامعة أمسترادم – مجموعة من آلاف المرضى بمراكز علاج الإدمان في هولندا لدراسة التحفيز الدماغي العميق، وخلال 3 سنوات لم يبدأ التجربة سوى مريضين فقط.
كتبت لوجيس وزملاؤها أن مرضى إدمان المخدرات تجنبوا الإجراء جزئيًا لأن حافز علاج المرض لديهم متقلب أكثر من مرضى الوسواس القهري، وانعدام الاستقرار المصاحب لإدمان المخدرات يجعل الاستثمار في العلاجات طويلة الوقت أمرًا أكثر صعوبة، فثلث المرضى فقط أحضروا فردًا من العائلة أو صديق معهم في موعدهم مع فريق البحث.
يعمل العلماء على معالجة تلك المشاكل، فعلى سبيل المثال قام فريق الإدمان بمستشفى ماونت سيناي بإدارة التحفيز الدماغي السطحي للمرضي في المنازل أو المراكز المجتمعية بدلًا من المستشفيات للحد من معوقات العلاج.
لكن رغم أن الدماغ قد يكون النقطة المحورية لعلاج الإدمان، فإن دكتور لوجيس تقول إنها ليست النقطة الأكثر أهمية غالبًا، فقد قال العديد من العلماء أيضًا إنه في السنوات الأخيرة كان التركيز على نموذج الإدمان المرتبط الدماغ قد حوّل التركيز والمال عن الأبحاث التي تعالج العوامل الاجتماعية والبيئة المساهمة في الإدمان.
وتضيف “لقد بذلنا الكثير من المال والطاقة والآمال في جانب واحد، ولا أعلم إذا كان ذلك سيؤتي ثماره بالطريقة التي نتوقعها”.
المصدر: نيويورك تايمز